الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك، فعلم منهم بذلك الطاعة والموافقة، وقيل إنه مَكَثَ يَلْبَسُ الْخُضْرَةَ بَعْدَ قُدُومِهِ بَغْدَادَ سَبْعًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، فاللَّه أَعْلَمُ.
وَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ عَمُّهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ بَعْدَ اخْتِفَائِهِ سِتَّ سِنِينَ وَشُهُورًا قَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: أَنْتَ الْخَلِيفَةُ الْأَسْوَدُ، فَأَخَذَ فِي الِاعْتِذَارِ وَالِاسْتِغْفَارِ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا الَّذِي مَنَنْتَ عَلَيْهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعَفْوِ، وَأَنْشَدَ الْمَأْمُونَ عِنْدَ ذَلِكَ:
لَيْسَ يُزْرِي السواد بالرجل الشهم
…
وَلَا بِالْفَتَى الْأَدِيبِ الْأَرِيبِ
إِنْ يَكُنْ لِلسَّوَادِ مِنْكَ نَصِيبُ
…
فَبَيَاضُ الْأَخْلَاقِ مِنْكَ نَصِيبِي
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وَقَدْ نَظَمَ هَذَا الْمَعْنَى بَعْضُ المتأخرين وهو نصر الله بن قلانس الْإِسْكَنْدَرِيُّ فَقَالَ:
رُبَّ سَوْدَاءَ وَهِيَ بَيْضَاءُ فِعْلِ
…
حَسَدَ الْمِسْكَ عِنْدَهَا الْكَافُورُ
مِثْلُ حَبِّ الْعُيُونِ يحسبه الناس
…
سَوَادًا وَإِنَّمَا هُوَ نُورُ
وَكَانَ الْمَأْمُونُ قَدْ شَاوَرَ فِي قَتْلِ عَمِّهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ بعض أصحابه فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ الْوَزِيرُ الْأَحْوَلُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ قَتَلْتَهُ فَلَكَ نُظَرَاءُ في ذلك، وَإِنْ عَفَوْتَ عَنْهُ فَمَا لَكَ نَظِيرٌ. ثُمَّ شَرَعَ الْمَأْمُونُ فِي بِنَاءِ قُصُورٍ عَلَى دِجْلَةَ إلى جانب قصره، وَسَكَنَتِ الْفِتَنُ وَانْزَاحَتِ الشُّرُورُ، وَأَمَرَ بِمُقَاسَمَةِ أَهْلِ السَّوَادِ عَلَى الْخُمْسَيْنِ، وَكَانُوا يُقَاسِمُونَ عَلَى النِّصْفِ. واتخذ القفيز الملحم وهو عشرة مكاكى بالمكوك الأهوازي، ووضع شيئا كثيرا من خراجات بلادشتى، وَرَفَقَ بِالنَّاسِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَوَلَّى أَخَاهُ أَبَا عِيسَى بْنَ الرَّشِيدِ الْكُوفَةَ، وَوَلَّى أَخَاهُ صالح البصرة، وولى عبيد الله بن الحسين ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ نِيَابَةَ الْحَرَمَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي حَجَّ بالناس فيها. وواقع يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ بَابَكَ الْخُرَّمِيَّ فَلَمْ يَظْفَرْ به.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ:
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ
وَقَدْ أَفْرَدْنَا لَهُ تَرْجَمَةً مُطَوَّلَةً فِي أَوَّلِ كِتَابِنَا طَبَقَاتِ الشَّافِعِيِّينَ، وَلْنَذْكُرْ هَاهُنَا مُلَخَّصًا مِنْ ذَلِكَ وباللَّه المستعان.
هو مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ شَافِعِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عبد يزيد بن هاشم ابن الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَّيٍّ، الْقُرَشِيُّ الْمُطَّلِبيُّ، وَالسَّائِبُ بْنُ عُبَيْدٍ أَسْلَمَ يَوْمَ بَدْرٍ، وابنه شافع ابن السَّائِبِ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَأُمُّهُ أَزْدِيَّةٌ. وَقَدْ رَأَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ كَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ خَرَجَ مِنْ فَرْجِهَا حَتَّى انْقَضَّ بِمِصْرَ، ثُمَّ وَقَعَ في كل بلد منه شظية. وقد ولى الشَّافِعِيُّ بِغَزَّةَ، وَقِيلَ بِعَسْقَلَانَ، وَقِيلَ بِالْيَمَنِ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَمَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ صَغِيرٌ فَحَمَلَتْهُ أُمُّهُ إِلَى مَكَّةَ وَهُوَ ابْنُ سَنَتَيْنِ لِئَلَّا يَضِيعَ نَسَبُهُ، فَنَشَأَ بِهَا وَقَرَأَ الْقُرْآنَ وَهُوَ ابْنُ سبْعِ سِنِينَ، وَحَفِظَ الْمُوَطَّأَ وَهُوَ ابْنُ عَشْرٍ، وَأَفْتَى وَهُوَ ابْنُ
خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ ابْنُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، أَذِنَ لَهُ شَيْخُهُ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزَّنْجِيُّ، وَعُنِيَ بِاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ، وَأَقَامَ فِي هُذَيْلٍ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، وَقِيلَ عِشْرِينَ سَنَةً، فَتَعَلَّمَ مِنْهُمْ لُغَاتِ الْعَرَبِ وَفَصَاحَتَهَا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَشَايِخِ وَالْأَئِمَّةِ، وَقَرَأَ بِنَفْسِهِ الْمُوَطَّأَ عَلَى مَالِكٍ مِنْ حِفْظِهِ فَأَعْجَبَتْهُ قِرَاءَتُهُ وَهِمَّتُهُ، وَأُخِذَ عَنْهُ عِلْمُ الْحِجَازِيِّينَ بَعْدَ أَخْذِهِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزَّنْجِيِّ. وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَسْمَاءَهُمْ مُرَتَّبِينَ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ قُسْطَنْطِينَ عَنْ شِبْلٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ جِبْرِيلَ عَنِ اللَّهِ عز وجل.
وَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ الْفِقْهَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خالد عن ابن جريح عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وغيرهما عن جماعة من الصحابة، منهم عمرو بن على وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وغيرهم.
وكلهم عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَتَفَقَّهَ أَيْضًا عَلَى مَالِكٍ عَنْ مَشَايِخِهِ، وَتَفَقَّهَ بِهِ جَمَاعَةٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى زماننا في تصنيف مفرد. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي بِشْرٍ الدُّولَابِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ وَرَّاقٍ الْحُمَيْدِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ وَلِيَ الْحُكْمَ بِنَجْرَانَ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ، ثُمَّ تَعَصَّبُوا عَلَيْهِ وَوَشَوْا به إلى الرشيد أَنَّهُ يَرُومُ الْخِلَافَةَ، فَحُمِلَ عَلَى بَغْلٍ فِي قَيْدٍ إِلَى بَغْدَادَ فَدَخَلَهَا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ وَعُمُرُهُ ثَلَاثُونَ سَنَةً، فَاجْتَمَعَ بِالرَّشِيدِ فتناظر هو ومحمد بن الحسن بين يدي الرشيد، وَأَحْسَنَ الْقَوْلَ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَتَبَيَّنَ لِلرَّشِيدِ بَرَاءَتَهُ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ، وَأَنْزَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عِنْدَهُ. وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ قَدْ مات قبل ذلك بسند، وقيل بسنتين، وأكرم مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَكَتَبَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ وَقْرَ بَعِيرٍ، ثُمَّ أَطْلَقَ لَهُ الرَّشِيدُ أَلْفَيْ دِينَارٍ وَقِيلَ خَمْسَةَ آلَافِ دِينَارٍ. وَعَادَ الشَّافِعِيُّ إِلَى مَكَّةَ فَفَرَّقَ عَامَّةَ مَا حَصَلَ لَهُ فِي أَهْلِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ مِنْ بَنِي عَمِّهِ، ثُمَّ عاد الشافعيّ إلى العراق فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، فَاجْتَمَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ هَذِهِ الْمَرَّةَ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الكرابيسي، والحارث بن شريح البقال، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيُّ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. ثُمَّ رجع إلى مكة ثم رجع إلى بغداد سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى مِصْرَ فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ في هذه السنة، سنة أربع ومائتين. وَصَنَّفَ بِهَا كِتَابَهُ الْأُمَّ وَهُوَ مِنْ كُتُبِهِ الجديدة لأنها من رواية الربيع ابن سُلَيْمَانَ، وَهُوَ مِصْرِيٌّ. وَقَدْ زَعَمَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أَنَّهَا مِنَ الْقَدِيمِ، وَهَذَا بَعِيدٌ وَعَجِيبٌ مِنْ مِثْلِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَثْنَى عَلَى الشَّافِعِيِّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ كِبَارِ الْأَئِمَّةِ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَسَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا فِي الْأُصُولِ فَكَتَبَ لَهُ الرِّسَالَةَ، وَكَانَ يَدْعُو لَهُ فِي الصَّلَاةِ دَائِمًا، وَشَيْخُهُ مالك بن أنس وقتيبة ابن سَعِيدٍ. وَقَالَ: هُوَ إِمَامٌ. وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَكَانَ يَدْعُو لَهُ أيضا في
صَلَاتِهِ. وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَفْصَحَ وَلَا أَعْقَلَ وَلَا أَوْرَعَ مِنَ الشَّافِعِيِّ. وَيَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ الْقَاضِي، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ وَشَرْحُ أَقْوَالِهِمْ.
وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَدْعُو لَهُ فِي صَلَاتِهِ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ أَحْمَدُ يَقُولُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ شَرَاحِيلَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا أَمْرَ دِينَهَا» . قَالَ فَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الْأُولَى، وَالشَّافِعِيُّ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عن نصر بْنِ مَعْبَدٍ الْكِنْدِيِّ- أَوِ الْعَبْدِيِّ- عَنِ الْجَارُودِ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسُبُّوا قُرَيْشًا فَإِنَّ عَالِمَهَا يملأ الأرض علما، اللَّهمّ إنك إذ أذقت أولها عذابا ووبالا فَأَذِقْ آخِرَهَا نَوَالًا» .
وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ. قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: لَا يَنْطَبِقُ هَذَا إِلَّا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ. حَكَاهُ الْخَطِيبُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ: هُوَ صَدُوقٌ لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ مَرَّةً: لَوْ كان الكذب له مباحا مُطْلَقًا لَكَانَتْ مُرُوءَتُهُ تَمْنَعُهُ أَنْ يَكْذِبَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: الشَّافِعِيُّ فَقِيهُ الْبَدَنِ، صَدُوقُ اللِّسَانِ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَدِيثٌ غَلِطَ فِيهِ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ نَحْوَهُ.
وَقَالَ إِمَامَ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ- وَقَدْ سُئِلَ هَلْ سُنَّةٌ لَمْ تَبْلُغِ الشَّافِعِيَّ؟ - فَقَالَ: لَا.
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهَا تَارَةً تَبْلُغُهُ بِسَنَدِهَا، وَتَارَةً مُرْسَلَةً، وَتَارَةً مُنْقَطِعَةً كَمَا هُوَ الْمَوْجُودُ فِي كُتُبِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ حَرْمَلَةُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: سُمِّيتُ بِبَغْدَادَ نَاصِرُ السُّنَّةِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: مَا رَأَيْنَا مثل الشافعيّ ولا هو رأى مِثْلَ نَفْسِهِ. وَكَذَا قَالَ الزَّعْفَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ فِي كِتَابٍ جَمَعَهُ فِي فَضَائِلِ الشَّافِعِيِّ: لِلشَّافِعِيِّ مِنَ الْفَضَائِلِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ، مِنْ شَرَفِ نَسَبِهِ، وَصِحَّةِ دِينِهِ وَمُعْتَقَدِهِ، وَسَخَاوَةِ نَفْسِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ وَسَقَمِهِ وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَحِفْظِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَسِيرَةَ الْخُلَفَاءِ وَحُسْنِ التَّصْنِيفِ، وَجَوْدَةِ الْأَصْحَابِ وَالتَّلَامِذَةِ، مِثْلَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي زُهْدِهِ وَوَرَعِهِ، وَإِقَامَتِهِ عَلَى السُّنَّةِ. ثُمَّ سَرَدَ أَعْيَانَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْبَغَادِدَةِ وَالْمِصْرِيِّينَ، وَكَذَا عَدَّ أَبُو دَاوُدَ مِنْ جُمْلَةِ تَلَامِيذِهِ فِي الْفِقْهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ. وقد كان الشافعيّ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَأَشَدِّ الناس نزعا لِلدَّلَائِلِ مِنْهُمَا، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ قَصْدًا وَإِخْلَاصًا، كَانَ يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ تَعَلَّمُوا هَذَا الْعِلْمَ وَلَا يُنْسَبُ إِلَيَّ شَيْءٌ مِنْهُ أبدا فأوجر عَلَيْهِ وَلَا يَحْمَدُونِي. وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْهُ: إِذَا صَحَّ عِنْدَكُمُ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُولُوا بِهِ وَدَعُوا قَوْلِي، فَإِنِّي أَقُولُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ تسمعوا منى.
وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا تُقَلِّدُونِي. وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَى قَوْلِي. وَفِي رِوَايَةٍ فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي عُرْضَ الْحَائِطِ، فَلَا قَوْلَ لِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ: لِأَنْ يَلْقَى اللَّهَ الْعَبْدُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ باللَّه خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بشيء من الأهواء. وفي رواية خير مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِعِلْمِ الْكَلَامِ. وَقَالَ: لَوْ علم الناس ما في الْكَلَامِ مِنَ الْأَهْوَاءِ لَفَرُّوا مِنْهُ كَمَا يَفِرُّونَ من الأسد. وقال: حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ، وَيُطَافَ بِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ وَيُنَادَى عَلَيْهِمْ هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ.
وَقَالَ الْبُوَيْطِيُّ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بأصحاب الحديث فإنهم أكثر الناس صوابا.
وقال: إِذَا رَأَيْتَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فَكَأَنَّمَا رَأَيْتَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، جَزَاهُمُ اللَّهُ خَيْرًا، حَفِظُوا لَنَا الْأَصْلَ، فَلَهُمْ عَلَيْنَا الْفَضْلُ. وَمِنْ شِعْرِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ:
كُلُّ الْعُلُومِ سِوَى الْقُرْآنِ مَشْغَلَةٌ
…
إِلَّا الْحَدِيثَ وَإِلَّا الْفِقْهَ فِي الدِّينِ
الْعِلْمُ مَا كَانَ فِيهِ قَالَ حَدَّثَنَا
…
وَمَا سِوَى ذَاكَ وَسْوَاسُ الشَّيَاطِينِ
وَكَانَ يَقُولُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَنْ قَالَ مخلوق فهو كافر. وقد روى عن الرَّبِيعُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَمُرُّ بِآيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَحْرِيفٍ، عَلَى طَرِيقَةِ السلف. وقال ابن خزيمة: أنشدنى المزني وقال أنشدنا الشافعيّ لنفسه قوله:
مَا شِئْتَ كَانَ وَإِنْ لَمْ أَشَأْ
…
وَمَا شِئْتُ إِنْ لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ
خَلَقْتَ الْعِبَادَ عَلَى مَا عَلِمْتَ
…
فَفِي الْعِلْمِ يَجْرِي الْفَتَى وَالْمُسِنْ
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ
…
وَمِنْهُمْ قَبِيحٌ وَمِنْهُمْ حَسَنْ
عَلَى ذَا مَنَنْتَ وَهَذَا خَذَلْتَ
…
وَهَذَا أَعَنْتَ وَذَا لَمْ تُعِنْ
وَقَالَ الرَّبِيعُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ. وَعَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: أَنْشَدَنِي الشَّافِعِيُّ:
قَدْ عَوِجَ النَّاسُ حَتَّى أَحْدَثُوا بِدَعًا
…
فِي الدِّينِ بِالرَّأْيِ لَمْ تُبْعَثْ بِهَا الرُّسُلُ
حَتَّى اسْتَخَفَّ بِحَقِّ اللَّهِ أَكْثَرُهُمْ
…
وَفِي الَّذِي حُمِّلُوا مِنْ حَقِّهِ شُغُلُ
وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ شِعْرِهِ فِي السُّنَّةِ وكلامه فيها وفيما قال من الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ طَرَفًا صَالِحًا فِي الَّذِي كَتَبْنَاهُ فِي أَوَّلِ طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَقِيلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ، وعن أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ أَبْيَضَ جَمِيلًا طَوِيلًا مهيبا يخضب بالحناء، مخالفا للشيعة رحمه الله وأكرم مثواه.