الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَكَيْفَ حَالُهُ. وَجَعَلَ يَسْتَفْتِيهِ فِي أَمْوَالِ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ فَلَا يُجِيبُ بِشَيْءٍ، ثُمَّ إِنَّ المتوكل أخرج ابن أبى دؤاد من سرمن رَأَى إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ أَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ نَفْسَهُ بِبَيْعِ ضِيَاعِهِ وَأَمْلَاكِهِ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِ كُلِّهَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: وَحِينَ رَجَعَ أبى من سامرا وَجَدْنَا عَيْنَيْهِ قَدْ دَخَلَتَا فِي مُوقَيْهِ، وَمَا رَجَعَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ إِلَّا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَامْتَنَعَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ قَرَابَتِهِ أَوْ يَدْخُلَ بَيْتًا هُمْ فِيهِ أَوْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ مِمَّا هُمْ فِيهِ لِأَجْلِ قَبُولِهِمْ أَمْوَالَ السُّلْطَانِ.
وَكَانَ مَسِيرُ أَحْمَدَ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، ثُمَّ مَكَثَ إِلَى سَنَةِ وَفَاتِهِ وكل يوم إلا ويسأل عنه المتوكل ويوفد إِلَيْهِ فِي أُمُورٍ يُشَاوِرُهُ فِيهَا، وَيَسْتَشِيرُهُ فِي أَشْيَاءَ تَقَعُ لَهُ. وَلَمَّا قَدِمَ الْمُتَوَكِّلُ بَغْدَادَ بَعَثَ إِلَيْهِ ابْنَ خَاقَانَ وَمَعَهُ أَلْفُ دِينَارٍ لِيُفَرِّقَهَا عَلَى مَنْ يَرَى، فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا وَتَفْرِقَتِهَا، وَقَالَ:
إِنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَعْفَانِي مِمَّا أَكْرَهُ فَرَدَّهَا. وَكَتَبَ رَجُلٌ رُقْعَةً إِلَى المتوكل يقول: يا أمير المؤمنين إن أحمد يَشْتُمُ آبَاءَكَ وَيَرْمِيهِمْ بِالزَّنْدَقَةِ. فَكَتَبَ فِيهَا الْمُتَوَكِّلُ: أَمَّا الْمَأْمُونُ فَإِنَّهُ خَلَطَ فَسَلَّطَ النَّاسَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَمَّا أَبِي الْمُعْتَصِمُ فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلَ حَرْبٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَصَرٌ بِالْكَلَامِ، وَأَمَّا أَخِي الْوَاثِقُ فَإِنَّهُ اسْتَحَقَّ مَا قِيلَ فِيهِ. ثم أمر أن يضرب الرَّجُلُ الَّذِي رَفَعَ إِلَيْهِ الرُّقْعَةَ مِائَتَيْ سَوْطٍ، فأخذه عبد الله بن إسحاق ابن إِبْرَاهِيمَ فَضَرَبَهُ خَمْسَمِائَةِ سَوْطٍ. فَقَالَ لَهُ الْخَلِيفَةُ: لِمَ ضَرَبْتَهُ خَمْسَمِائَةِ سَوْطٍ؟ فَقَالَ: مِائَتَيْنِ لِطَاعَتِكَ ومائتين لطاعة الله، وَمِائَةً لِكَوْنِهِ قَذَفَ هَذَا الشَّيْخَ الرَّجُلَ الصَّالِحَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ.
وَقَدْ كَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَى أَحْمَدَ يَسْأَلُهُ عَنِ الْقَوْلِ فِي الْقُرْآنِ سُؤَالَ اسْتِرْشَادٍ وَاسْتِفَادَةٍ لَا سُؤَالَ تَعَنُّتٍ وَلَا امْتِحَانٍ وَلَا عِنَادٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ رحمه الله رِسَالَةً حَسَنَةً فِيهَا آثَارٌ عَنِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ. وَقَدْ أَوْرَدَهَا ابْنُهُ صَالِحٌ فِي الْمِحْنَةِ الَّتِي سَاقَهَا، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْهُ، وَقَدْ نقلها غير واحد من الحفاظ
.
ذكر وفاة الامام أحمد بن حنبل
قَالَ ابْنُهُ صَالِحٌ: كَانَ مَرَضُهُ فِي أَوَّلِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَحْمُومٌ يَتَنَفَّسُ الصُّعَدَاءَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَقُلْتُ:
يَا أَبَتِ مَا كَانَ غَدَاؤُكَ؟ فَقَالَ: ماء الباقلاء. ثم إن صالحا ذَكَرَ كَثْرَةَ مَجِيءِ النَّاسِ مِنَ الْأَكَابِرِ وَعُمُومِ الناس لعيادته وكثرة حرج النَّاسِ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَعَهُ خُرَيْقَةٌ فِيهَا قُطَيْعَاتٌ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهَا، وَقَدْ أَمَرَ وَلَدَهُ عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يُطَالِبَ سُكَّانَ مِلْكِهِ وَأَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، فَأَخَذَ شَيْئًا مِنَ الْأُجْرَةِ فَاشْتَرَى تَمْرًا وَكَفَّرَ عَنْ أَبِيهِ، وَفَضَلَ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمٍ. وَكَتَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَصِيَّتَهُ:
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1، هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، أَوْصَى أَنَّهُ يُشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. وَأَوْصَى مَنْ أَطَاعَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَقَرَابَتِهِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ فِي الْعَابِدِينَ، وَأَنْ يَحْمَدُوهُ فِي
الحامدين، وأن ينصحوا الجماعة الْمُسْلِمِينَ، وَأُوصِي أَنِّي قَدْ رَضِيتُ باللَّه رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَأُوصِي لِعَبْدِ اللَّهِ بن محمد المعروف ببوران على نحو من خمسين دينارا وهو مصدق فيها فيقضى ماله عَلَيَّ مِنْ غَلَّةِ الدَّارِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا اسْتُوْفِيَ أُعْطِي وَلَدُ صَالِحٍ كُلُّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ.
ثُمَّ اسْتَدْعَى بِالصِّبْيَانِ مَنْ وَرَثَتِهِ فَجَعَلَ يَدْعُو لَهُمْ، وَكَانَ قَدْ وُلِدَ لَهُ صَبِيٌّ قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسِينَ يَوْمًا فَسَمَّاهُ سَعِيدًا، وَكَانَ لَهُ وَلَدٌ آخَرُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ قد مشى حين مرض فدعا، فَالْتَزَمَهُ وَقَبَّلَهُ ثُمَّ قَالَ: مَا كُنْتُ أَصْنَعُ بِالْوَلَدِ عَلَى كِبَرِ السِّنِّ؟ فَقِيلَ لَهُ: ذُرِّيَّةٌ تكون بعدك يدعون لك. قال وذاك إن حصل. وجعل يحمد الله تعالى. وَقَدْ بَلَغَهُ فِي مَرَضِهِ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ كان يكره أنين المريض فَتَرَكَ الْأَنِينَ فَلَمْ يَئِنَّ حَتَّى كَانَتِ اللَّيْلَةُ التي توفى في صبيحتها أنّ، وَكَانَتْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَنَّ حِينَ اشْتَدَّ به الْوَجَعُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ ويروى عن صالح أيضا أنه قال:
حين احتضر أبى جَعَلَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: لَا بَعْدُ، لَا بعد، فقلت: يا أبة ما هذه اللفظة التي تلهج بِهَا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّ إِبْلِيسَ وَاقِفٌ فِي زَاوِيَةِ الْبَيْتِ وَهُوَ عَاضٌّ عَلَى أُصْبُعِهِ وَهُوَ يَقُولُ: فُتَّنِي يَا أَحْمَدُ؟ فَأَقُولُ لَا بَعْدُ لَا بَعْدُ- يَعْنِي لا يفوته حتى تخرج نفسه مِنْ جَسَدِهِ عَلَى التَّوْحِيدِ- كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ قَالَ إِبْلِيسُ: يَا رَبِّ وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ مَا أَزَالُ أُغْوِيهِمْ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ. فقال الله: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَلَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي.
وَأَحْسَنُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَهْلِهِ أَنْ يُوَضِّئُوهُ فَجَعَلُوا يُوَضِّئُونَهُ وَهُوَ يُشِيرُ إِلَيْهِمْ أَنْ خَلَّلُوا أَصَابِعِي وَهُوَ يذكر الله عز وجل في جميع ذلك، فلما أكملوا وضوءه تُوُفِّيَ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ. وَقَدْ كَانَتْ وفاته يوم الجمعة حين مضى منه نحو من ساعتين، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ فِي الشَّوَارِعِ وَبَعَثَ مُحَمَّدُ بْنُ طاهر حاجبه ومعه غلمان ومعهم مَنَادِيلَ فِيهَا أَكْفَانٌ، وَأَرْسَلَ يَقُولُ: هَذَا نِيَابَةً عَنِ الْخَلِيفَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَبَعَثَ بِهَذَا. فَأَرْسَلَ أَوْلَادُهُ يَقُولُونَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ قَدْ أَعْفَاهُ فِي حَيَاتِهِ مِمَّا يَكْرَهُ وأبوا أن يكفنوه بتلك الأكفان، وأتى بثوب كان قد غزلته جاريته فكفنوه وَاشْتَرَوْا مَعَهُ عَوَزَ لِفَافَةٍ وَحَنُوطًا، وَاشْتَرَوْا لَهُ راوية ماء وامتنعوا ان يغسلوه بماء بُيُوتِهِمْ، لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ هَجَرَ بُيُوتَهُمْ فَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا وَلَا يَسْتَعِيرُ مَنْ أَمْتِعَتِهِمْ شَيْئًا، وَكَانَ لَا يَزَالُ مُتَغَضِّبًا عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ مَا رُتِّبَ لَهُمْ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَهُوَ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ. وكان لهم عيال كثيرة وهم فَقُرَاءَ. وَحَضَرَ غُسْلَهُ نَحْوٌ مِنْ مِائَةٍ مِنْ بَيْتِ الْخِلَافَةِ مَنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَجَعَلُوا يُقَبِّلُونَ بين عينيه ويدعون له ويترحمون عليه رحمه الله. وَخَرَجَ النَّاسُ بِنَعْشِهِ وَالْخَلَائِقُ حَوْلَهُ مِنَ الرِّجَالِ والنساء ما لم يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ، وَنَائِبُ الْبَلَدِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ وَاقِفٌ فِي جملة الناس، ثم تقدم فَعَزَّى أَوْلَادَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِيهِ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي أَمَّ النَّاسَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أعاد جماعة الصلاة عليه عند القبر وعلى القبر بعد أن دفن من أجل