الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَسَارُوا إِلَيْهَا، فَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَهَا قُدُومُهُمْ خَرَجُوا إِلَيْهِمْ فِي أُلُوفٍ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، فَقَالَ لَهُمُ الحسين بْنُ مُعَاوِيَةَ:
عَلَامَ تُقَاتِلُونَ وَقَدْ مَاتَ أَبُو جعفر؟ فَقَالَ السَّرِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ زَعِيمُ أَهْلِ مَكَّةَ: إِنَّ بُرُدَهُ جَاءَتْنَا مِنْ أَرْبَعِ لَيَالٍ وقد أرسلت إليه كتابا فَأَنَا أَنْتَظِرُ جَوَابَهُ إِلَى أَرْبَعٍ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُونَ حَقًّا سَلَّمْتُكُمُ الْبَلَدَ وَعَلَيَّ مُؤْنَةُ رِجَالِكُمْ وَخَيْلِكُمْ. فَامْتَنَعَ الْحَسَنُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنَ الِانْتِظَارِ وَأَبَى إِلَّا الْمُنَاجَزَةَ، وَحَلَفَ لَا يَبِيتُ اللَّيْلَةَ إِلَّا بِمَكَّةَ، إِلَّا أَنْ يَمُوتَ. وَأَرْسَلَ إِلَى السَّرِيِّ أَنِ ابْرُزْ مِنَ الْحَرَمِ إِلَى الْحِلِّ حَتَّى لَا تُرَاقَ الدِّمَاءُ فِي الْحَرَمِ. فلم يخرج، فتقدموا إليهم فصافّوهم فحمل عليه الحسن وأصحابه حملة واحدة فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ نَحْوَ سَبْعَةٍ، وَدَخَلُوا مَكَّةَ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا خَطَبَ الْحَسَنُ بْنُ مُعَاوِيَةَ النَّاسَ وأغراهم بأبي جعفر، ودعاهم إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ المهدي.
ذكر خروج أخيه إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ
وَظَهَرَ بِالْبَصْرَةِ أَيْضًا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حسن، وجاء البريد إلى أخيه محمد فَانْتَهَى إِلَيْهِ لَيْلًا فَاسْتُؤْذِنَ لَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ بِدَارِ مَرْوَانَ فَطَرَقَ بَابَهَا. فَقَالَ: اللَّهمّ إِنِّي أعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمان. ثم خرج فأخبر أصحابه عن أخيه فاستبشروا جدا وفرحوا كثيرا، وكان يقول للناس بعد صلاة الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ: ادْعُوا اللَّهَ لِإِخْوَانِكُمْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وللحسين ابن معاوية بمكة، واستنصروه على أعدائكم.
وأما ما كان من المنصور فأنه جهز الجيوش إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، صحبة عيسى بن موسى عشرة آلَافِ فَارِسٍ مِنَ الشُّجْعَانِ الْمُنْتَخَبِينَ، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بن أبى العباس السفاح وجعفر بن حنظلة البهراني، وحميد بن قحطبة، وَكَانَ الْمَنْصُورُ قَدِ اسْتَشَارَهُ فِيهِ فَقَالَ: يَا أمير المؤمنين ادع بمن شئت ممن تثق به من مواليك فابعث بهم إلى وادي القرى يمنعونهم من مِيرَةَ الشَّامِ، فَيَمُوتُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ جُوعًا، فَإِنَّهُ بِبَلَدٍ لَيْسَ فِيهِ مَالٌ وَلَا رِجَالٌ وَلَا كُرَاعٌ وَلَا سِلَاحٌ. وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ كثير بن الحصين العبديّ وقد قال الْمَنْصُورُ لِعِيسَى بْنِ مُوسَى حِينَ وَدَّعَهُ: يَا عيسى! إني أبعثك إلى جَنْبَيَّ هَذَيْنِ، فَإِنْ ظَفِرْتَ بِالرَّجُلِ فَشِمْ سَيْفَكَ وَنَادِ فِي النَّاسِ بِالْأَمَانِ. وَإِنْ تَغَيَّبَ فَضَمِّنْهُمْ إِيَّاهُ حَتَّى يَأْتُوكَ بِهِ، فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ بِمَذَاهِبِهِ. وكتب معه كتبا إِلَى رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَدْفَعُهَا إِلَيْهِمْ خُفْيَةً يَدْعُوهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ. فَلَمَّا اقْتَرَبَ عِيسَى بْنُ مُوسَى مِنَ المدينة بعث الكتب مع رجل فأخذه حرس محمد بن عبد الله بن حسن فَوَجَدُوا مَعَهُ تِلْكَ الْكُتُبَ فَدَفَعُوهَا إِلَى مُحَمَّدٍ فاستحضر جماعة من أولئك فعاقبهم وضربهم ضربا شديدا وقيدهم قيودا ثِقَالًا، وَأَوْدَعَهُمُ السِّجْنَ. ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّدًا اسْتَشَارَ أصحابه بالقيام بِالْمَدِينَةِ حَتَّى يَأْتِيَ عِيسَى بْنُ مُوسَى فَيُحَاصِرَهُمْ بها، أو أنه يَخْرُجَ بِمَنْ مَعَهُ فَيُقَاتِلَ أَهْلَ الْعِرَاقِ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ أَشَارَ بِهَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَشَارَ بِذَاكَ، ثُمَّ اتَّفَقَ الرَّأْيُ عَلَى الْمُقَامِ بِالْمَدِينَةِ، لِأَنَّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم ندم يوم أحد على الخروج منها، ثم اتفقوا على حَفْرِ خَنْدَقٍ حَوْلَ الْمَدِينَةِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَحْزَابِ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَحَفَرَ مَعَ النَّاسِ فِي الْخَنْدَقِ بِيَدِهِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ لَبِنَةٌ من الخندق الّذي حَفَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ففرحوا بذلك وَكَبَّرُوا وَبَشَّرُوهُ بِالنَّصْرِ. وَكَانَ مُحَمَّدٌ حَاضِرًا عَلَيْهِ قَبَاءٌ أَبْيَضُ وَفِي وَسَطِهِ مِنْطَقَةٌ، وَكَانَ شَكِلًا ضَخْمًا أَسْمَرَ عَظِيمَ الْهَامَةِ.
وَلَمَّا نَزَلَ عِيسَى بْنُ مُوسَى الْأَعْوَصُ وَاقْتَرَبَ مِنَ الْمَدِينَةِ، صَعِدَ محمد بن عبد الله المنبر فخطب الناس وحثهم على الجهاد- وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ- فَقَالَ لَهُمْ فِي جُمْلَةِ مَا قَالَ: إِنِّي جَعَلْتُكُمْ فِي حل من بيعتي، فمن أحب منتكم أن يقيم عليها فعل. ومن أحب أن يتركها فعل. فتسلل كثير منهم أو أكثرهم عنه، ولم يبق إلا شرذمة قليلة معه، وَخَرَجَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِأَهْلِيهِمْ مِنْهَا لِئَلَّا يَشْهَدُوا الْقِتَالَ بِهَا، فَنَزَلُوا الْأَعْرَاضَ وَرُءُوسَ الْجِبَالِ. وقد بعث محمد أبا الليث لِيَرُدَّهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ فِي أكثرهم، واستمروا ذاهبين. وقال مُحَمَّدٌ لِرَجُلٍ أَتَأْخُذُ سَيْفًا وَرُمْحًا وَتَرُدُّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ إِنْ أعطيتنى رمحا أطعنهم وهم بالأعراض، وسيفا أضربهم وَهُمْ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ فَعَلْتُ. فَسَكَتَ مُحَمَّدٌ ثم قال لي: وَيْحَكَ؟ إِنَّ أَهْلَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ قَدْ بَيَّضُوا يَعْنِي لَبِسُوا الْبَيَاضَ- مُوَافَقَةً لِي وَخَلَعُوا السواد فقال: وماذا يَنْفَعُنِي أَنْ لَوْ بَقِيَتِ الدُّنْيَا زُبْدَةً بَيْضَاءَ- وَأَنَا فِي مِثْلِ صُوفَةِ الدَّوَاةِ، وَهَذَا عِيسَى بْنُ مُوسَى نَازِلٌ بِالْأَعْوَصِ. ثُمَّ جَاءَ عِيسَى بن موسى فنزل قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ، عَلَى مِيلٍ مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ دَلِيلُهُ ابْنُ الْأَصَمِّ: إِنِّي أَخْشَى إِذَا كَشَفْتُمُوهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ سَرِيعًا قَبْلَ أَنْ تُدْرِكَهُمُ الْخَيْلُ. ثُمَّ ارْتَحَلَ بِهِ فَأَنْزَلَهُ الْجَرْفَ عَلَى سِقَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ يَوْمَ السبت لصبح اثنتي عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ: إِنَّ الرَّاجِلَ إِذَا هَرَبَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْهَرْوَلَةِ أَكْثَرَ مِنْ مِيلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَتُدْرِكُهُ الْخَيْلُ.
وَأَرْسَلَ عِيسَى بْنُ مُوسَى خَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ فَنَزَلُوا عِنْدَ الشَّجَرَةِ فِي طَرِيقِ مكة، وقال لهم هَذَا الرَّجُلَ إِنْ هَرَبَ فَلَيْسَ لَهُ مَلْجَأٌ إلا مكة، فحولوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. ثُمَّ أَرْسَلَ عِيسَى إِلَى مُحَمَّدٍ يدعوه إلى السمع والطاعة لأمير المؤمنين المنصور، وأنه قد أعطاه الأمان له ولا هل بيته إن هو أجابه. فَقَالَ مُحَمَّدٌ لِلرَّسُولِ: لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكَ. ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى يَقُولُ لَهُ: إِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى كِتَابِ الله وسنة رسوله، فَاحْذَرْ أَنْ تَمْتَنِعَ فَأَقْتُلَكَ فَتَكُونَ شَرَّ قَتِيلٍ، أو تقتلني فتكون قتلت من دعاك إلى الله ورسوله. ثُمَّ جَعَلَتِ الرُّسُلُ تَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، هذا يدعو هذا، وهذا يدعو هذا.
وجعل عيسى بن موسى يَقِفُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الثَّنِيَّةِ عِنْدَ سَلْعٍ فَيُنَادِي: يَا أهل المدينة إن دماءكم علينا حرام فمن جاءنا فوقف تحت رايتنا فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَلَيْسَ لَنَا فِي قِتَالِكُمْ أَرَبٌ، وَإِنَّمَا نُرِيدُ مُحَمَّدًا
وَحْدَهُ لِنَذْهَبَ بِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ. فَجَعَلُوا يَسُبُّونَهُ وينالون من أمه، ويكلمونه بكلام شنيع، ويخاطبونه مخاطبة فظيعة. وقالوا له: هَذَا ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم معنا ونحن معه، نقاتل دُونَهُ.
فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ أَتَاهُمْ فِي خَيْلٍ وَرِجَالٍ وَسِلَاحٍ وَرِمَاحٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، فَنَادَاهُ يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَنِي أن لا أقاتلك حتى أدعوك إلى الطاعة، فَإِنْ فَعَلْتَ أَمَّنَكَ وَقَضَى دَيْنَكَ وَأَعْطَاكَ أَمْوَالًا وَأَرَاضِيَ، وَإِنْ أَبَيْتَ قَاتَلْتُكَ فَقَدْ دَعَوْتُكَ غَيْرَ مَرَّةٍ. فَنَادَاهُ مُحَمَّدٌ: إِنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ عِنْدِي إِلَّا الْقِتَالُ. فَنَشِبَتِ الْحَرْبُ حِينَئِذٍ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ جيش عيسى بن موسى فوق أربعة آلاف، وعلى مقدمته حميد بن قحطبة، وعلى ميمنته محمد بن السفاح، وعلى ميسرته داود بن كرار، وَعَلَى السَّاقَةِ الْهَيْثَمُ بْنُ شُعْبَةَ، وَمَعَهُمْ عُدَدٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا. وَفَرَّقَ عِيسَى أَصْحَابَهُ فِي كُلِّ قُطْرٍ طَائِفَةً. وَكَانَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى عدة أصحاب أَهْلِ بَدْرِ، وَاقْتَتَلَ الْفَرِيقَانِ قِتَالًا شَدِيدًا جِدًّا، وَتَرَجَّلَ مُحَمَّدٌ إِلَى الْأَرْضِ فَيُقَالُ إِنَّهُ قَتَلَ بيده من جيش عيسى بن موسى سبعين رجلا من أبطالهم، وَأَحَاطَ بِهِمْ أَهْلُ الْعِرَاقِ فَقَتَلُوا طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، فاقتحموا عَلَيْهِمُ الْخَنْدَقَ الَّذِي كَانُوا حَفَرُوهُ وَعَمِلُوا أَبْوَابًا على قدره، وقيل إنهم ردموه بحدائج الجمال حتى أمكنهم أن يجوزوه، وقد يكونون فعلوا هذا مَوْضِعٍ مِنْهُ، وَهَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَاللَّهُ أعلم.
ولم تزل الحرب ناشبة بينهم حَتَّى صُلِّيَتِ الْعَصْرُ. فَلَمَّا صَلَّى مُحَمَّدٌ الْعَصْرَ نزلوا إِلَى مَسِيلِ الْوَادِي بِسَلْعٍ فَكَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ وَعَقَرَ فَرَسَهُ وَفَعَلَ أَصْحَابُهُ مِثْلَهُ وَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْقِتَالِ وَحَمِيَتِ الْحَرْبُ حِينَئِذٍ جِدًّا، فَاسْتَظْهَرَ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَرَفَعُوا رَايَةً سَوْدَاءَ فَوْقَ سَلْعٍ، ثُمَّ دَنَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ فَدَخَلُوهَا وَنَصَبُوا رَايَةً سَوْدَاءَ فَوْقَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ تَنَادَوْا: أخذت الْمَدِينَةُ، وَهَرَبُوا وَبَقِيَ مُحَمَّدٌ فِي شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ جدا.
ثم بقي وحده وليس معه أحد، وَفِي يَدِهِ سَيْفٌ صَلْتٌ يَضْرِبُ بِهِ مَنْ تقدم إليه، فكان لا يقوم له شيء إلا أنامه، حتى قتل خلقا من أهل العراق من الشجعان، وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ يَوْمَئِذٍ ذُو الْفَقَارِ ثُمَّ تَكَاثَرَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ تَحْتَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ الْيُمْنَى فسقط لِرُكْبَتَيْهِ وَجَعَلَ يَحْمِي نَفْسَهُ وَيَقُولُ: وَيْحَكُمُ ابْنُ نَبِيِّكُمْ مَجْرُوحٌ مَظْلُومٌ. وَجَعَلَ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ يَقُولُ: وَيْحَكُمْ! دَعُوهُ لَا تَقْتُلُوهُ، فَأَحْجَمَ عَنْهُ الناس وتقدم إليه حميد بن قحطبة فحز رَأْسَهُ وَذَهَبَ بِهِ إِلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَكَانَ حُمَيْدٌ قَدْ حَلَفَ أَنْ يَقْتُلَهُ مَتَى رَآهُ، فَمَا أَدْرَكَهُ إِلَّا كذلك. ولو كان على حاله وقوته لما استطاعة حميد ولا غيره من الجيش.
وكان مَقْتَلِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ عند أحجاز الزَّيْتِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ ومائة، وقال عِيسَى بْنُ مُوسَى لِأَصْحَابِهِ حِينَ وُضِعَ
رَأْسُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ: مَا تَقُولُونَ فِيهِ؟ فَنَالَ منه أقوام وتكلموا فيه، فقال رجل: كَذَبْتُمْ وَاللَّهِ! لَقَدْ كَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا، وَلَكِنَّهُ خالف أمير المؤمنين وشق عصى الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ. فَسَكَتُوا حِينَئِذٍ.
وَأَمَّا سَيْفُهُ ذُو الْفَقَارِ فَإِنَّهُ صَارَ إِلَى بَنِي العباس يتوارثونه حَتَّى جَرَّبَهُ بَعْضُهُمْ فَضَرَبَ بِهِ كَلْبًا فَانْقَطَعَ.
ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ بَلَغَ الْمَنْصُورَ فِي غُبُونِ هَذَا الْأَمْرِ أَنَّ مُحَمَّدًا فَرَّ من الحرب فقال: هذا لا يكون، فانا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نَفِرُّ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَاشِدٍ حَدَّثَنِي أَبُو الْحَجَّاجِ قَالَ: إِنِّي لَقَائِمٌ عَلَى رَأْسِ الْمَنْصُورِ وهو يسألنى عَنْ مَخْرَجِ مُحَمَّدٍ، إِذْ بَلَغَهُ أَنَّ عِيسَى بن موسى قد انهزم وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَضَرَبَ بِقَضِيبٍ مَعَهُ مُصَلَّاهُ وقال: كلا وأين لَعِبُ صِبْيَانِنَا بِهَا عَلَى الْمَنَابِرِ وَمَشُورَةُ النِّسَاءِ؟ ما أنى لذلك بعد.
وبعث عيسى بن موسى بِالْبِشَارَةِ إِلَى الْمَنْصُورِ مَعَ الْقَاسِمِ بْنِ الْحَسَنِ وبالرأس مع ابن أبى الكرام، وأمر بدفن الجثة فَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَأَمَرَ بِأَصْحَابِهِ الَّذِينَ قُتِلُوا مَعَهُ فَصُلِبُوا صَفَّيْنِ ظَاهِرَ الْمَدِينَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ طُرِحُوا عَلَى مَقْبَرَةِ الْيَهُودِ عِنْدَ سَلْعٍ. ثُمَّ نُقِلُوا إِلَى خَنْدَقٍ هُنَاكَ. وَأَخَذَ أَمْوَالَ بَنِي حَسَنٍ كُلَّهَا فَسَوَّغَهَا لَهُ الْمَنْصُورُ، وَيُقَالُ إِنَّهُ رَدَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَنُودِيَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالْأَمَانِ فَأَصْبَحَ النَّاسُ في أسواقهم، وترفع عيسى بن موسى في الجيش إِلَى الْجَرْفِ مِنْ مَطَرٍ أَصَابَ النَّاسَ يَوْمَ قَتْلِ مُحَمَّدٍ، وَجَعَلَ يَنْتَابُ الْمَسْجِدَ مِنَ الْجَرْفِ، وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ إِلَى الْيَوْمِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا قَاصِدًا مَكَّةَ وَكَانَ بِهَا الْحَسَنُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنْ جِهَةِ مُحَمَّدٍ، وكان محمد قد كتب إليه يقدم عَلَيْهِ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَكَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ تَلَقَّتْهُ الْأَخْبَارُ بِقَتْلِ مُحَمَّدٍ، فَاسْتَمَرَّ فَارًّا إلى البصرة إلى أخى محمد إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، الَّذِي كَانَ قَدْ خَرَجَ بِهَا ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ أَخِيهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَلَمَّا جِيءَ الْمَنْصُورُ بِرَأْسِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حسن فوضع بين يديه أمر به فَطِيفَ بِهِ فِي طَبَقٍ أَبْيَضَ ثُمَّ طِيفَ بِهِ فِي الْأَقَالِيمِ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ شَرَعَ الْمَنْصُورُ فِي اسْتِدْعَاءِ مَنْ خَرَجَ مَعَ مُحَمَّدٍ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَتَلَهُ ومنهم من ضربه ضربا مبرحا، ومنهم من عفا عنه. ولما توجه عيسى إِلَى مَكَّةَ اسْتَنَابَ عَلَى الْمَدِينَةِ كُثَيِّرَ بْنَ حصين، فاستمر بها شَهْرًا حَتَّى بَعَثَ الْمَنْصُورُ عَلَى نِيَابَتِهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الرَّبِيعِ، فَعَاثَ جُنْدُهُ فِي الْمَدِينَةِ فصاروا إذا اشتروا من الناس شيئا لا يعطونهم ثمنه، وإن طولبوا بذاك ضَرَبُوا الْمُطَالِبَ وَخَوَّفُوهُ بِالْقَتْلِ، فَثَارَ عَلَيْهِمْ طَائِفَةٌ مِنَ السُّودَانِ وَاجْتَمَعُوا وَنَفَخُوا فِي بُوقٍ لَهُمْ فَاجْتَمَعَ عَلَى صَوْتِهِ كُلُّ أَسْوَدٍ فِي الْمَدِينَةِ، وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ حَمْلَةً وَاحِدَةً وَهُمْ ذَاهِبُونَ إِلَى الْجُمْعَةِ، لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ منها، فقتلوا من الجند طائفة كثيرة بالمزاريق وغيرها، وهرب الأمير عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرَّبِيعِ وَتَرَكَ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ. وكان رءوس السُّودَانِ: وَثِيقٌ وَيَعْقِلُ وَرُمْقَةُ وَحَدْيَا وَعُنْقُودٌ، وَمِسْعَرٌ، وأبو النار. فلما رجع عبد الله بن الربيع ركب في جنوده