الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن المبتدع لابد له من تعلق بشبهة دليل، ينسبها إلى الشارع، ويدّعي أن ما ذكره هو مقصود الشارع فصار هواه مقصوداً بدليل شرعي في زعمه، فكيف يمكن الخروج من ذلك، وداعي الهوى مستمسك بأحسن ما يتمسك به؟ وهو الدليل الشرعي في الجملة.
أن المبتدع يزيد في الاجتهاد لينال في الدنيا التعظيم والمال والجاه، وغير ذلك من أصناف الشهوات، قال تعالى:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (1) .
وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} (2) ، فسبب ما داخل أنفسهم من الهوى يجد المبتدعة في ذلك الالتزام والاجتهاد، خفة ونشاط، يستسهلون به الصعب، ويرون أعمالهم أفضل من عمل غيرهم {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (3) .. (4)
سابعاً:
وسائل الوقاية من البدع:
للوقاية من البدع وسائل عدة، نذكر منها على سبيل الإيجاز:
1-
الاعتصام بالكتاب والسنة، - بالإضافة إلى نشر ذلك وتبليغه للناس على أكبر قدر ممكن -:
وقد جاءت أوامر الاعتصام بالكتاب والسنة صريحة في ذلك، منها:
قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (5) . وحبل الله هو القرآن (6)، وقال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (7)، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً
(1) - سورة الكهف:103، 104.
(2)
- سورة الغاشية:2- 4
(3)
- سورة المدثر: الآية31.
(4)
- يراجع: الاعتصام (1/114-125) ، والبدعة والمصالح المرسلة ص (209- 219) .
(5)
- سورة آل عمران: الآية103.
(6)
- يراجع: تفسير ابن كثير (1/388، 389) .
(7)
- سورة صّ:29.
لَنْ تَبُورَ} (1)، وقال تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} (2) . والآيات كثيرة في هذا الباب وحصرها ليس من السهولة بمكان، والقصد التنبيه لا الحصر.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل علَّمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثلما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل....)) الحديث (3) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) (4) . وفي رواية: ((إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه)) (5) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((تعاهدوا القرآن، فو الذي نفسي بيده لهو بيده لهو أشد تفصيا (6) من الإبل في عقولها)) (7) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده....)) (8) .
(1) - سورة فاطر:29.
(2)
- سورة فاطر:32.
(3)
- رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (9/73) كتاب فضائل القرآن، حديث رقم (5026) . ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (1/558) كتاب صلاة المسافرين، حديث رقم (815) .
(4)
- رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (9/74) كتاب فضائل القرآن، حديث رقم (5027) . ورواه أبو داود في سننه (2/147) كتاب الصلاة، حديث رقم (1452) . ورواه الترمذي في سننه (4/246) كتاب فضائل القرآن، حديث رقم (3071) ، وقال حديث حسن صحيح.
(5)
- رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (9/74) كتاب فضائل القرآن، حديث رقم (5028) . ورواه الترمذي في سننه (4/246) كتاب فضائل القرآن، حديث رقم (3072)، وقال: حديث حسن صحيح.
(6)
- تفصياً: أي تفلتاً وتخلصاً. يراجع: فتح الباري (9/81) .
(7)
- رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (9/79) كتاب فضائل القرآن، حديث رقم (5033) . ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (1/545) كتاب صلاة المسافرين، حديث رقم (791) بلفظ:((تلفتاً)) .
(8)
- رواه مسلم في صحيحه (4/ 2074) كتاب الذكر والدعاء، حديث رقم (2699) . ورواه أبو داود في سننه (2/148، 149) كتاب الصلاة حديث رقم (1455) . ورواه ابن ماجه في سننه (1/82) المقدمة، حديث رقم (225) .
وقال تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1) .
والسنة بيان القرآن، فكما تجب المحافظة على الكتاب - كما تقدم من الأدلة السابقة - فكذلك تجب المحافظة على بيانه. فالسنة - وهي بيان الكتاب - لا تقل أهمية عن القرآن.
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم وجوب تبليغ السنة ونشرها على أوسع نطاق ممكن، فقال عليه الصلاة والسلام:
((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ليبلغ الشاهد الغائب)) (3) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) (4) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره)) (5) .
فما تقدَّم من النصوص يدلُّ على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة، ونشر سنته، ونشر سنته صلى الله عليه وسلم وتبليغها؛ لأنَّ في ذلك وقاية من إحداث البدع وظهورها.
2-
تطبيق السنة في سلوك الفرد وسلوك المجتمع:
(1) - سورة النحل: الآية44.
(2)
- رواه الإمام أحمد في مسنده (2/159) . ورواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (6/496) كتاب الأنبياء، حديث رقم (3461) . ورواه الترمذي في سننه (4/147) أبواب العلم، حديث رقم (2807) .
(3)
- رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (1/158) كتاب العلم، حديث رقم (67) . ورواه مسلم في صحيحه (2/988) كتاب الحج، حديث رقم (1354) .
(4)
- رواه الإمام أحمد في مسنده (4/126) . ورواه أبو داود في سننه (5/13-15) كتاب السنة، حديث رقم (4607) . ورواه الترمذي في سننه (4/149، 150) أبواب العلم، حديث رقم (2816)، وقال: حديث حسن صحيح. ورواه ابن ماجه في سننه (1/ 16) ، المقدمة، حديث رقم (42، 43) .
(5)
- رواه الإمام أحمد في مسنده (1/437) . ورواه أبو داود في سننه (4/68، 69) كتاب العلم، حديث رقم (2660) . ورواه الترمذي في سننه (4/142) أبواب العلم، حديث رقم (2795)، وقال: حديث حسن ننه (1/صحيح.
وذلك بتطبيق ما علمه الإنسان من السنة على سلوكه في جميع مجالات الحياة، فتطبيق السنة يجعل البدعة أمراً منكراً في المجتمع، تظهر ملامحها البشعة ومظهرها السيء، وتدل بنفسها على ما تحمله من قبح وتهديد للإسلام والمسلمين، فيجعل الناس ينفرون من البدع، لعدم قبول الناس وموافقتهم لمرتكب البدعة، ولما كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يطبقون السنة في جميع تصرفاتهم وأفعالهم لم تظهر فيهم البدع، وإذا ظهرت قُضي عليها مباشرة؛ لأن المبتدع بفعله البدعة قد شذَّ عن المجتمع الذي يعيش فيه، فتكون مقامته سهلة، ولكن في آخر الزمان يختلف الوضع، فيكون المتمسك بدين الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كالقابض على الجمر، ويكون حيداً غريباً في مجتمعه، كما قال عليه الصلاة والسلام:((بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء)) (1) .
3-
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
البدع في بدايتها تكون صغيرة ثم تكبر، يبدعها فرد وسرعان ما يلتف حوله أهل الأهواء، لموافقة هذه البدعة أهواءهم وشهوة أنفسهم، أو أن هذه البدعة تريحهم من بعض تكاليف الشرع. فما هو الموقف الواجب اتخاذه؟.
الجواب على ذلك هو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد أوجبه الله علينا بقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) . فقد أوجب الله علينا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الكفاية. فلا يجب على كل أحد بعينه، فإذا لم يقم به يقوم بواجبه، أثم كل قادر بحسب قدرته؛ إذ هو واجب على كل إنسان بحسب قدرته، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده (1/398) . ورواه مسلم في صحيحه (1/130) كتاب الإيمان، حديث رقم (145) . ورواه الترمذي في سننه (4/129) أبواب الإيمان، حديث رقم (2764)، وقال: حديث حسن غريب صحيح. ورواه ابن ماجه في سننه (2/1319، 1320) كتاب الفتن، حديث رقم (3986) .
(2)
- سورة آل عمران:104.
الإيمان)) (1) . (2)
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الصفات التي جعل الله بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم، قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ..} (3) .
قال أبو هريرة رضي الله عنه: (( {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلون في الإسلام)) (4) .
وفي قول أبو هريرة- رضي الله عنه ما يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعناهما الشامل، يدخل فيهما الجهاد في سبيل الله والعمل على تبليغ رسالة الإسلام بشتى الوسائل الممكنة.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين، ومما يتميزون به على غيرهم، كما جعل الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف من صفات المنافقين ومما يميزهم عن غيرهم.
(1) -رواه الإمام أحمد في مسنده (3/10) . ورواه مسلم في صحيحه (1/69) كتاب الإيمان، حديث رقم (49) . ورواه أبو داود في سننه (1/677، 678) كتاب الصلاة، حديث رقم (1140) . ورواه الترمذي في سننه (3/317، 318) أبواب الفتن، حديث رقم (2263)، وقال: حديث حسن صحيح. ورواه النسائي في سننه (8/111، 112) كتاب الإيمان. ورواه ابن ماجه في سننه (1/406) كتاب إقامة الصلاة، حديث رقم (1275) .
(2)
- يُراجع: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (28/125، 126) .
(3)
- سورة آل عمران: الآية110.
(4)
- رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (8/224) كتاب التفسير، حديث رقم (4557) . ورواه الحاكم في المستدرك (4/84) كتاب معرفة الصحابة، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: صحيح.
فقال تعالى في وصف المؤمنين {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) .
وقال جل وعلا واصفاً المنافقين: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} (2) .
ولا شك أن التحذير من البدع والنهي عنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن إحداث البدع ودعوة الناس إليها من الأمر بالمنكر الذي هو من خصائص المنافقين ومن تبعهم.
وقد نص الله سبحانه وتعالى على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصائص الرسالة المحمدية، وأهدافها البارزة، قال تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ......} (3) .
وقد أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث إلى عموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشموله لكل مسلم، فقال-عليه السلام:((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (4) .
وجعل-عليه الصلاة والسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجب الجالسين على الطريق، وبين أن ذلك من حقوق الطريق، فقال عليه الصلاة والسلام:((إياكم والجلوس على الطرقات)) . فقالوا: مالنا بد، إنَّما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: فإذا أتيتم إلى المجالس فأعطوا الطريق حقها)) . فقالوا: وما حق الطريق؟. قال: ((غض البصر، وكف الأذى، وردّ السلام، وأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)) (5) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنكم منصورون ومصيبون ومفتوح لكم، فمن أدرك ذاك منكم فليتق الله وليأمر
(1) - سورة التوبة: الآية71.
(2)
-سورة التوبة: الآية67.
(3)
-سورة لأعراف: الآية157.
(4)
-رواه الإمام أحمد في مسنده (3/10) . ورواه مسلم في صحيحه (1/69) كتاب الإيمان، حديث رقم (49) . ورواه أبو داود في سننه (1/677، 678) كتاب الصلاة، حديث رقم (1140) . ورواه الترمذي في سننه (3/317، 318) أبواب الفتن، حديث رقم (2263)، وقال: حديث حسن صحيح. ورواه النسائي في سننه (8/111، 112) كتاب الإيمان. ورواه ابن ماجه في سننه (1/406) كتاب إقامة الصلاة، حديث رقم (1275) .
(5)
- رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (5/112) كتاب المظالم، حديث رقم (3465) . ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (3/1675) كتاب اللباس، حديث رقم (2121) .
بالمعروف ولينه عن المنكر، ومن يكذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) (1) .
وقال عليه الصلاة والسلام: ((مثل القائم على حدود الله، والمدهن (2) فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها يصعدون فيستقون الماء، فيصيبون على الذين في أعلاها، فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا، فقال الذين في أسفلها: فإنا ننقبها في أسفلها فنستقي، فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم نجوا جميعاً، وإن تركوهم غرقوا جميعاً)) (3)
ففي هذا الحديث تحذير منه صلى الله عليه وسلم عن عاقبة السكوت عن المنكرات والبدع، وقد مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم بركاب السفينة - وما أحسن التمثيل - فإن سكوت المسلمين عن أهل المنكر والمبتدعة، يؤدي إلى تفشي هذه المنكرات والبدع في المجتمعات، مما يجعلهم مستحلين للعقوبة، فإذا نزلت العقوبة شملت الفاعل والراضي بالفعل، فالأول لمباشرته المنكر، والثاني لسكوته عن الإنكار.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه فتدعونه فلا يستجيب لكم)) (4) .
ولكن قد يستدل بعض الناس بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (5) ، على أن الإنسان ليس مسئولاً إلا عن نفسه وتصرفاته، ولا شأن له بالآخرين وما يفعلونه.
فالجواب على ذلك ما قاله أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال: ((يا أيها الناس! إنكم
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده (1/389) . ورواه الترمذي في سننه (3/357) أبواب الفتن، حديث رقم (2358)، وقال: حديث حسن صحيح.
(2)
- المدهن - بضم الميم وسكون الدال وكسر الهاء -: المراد به من يرائي ويضيع الحقوق ولا يغير المنكر، والمدهن والمداهن واحد. يراجع: تحفة الأحوذي (394) ، ولسان العرب (13/162) مادة (دهن) .
(3)
- رواه الإمام أحمد في مسنده (1/268) . ورواه الترمذي في سننه (3/318) أبواب الفتن، حديث رقم (2264)، وقال: حديث حسن صحيح.
(4)
- رواه الإمام أحمد في مسنده (1/388، 389) . ورواه الترمذي في سننه (3/316، 317) أبواب الفتن، حديث رقم (2259)، وقال: حديث حسن.
(5)
-سورة المائدة: الآية105.
تقرأون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (1)، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)) (2) .
فما تقدَّم من الآيات والأحاديث يدلُّ على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل شخص؛ لا بعينه وإنَّما على الكفاية على حسب قدرته وطاقته، وأنه من خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأن تركه من خصائص المنافقين، وإذا ترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد جنوا على أنفسهم، وصاروا مستحقين للعقوبة.
ولا شك أن البدع من أكبر المنكرات التي يجب النهي عنها، وأن التهاون في ذلك يساعد على انتشار البدع، وتمسك الناس بها، واعتقادهم أن هذه البدع لو كانت أمراً منكراً لنهى عنه الناس عامة والعلماء خاصة، وأن سكوت العلماء عن الإنكار دليل على موافقة هذا الأمر المبتدع للشرع، إذ لو كان مخالفاً لحصل الإنكار.
فالأمر بالمعروف وهو لزوم الكتاب والسنة، والنهي عن المنكر من البدع والمعاصي؛ من أهم أسباب الوقاية من البدع، وله دور كبير في ذلك. جعلنا الله وإياكم من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، مخلصين ذلك لله وحده، والله أعلم.
4-
القضاء على أسباب البدع:
وأسباب البدع سبق وتكلمنا عنها، ويكون القضاء عليها بأمور عدة، منها:
أ- منع العامة من القول في الدين، وعدم اعتبار آرائهم مهما كانت مناصبهم فيه.
ب- الرد على ما يوجه إلى الدين من حملات ظاهرة أو خفية، وكشف مظاهر الابتداع، وتسليط الضوء عليها من القرآن والسنة لمنعها من التغلغل والانتشار.
جـ- الاحتراز من كل خروج عن حدود السنة مهما قلّ أثره أو صغر أمره.
د- صدّ تيارات الفكر العقائدي والتي لا حاجة للمسلم فيها، بل وردّ النصّ بالتحذير
(1) -سورة المائدة: الآية105.
(2)
- رواه الإمام أحمد في مسنده (1/7) . ورواه الترمذي في سننه (4/322) أبواب تفسير القرآن، حديث رقم (5050)، وقال: حديث حسن صحيح. وقد رواه غير واحد، عن إسماعيل بن أبي خالد نحو هذا الحديث مرفوعاً، وروى بعضهم عن إسماعيل عن قيس عن أبي بكر قوله ولم يرفعوه. ورواه أبو داود في سننه (4/509، 510) كتاب الملاحم، حديث رقم (4338) .
منها، كآراء غير المسلمين فيها يتصل بالعقيدة، أو الأمور الغيبة ونحوها.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} (1)
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضبِّ (3) تبعتموهم)) قلنا: يا رسول! اليهود والنصارى؟. قال: ((فمن؟)) (4) . فحذر النبي صلى الله عليه وسلم من اتباع سننهم والوقوع فيما وقعوا فيه، وتقليدهم من غير تبصر، وهذا علم من أعلام نبوته. فواقع الحال يشهد بأنا أصبحنا نقلدهم في كثير من الأشياء، حتى صار المسلمون يقيمون الاحتفالات بأعياد النصارى، ونحو ذلك من التقليد الأعمى في كثير من الأمور، وقد ألف بعض العلماء المعاصرين كتاباً ذكر فيه جملة من الأمور التي وقع فيها المسلمون من مشابهة المشركين (5) . فكثير من البدع إنما أحدثت تقليداً لليهود والنصارى وغيرهم (6) .
هـ- الاعتماد على الكتاب والسنة فقط في أمور العقيدة التي لا مجال للاجتهاد والاستحسان والقياس فيها. وعدم الاعتماد على ما يعده بعض أهل الضلال مستنداً كالعقل ونحوه. وما هو أوهى من ذلك كالمنامات ونحوها.
وترك الخوض في المتشابه؛ لأن الخوض فيه علامة على أهل الزيغ والبدع. وسبب كل بلاء ومصيبة دخلت على المسلمين.
فما ذكرناه هو بعض الأمور التي في اتباعها أثر كبير في القضاء على أسباب
(1) - سورة آل عمران:100.
(2)
- سورة البقرة: الآية109.
(3)
- الضب: دويبة أحرش الذنب، خشنُهُ، مُفقره، ذو عقد، ولونه إلى الصُّحْمة، وهي غُبرة مشربة سواداً، وإذا سمن اصفر صدره. يُراجع: لسان العرب (1/539) مادة (ضبب)
(4)
- رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (13/300) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، حديث رقم (7320) . ورواه مسلم في صحيحه (4/2054) كتاب العلم، حديث رقم (2669) .
(5)
- الكتاب هو: الإيضاح والتبين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين. ومؤلفه هو: فضيلة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري - أثابه الله -. وطبع الطبعة الأولى سنة 1384هـ، ثم طبع طبعة ثانية مصححة ومنقحة سنة 1405هـ.
(6)
- يراجع: البدعة ص (424، 425) .