الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن
مشروعية مخالفة أهل الكتاب
لا يخفى على كل مسلم أن التشبه بأهل الكتاب حرام، - سواء في عاداتهم أو أعيادهم أو أخلاقهم أو غير ذلك-؛ لأنَّ التشبه بهم يدل على نوع مودة ومحبة وموالاة، وإن لم يجاهر المتشبه بذلك، وإن لم يورث نوع مودة ومحبة، فهو على الأقل مظنة المودة فيكون محرماً من هذا الوجه سداً للذريعة، وحسماً لعادة حب الكافرين والولاء لهم، فضلاً عن كونه محرماً من وجوه أخرى، بالنصوص الواردة وغيرها.
وكلما كانت المشابهة أكثر، كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم، حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط. بعكس المتمسكين بهدي الإسلام، والبعيدين عن مشابهة الأمم الأخرى، فهم أكثر نفرة وأقل مودة لغير المسلمين.
والتشبه بأهل الكتاب لا يقتصر على المودة الظاهرة بين المسلم والكافر، بل قد يصل إلى الأمور الاعتقادية والفكرية الباطنية، وهذا أخطر من سابقه؛ لأن المسلم الذي يقلِّد الكفار في الظاهر، يقوده ذلك إلى التأثر باعتقاداتهم الباطنية، وذلك عن طريق الاستدراج الخفي شيئاً فشيئاً.
فأكثر من تعلموا في ديار الغرب، أو عاشوا بعض الوقت عندهم، تجدهم يعشقون حياتهم الغربية، ويحاولون بقدر الإمكان تقليدهم في كثير من الأمور لشدة إعجابهم بهم، فيأتون من عندهم وقد حملوا أفكاراً واعتقادات غريبة عن الإسلام، بل بعضها ربما ينافي العقيدة الإسلامية الصحيحة - هدانا الله وإياهم -.
ومن الأمور التي تساهل بها بعض المسلمين، وسارعوا إلى التشبه بالأمم الأخرى فيها: الأعياد والاحتفالات البدعية -التي هي موضوع كتابنا- فأحدثوا من البدع في هذا المجال الشيء الكثير، مما حدا بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن يؤلف كتاباً كاملاً في النهي عن مشابهة أهل الكتاب، وخاصة في أعيادهم، سمَّاه (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) . فقال رحمه الله بعد حمد الله والثناء عليه بما
هو أهله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(وبعد: فإني كنت قد نهيت إمَّا مبتدئاً أو مجيباً عن التشبه بالكفار في أعيادهم، وأخبرت ببعض ما في ذلك من الأثر القديم، والدلالة الشرعية، وبينت بعض حكمة الشرع في مجانبة الكفار -من الكتابيين والأميين- وما جاءت به الشريعة من مخالفة أهل الكتاب والأعاجم....
ثم بلغني بأُخرة (1) أن من الناس من استغرب ذلك واستبعده، لمخالفة عادة قد نشأوا عليها، وتمسكوا في ذلك بعمومات وإطلاقات اعتمدوا عليها، فاقتضاني (2) بعض الأصحاب أن أعلِّق في ذلك ما يكون فيه إشارة إلى أصل هذه المسألة، لكثرة فائدتها، وعموم المنفعة بها، ولما قد عمَّ كثيراً من الناس من الابتلاء بذلك، حتى صاروا في نوع جاهلية، فكتبت ما حضرني الساعة، مع أنه لو استوفى ما في ذلك من الدلائل، وكلام العلماء، واسْتقْريتُ الآثار في ذلك، لوجد فيه أكثر مما كتبته) ا. هـ (3) .
ويعتبر كتاب شيخ الإسلام رحمه الله هذا، من أحسن ما أُلف في هذا الباب، فقد ذكر فيه تحريم مشابهة الكفار بالأدلة: من الكتاب والسنة والإجماع والآثار والاعتبار.
فذكر من الآيات القرآنية ما ينيف على ثلاثين آية، وقرر بعد كل آية وجه دلالتها على ذلك، ثم ذكر من الأحاديث النبوية الدَّالة على تحريم مشابهة أهل الكتاب ما يقارب مائة حديث، وأعقب كل حديث بذكر وجه دلالته على ذلك، ثم ذكر الإجماع على التحريم، ثم ذكر الآثار، ثم ذكر من الاعتبار ما في بعضه الكفاية. فما أجلّ هذا الكتاب وأكبر فائدته (4) .
وسأذكر- إن شاء الله- بعضاً من هذه الآيات، والأحاديث، وكذلك الإجماع، وبعض الأدلة من الآثار والاعتبار الدَّالَّة على تحريم مشابهة أهل الكتاب على النحو التالي:
(1) - أي: أخيراً - والله أعلم -.
(2)
- اقتضاني: أي طلب مني. يُراجع: القاموس المحيط (4/381) ، فصل القاف باب الياء.
(3)
- يُراجع: اقتضاء الصراط المستقيم (1/60، 61) .
(4)
- يُراجع: فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (3/109) .