الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
طريقة إحياء المولد
قال المقريزي في ((الخطط)) يصف جلوس الخليفة في الموالد الستة:
((فإذا كان اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، تقدَّم - الخليفة - بأن يعمل في دار الفطرة (1) : عشرون قناطراً من السكر اليابس حلواء يابسة من طرائفها، وتعبأ في ثلاثمائة صينية من النحاس، وهو مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فتفرق تلك الصواني في أرباب الرسوم من أرباب الرتب، وكل صينية في قوارة (2)
، من أول النهار إلى ظهره، فأول أرباب الرسوم قاضي القضاة، ثم داعي الدعاة، ويدخل في ذلك القراء بالحضرة والخطباء، والمتصدرون بالجوامع، وقومة المشاهد........
فإذا صلَّى الخليفة، ركب قاضي القضاة، والشهود بأجمعهم إلى الجامع الأزهر (3) ، ومعهم أرباب تفرقة الصواني، فيجلسون مقدار قراءة الختمة الكريمة، ثم يستدعى قاضي القضاة ومن معه، وقد كنست الطريق، ورشت بالماء رشاً خفيفاً، وفرش تحت المنظرة (4)
الرمل الأصفر، فيقربون من المنظرة ويترجلون قبل الوصل إليها
(1) - تقع خارج القصر، بناها العزيز بالله، وقرر فيها ما يعمل، مما يحمل إلى الناس في العيد، وهي قبالة باب الديلم من القصر، الذي يدخل منه إلى المشهد الحسيني.
يراجع: الخطط المقريزي (1/425) .
(2)
- القوارة: مشتقة من قوارة الأديم والقرطاس، وهو ما قورت من وسطه ورميت ما حواليه، كقوارة الجيب إذا قورته وقرته، وكل شيء قطعت من وسطه خرقاً مستديراً فقد قورته.
يراجع: لسان العرب (5/123) مادة (قور) .
(3)
- هو أول مسجد أسس بالقاهرة، والذي أنشأه القائد جوهر الصقلي مولى المعز لدين الله، لما اختط القاهرة، وشرع في بنائه سنة 359هـ وكمل بناؤه سنة 361هـ.
يراجع: الخطط المقريزي (2/273) .
(4)
- المنظرة: موضع في رأس جبل فيه رقيب ينظر العدو، والمنظرة المرقبة. يراجع: لسان العرب (5/217) مادة (نظر) .
والمراد بها هنا: هي الأماكن التي كان يشرف منها الخلفاء العبيديون على الاحتفال ببعض الأعياد. يراجع: تاريخ الدولة الفاطمية ص (634) .
بخطوات، فيجتمعون تحت المنظرة دون الساعة الزمانية بسمت وتشوف لانتظار الخليفة، فتفتح إحدى الطاقات (1) ، فيظهر منها وجهه-الخليفة-وما عليه من المنديل وعلى رأسه عدة من الأستاذين (2) المحنكين، وغيرهم من الخواص، ويفتح بعض الأستاذين طاقة ويخرج منها رأسه ويده اليمنى في كمه ويشير به قائلاً: أمير المؤمنين يرد عليكم السلام. فيسلم بقاضي القضاة أولاً بنعوته، وبصاحب الباب بعده كذلك، وبالجماعة الباقية جملة جملة من غير تعيين أحد، فيستفتح قراء الحضرة بالقراءة، ويكونون قياماً في الصدر، وجوههم للحاضرين، وظهورهم إلى حائط المنظرة، فيقدم خطيب الجامع الأنور (3)
المعروف بجامع الحاكم، فيخطب كما يخطب فوق المنبر، إلى أن يصل إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: وإن هذا يوم مولده إلى ما من الله به على ملَّة الإسلام من رسالته، ثم يختم كلامه بالدعاء للخليفة، ثم يؤخر، ويقدم خطيب الجامع الأزهر، فيخطب كذلك، ثم خطيب الجامع الأقمر (4) فيخطب كذلك، والقراء في خلال خطابة الخطباء، يقرأون!!! .
فإذا انتهت خطابة، أخرج الأستاذ رأسه ويده في كمه من طاقته، وردّ على الجماعة السلام، ثم تغلق الطاقتان فتنفض الناس، ويجري أمر الموالد الخمسة الباقية على هذا النظام، إلى حين فراغها على عدتها من غير زيادة ولا نقص)) (5) ا. هـ.
(1) - الطاقات: جمع طاق، وهو ما عطف من الأبنية، هو الذي يعقد بالآجر. يراجع: لسان العرب (10/232، 233) .
(2)
- هم الخدم والطواشية، ومنهم أرباب الوظائف المختصون بشئون الخليفة واحتياجاته، وأعظمهم مكانه الأستاذون المحنكون الذين يديرون عمائمهم على أحناكهم، وهم أقرب الخدام إلى الخليفة، ومنهم من يحمل رسائل الخليفة إلى الوزير، ومن يشرف على إعداد مجلسه....... الخ. يراجع: صبح الأعشى (3/477) .
(3)
- ويقع خارج باب الفتوح - أحد أبواب القاهرة -، وأول من أسسه العزيز بالله، وخطب فيه وصلى بالناس الجمعة، ثم أكمله ابنه الحاكم بأمر الله، وكان تأسيسه سنة380هـ، وانتهى بناؤه على يد الحاكم سنة 403هـ.
يراجع: الخطط المقريزي (2/277) .
(4)
- بناه الآمر سنة 519هـ بواسطة وزيره المأمون بن البطائحي، وكان مكانه دكاكين علافين، وأول جمعة أقيمت فيه سنة 799هـ بعد أن جدده الأمير أريلبغا أحد المماليك الظاهرية. يراجع: الخطط المقريزي (2/290) .
(5)
- يراجع: الخطط المقريزي (1/433) .
وقال ابن خلكان في وصف احتفال مظفر الدين أبو سعيد كوكبوري صاحب إربل بالمولد النبوي:
((وأما احتفاله بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنَّ الوصف يقصر عن الإحاطة به، لكن نذكر طرفاً منه: وهو أن أهل البلاد كانوا قد سمعوا بحسن اعتقاده فيه، فكان في كل سنة يصل إليه من البلاد القريبة من إربل (1) خلق كثير من الفقهاء والصوفية (2) والوعاظ والقراء والشعراء، ولا يزالون يتواصلون من المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول، ويتقدم مظفر الدين بنصب قباب من الخشب، كل قبة أربع أو خمس طبقات، ويعمل مقدار عشرين قبة أو أكثر، منها قبة له، والباقي للأمراء وأعيان دولته لكل واحد قبة، فإذا كان أول صفر زيَّنُوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المستجملة، وقعد في كل قبة جوق (3) من المغاني، وجوق من أرباب الخيال، ومن أصحاب الملاهي، ولم يتركوا طبقة من تلك الطباق في كل قبة حتى رتبُوا فيها جوقاً، وتبطل معايش الناس في تلك المدة، وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم.....، فكان مظفر الدين ينزل كل يوم بعد صلاة العصر، ويقف عليها قبة قبة إلى آخرها، ويسمع غناءهم، ويتفرج على خيالاتهم، وما يفعلونه في القباب، ويبيت في الخانقاه (4) ، ويعمل السماع (5)
(1) - مثل بغداد والموصل والجزيرة وسنجار ونصيبين، وبلاد العجم وغيرها من النواحي.
(2)
- الصوفية: التصوف: طريقة كان ابتداؤها الزهد الكلي، ثم ترخص المنتسبون إليها بالسماع والرقص، وهم بين الكفر والبدع، وتشعبت بهم الطرق حتى فسدت عقائدهم حتى قالوا بالحلول والاتحاد. يراجع: تلبيس إبليس ص (161-169) .
(3)
- الجوق: الجماعة من الناس، وقال ابن سيده: أحسبه دخيلاً. يراجع: لسان العرب (10/37) مادة (جوق) .
(4)
- الخناقاه: رباط الصوفية. معرب مولد استعمله المتأخرون. يراجع: شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل ص (113) .
(5)
- السماع: ما يتخذه بعض الناس طريقاً، يجتمع عليه أهل الديانات لصلاح القلوب، والتشويق إلى المحبوب، والتخويف من المرهوب، والتخزين على فوات المطلوب، فتستنزل به الرحمة، وتستجلب به النعمة، وتحرك به مواجيد أهل الإيمان وتستجلي به مشاهد أهل العرفان، حتى يقول بعضهم: إنه أفضل لبعض الناس أو للخاصة من سماع القرآن من عدة وجوه، حتى يجعلونه قوتاً للقلوب، وغذاء للأرواح، وحادياً للنفوس، يحدوها إلي السير إلى الله، ويحثها على الإقبال عليه.
والسماع: أمر محدث حدث في أواخر المائة الثانية، فأنكره الأئمة ومنهم الشافعي وأحمد ولم يحضره الصالحون كابن أدهم والفضيل، وقال الشافعي: أنه من إحداث الزنادقة كابن الراوندي، والفرابي، وابن سينا، والمتخذين للسماع هم الصوفية.
يراجع:: مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (11/562- 571) ، وتلبيس إبليس ص (242-250) ، ومجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية (1/47- 48) .
، ويركب عقيب صلاة الصبح يتصيد، ثم يرجع إلى القلعة (1) قبل الظهر. هكذا يعمل كل يوم إلى ليلة المولد. وكان يعمله سنة في ثامن الشهر، والسنة في الثاني عشر؛ لأجل الاختلاف الذي فيه، فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئاً كثيراً زائداً على الوصف، وزفها بجميع ما عنده من الطبول والمغاني والملاهي، حتى يأتي بها إلى الميدان، ثم يشرعون في نحرها، وينصبون القدور، ويطبخون الألوان المختلفة، فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة، ثم ينزل وبين يديه الشموع المشتعلة شيء كثير، وفي جملتها شمعتان أو أربع -أشك في ذلك- من الشموع الموكبية (2) ، التي تحمل كل واحدة منها على بغل، ومن ورائها رجل يسندها، وهي مربوطة على ظهر البغل، حتى ينتهي إلى الخانقاه. فإذا كان صبيحة يوم المولد أنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدي الصوفية على يد كل واحد منهم بقجة (3) ، وهم متتابعون، كل واحد وراء الآخر، فينزل من ذلك شيء كثير لا أتحقق عدده، ثم ينزل إلى الخانقاه، وتجتمع الأعيان والرؤساء، وطائفة كبيرة من بياض الناس، وينصب كرسي للوعَّاظ، وقد نصب لمظفر الدين برج خشب له شبابيك إلى الموضع الذي في غاية الاتساع، ويجتمع فيه الجند، ويعرضهم ذلك النهار، وهو تارة ينظر إلى عرض الجند وتارة إلى الناس والوعاظ، ولا يزال كذلك حتى يفرغ الجند
(1) - وهي قلعة إربل المشهورة.
(2)
- نسبة إلى الموكب، والموكب: جماعة من الناس ركباناً ومشاة، وكذلك القوم الركوب على الإبل للزينة، وكذلك جماعة الفرسان. يراجع: لسان العرب (1/802) مادة (وكب) .
(3)
- بقبجة: من المولد. وهي ظرف من القماش المعروف. . يراجع: شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل ص (79) .
من عرضهم، فعند يقدم السماط في الميدان للصعاليك، ويكون سماطاً عاماً فيه من الطعام والخير شيء كثير لا يحد ولا يوصف، ويمد سماطاً ثانياً في
الخانقاه للناس المجتمعين عند الكرسي، وفي مدة العرض، ووعظ الوعاظ يطلب واحداً واحداً من الأعيان والرؤساء، والوافدين لأجل هذا الموسم، من الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء، ويخلع على كل واحد، ثم يعود إلى مكانه فإذا تكامل ذلك كله، حضروا السماط وحملوا منه لمن يقع التعيين على الحمل إلى داره، ولا يزالون على ذلك إلى العصر أو بعدها، ثم يبيت تلك الليلة هناك، ويعمل السماعات إلى بكرة...... هكذا يعمل في كل سنة، وقد لخصت صورة الحال، فإن الاستقصاء يطول، فإذا فرغوا من هذا الموسم، تجهز كل إنسان للعودة إلى بلده فيدفع لكل شخص شيئاً من النفقة)) (1) ا. هـ.
وقال ابن كثير في ترجمة المظفر كوكبوري: (قال السبط: حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد، كان يمد ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى، قال: وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم، ويطلق لهم، ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم، وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على
(1) - يراجع: وفيات الأعيان (4/117-119) . وكان من ولع الملك المظفر بعمل المولد أن صنف له أبو الخطاب بن دحية مجلداً في المولد النبوي سماه: كتاب التنوير في مولد البشير النذير، فأجازه على ذلك بألف دينار.
يراجع: وفيات الأعيان (3/449، 450) .
أي صفة، فكان يصرف على هذه الدار في كل سنة مائة ألف دينار) (1) ا. هـ.
وقال السندوبي في وصف الاحتفال بالمولد النبوي في القاهرة (2) سنة 1250هـ- في هذا العهد كان العالم الإنجليزي (ادوارد وليم لين) يزور القاهرة فشاهد الاحتفال بالمولد النبوي -، فوصفه وصفاً شيقاً......
((قال- وليم لين- ((في أول ربيع الأول والشهر الثالث من شهور السنة الهجرية، يبدأ الاستعداد للاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وأكبر ساحات هذا الاحتفال شأناً: الجزء الجنوبي الغربي المعروف ببركة الأزبكية، وفي هذه الساحة أقيمت صيوانات (3) كثيرة للدراويش (4) ، وفيها يجتمعون كل ليلة للقيام بحلقات الذكر ما دام الاحتفال بالمولد، وبين هذه الصيوانات ينصب صاري (5) يثبت بالحبال ويعلق فيه من القناديل اثنا عشر أو
(1) - يراجع: البداية والنهاية (13/131) ، والحاوي للسيوطي (1/189، 190) .
(2)
- هي المدينة الكبيرة التي أحدثها جوهر الصقلي غلام المعز - الخليفة العبيدي - وذلك فور دخوله مصر سنة 358هـ، وقد فصل ابن تغزي بردي الكلام عنها في بنائها وصفتها وحاراتها وأسواقها فليراجع في كتابه ((النجوم الزاهرة)) (4/34- 54) . وكذلك المقريزي في الخطط والآثار (1/359-380) . وهي الآن عاصمة مصر. ويزيد سكانها عن ثمانية ملايين نسمة. تقع على نهر النيل.
(3)
- لم أعثر معنى لهذه الكلمة في المعاجم اللغوية المشهورة، ولعلها من الدخيل. والذي يتبادر إلى الذهن - والله أعلم - أن الصيوانات جمع صيوان: والصيوان هو الخيمة الكبيرة من الصوف أو القماش، والتي تستعمل عادة في المناسبات وتضرب عادة خارج المنازل.
(4)
- لم أعثر معنى لهذه الكلمة على معنى في الكتب التي اطلعت عليها. ولعل المراد بهم - والله أعلم - عوام الصوفية.
(5)
- صاري السفينة: الخشبة المتعرضة في وسطها. وهو دقل السفينة الذي ينصب في وسطها قائماً، ويكون عليه الشراع. يراجع: لسان العرب (14/460) مادة (صرى) .
أكثر، وحول هذا الصاري تقوم حلقة الذكر، وهي تتكون عادة من نحو خمسين أو ستين درويشاً.
وفي اليوم الثاني من الشهر ينتهون من إقامة معالم الاحتفال ومعداته - في العادة - ثم يشرعون في اليوم التالي في مظاهر الاحتفال ليلاً ونهاراً إلى الليلة الثانية عشرة من الشهر، وهي ليلة المولد الكبرى.... ففي النهار يتسلى الناس في الساحة الكبرى بالاستماع إلى الشعراء، والتفرج على الحواة (1) ونحوه.
أما الغواني فقد أكرهتهن الحكومة من عهد قريب على التوبة وترك مهنتهن من رقص ونحوه، فلا أثر لهن في احتفال هذه السنة، وكن في الموالد السابقة من أكثر العالمين في الاحتفال اجتذاباً للمتفرجين!!!.....
أما في الليل فتضاء الشوارع المحيطة بساحة المولد، بقناديل كثيرة، تعلق غالباً في فوانيس من الخشب، ومن دكاكين المأكولات، ونصبات الحلوى ما يبيت مفتوحاً طوال الليل، وكذلك القهاري التي قد يكون في بعضها، وفي غيرها من الأماكن: شعراء ومحدثون، ينصت إليهم كل من أراد من المارة.
أما في الليلتين الأخيرتين فيكون المولد أكثر زحاماً وأسباب التفرج والمسليات أعظم منها في الليالي السابقة (2) .
ثم وصف المؤلف الإنجليزي - ادوارد وليم لين - مجلساً كاملاً من مجالس الذكر التي تعمل في الموالد وغيرها فقال: وفي ليلة المولد الكبرى ذهبت إلى الساحة الرئيسة، فرأيت ذكراً قوامه ستين درويشاً، حول صاري، وكان ضوء كافياً لإنارة الساحة، وكان الدرويش حول الصاري من طوائف مختلفة وكانوا يقولون:[يا الله] ثم يرفعون رؤوسهم، ويصفقون جميعاً بأيديهم أمام وجوههم، وكان داخل حلقة الذكر خلق كثير قد جلسوا على الأرض، ولبث الذكيرة يذكرون على هذا النحو مقدار نصف ساعة، ثم انقسموا جماعات، كل جماعة من خمسة أو ستة، ولكنهم بقوا
(1) - الحواة: جمع حاوي، وهو الذي يرقي الحيات ويجمعها، والرجل يقوم بأعمال غريبة (مولد) والجمع حواة.
يراجع: المعجم الوسيط (1/209) مادة (حوى) .
(2)
- يراجع: تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي ص (174- 177) .
يكونون حلقة واسعة، ثم أمسك أفراد كل جماعة بعضهم ببعض كل منهم، ما عدا الأول قد وضع ذراعه اليمنى على ظهر من يليه يساراً، ويده على الكتف اليسرى - كتف من يليه - ثم اتجهوا إلى النظارة-المتفرجين-خارج الحلقة، وأخذوا يذكرون (الله) بصوت أجش عميق، وهم في هذه الحالة يتقدمون إلى الأمام خطوة، ثم إلى الوراء خطوة، مع تحرك كل منهم قليلاً إلى اليسار فكانت الحلقة كلها تدور ولكن ببطء شديد، وكان كل منهم يمد يده اليمنى نحو النظارة خارج الحلقة مشيراً بالتحية، وهؤلاء أو أغلبهم كانوا يردون السلام على الذكيرة، وأحياناً كان بعضهم يقبل اليد الممتدة إليه إذا قابلت وجهه متى كانوا قريبين منهم.......، ومن الوائد المتبعة عندهم أن يسكت من في الصواوين من الذكيرة، متى كان الذكر حول الصاري)) (1) ا. هـ.
وقال السندوبي - أيضاً - في كتابه ((تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي)) :
((ومن الليالي الغر التي لا أنساها ما حييت، ليلة الثاني عشر من ربيع الأول سنة 1364هـ الموافق 24فبراير سنة 1945م (2) والتي تُعدُّ بحق مثالاً لما يجب أن يكون عليه الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف في كل عام: فقد شهدت في ساحة المولد (3) معالم الزينة التي تأخذ بالألباب، ومظاهر الاحتفال التي بدت في شكل فخم، ونظام جليل هناك، وفي هذا الميدان المترامي الأطراف، أُقيم السرادق (4) الملكي البديع، وقد تجلَّى في زخارفه وماس (5) في أستاره ومطارفه (6) ، وفرش بالطنافس (7) الثمينة،
(1) - يراجع: تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي ص (188- 189) .
(2)
-أي: في عهد الملك فاروق الأول - آخر ملوك مصر -.
(3)
- ذكر السندوبي أنها تقع بصحراء قايتباي - المعروف عند العامة بصحراء الخفير -.
(4)
- السرادق: ما أحاط بالبناء، وقيل: كل ما أحاط بشيء نحو الشقة في المضرب، أو الحائط المشتمل على الشيء، وهو كل ما أحاط بشيء من حائط أو مضرب أو خباء.
يراجع: لسان العرب (10/157) مادة (سردق) . والمراد به هنا - والله أعلم -: المخيم الكبير.
(5)
- ماس: الميس التبختر، وماس يميس ميساناً: يراجع واختال.
يراجع: لسان العرب (6/244) مادة (ميس) .
(6)
- المطارف: جمع مطرف، وهي أردية من خز مربعة لها أعلام، وقيل: المطرف من الثياب: ما جعل في طرفيه أعلام. يراجع: لسان العرب (9/220) مادة (طرف) .
(7)
- الطنافس: جمع طنفسة: وهي البساط الذي له خَمْلٌ رقيق. يراجع: لسان العرب (6/127) مادة (طنفس) .
وصفت في رحابه الأرائك (1)
المحلاة بالذهب، وانتثرت في جنباته النمارق (2) الموصوفة، واسترسلت في ساحته الكلل (3) الحريرية، ورفعت على سواريه الأعلام الملكية، وعلقت في مداخله المصابيح الباهرة الأنوار، وفي سماواته الثريات الآخذة بالأبصار....، كما فُرشت أرض الميدان بالرمل الأصفر والأحمر، ووقف على أبوابه رجال الحرس الملكي في ملابسهم المزركشة
…
ووفد على هذه السرادق وزراء الدولة، وشيخ الأزهر، وطوائف العلماء!!، ووكلاء الوزارات، وكبار الموظفين، وكبراء الأمة، وأعيان الناس، من ذوي المراتب والألقاب، وجميع هؤلاء قد وقف في جلال ووقار، انتظاراً لتشريف حضرة الملك المعظم، أو من ينتدب للإنابة عنه في حضور الاحتفال.
وقبيل الظهر بساعة بينما هذا الجمع الحاشد في الانتظار.... وصل الركب الملكي الفخم، وقد أقبل جلالته بوجهه المشرق على هذه الجموع، مشيراً بيده الكريمة إشارة التحية والسلام، واستقبله بعد ذلك كبار الشخصيات الموجودة في السرادق.....، وعندما وصلت المركبة الملكية قبالة السرادق الملكي العظيم، سمعت طلقات المدافع تدوي تحية الملك، وتعالت أصوات قوات الجيش هاتفة بحياته، ثم أخذت الموسيقى تصدح بأنغامها الشجية بالسلام الملكي......، وبعد الانتهاء من عرض الجيش تقدمت بين يدي الملك مشايخ الطرق الصوفية برجالها ومريديها، حاملين لأعلامهم وشاراتهم، وكل شيخ يمر بين يديه يقف هنيهة لقراءة الفاتحة، وتلاوة بعض الأدعية المأثورة بطريقتهم المعروفة في القراءة والدعاء، ثم يهتفون جميعاً بحياة الفاروق ثلاثاً.
(1) - الأرائك: جمع أريكة: وهي سرير منجد في قبة أو بيت. وقيل: كل ما اتكئ عليه من سرير أو فراش أو منصة.
يراجع: لسان العرب (10/389، 390) مادة (أرك) .
(2)
- النمارق: هي الوسائد، ومنها ما يفرش تحت الراكب على الراحلة. يراجع: لسان العرب (10/361) مادة (نمرق) .
(3)
- الكلل: جمع كلة، وهي الستر الرقيق يضرب على القبور، وقيل: هي ما خيط من الستور فصار كالبيت، وقيل: هي ستر رقيق يخاط كالبيت يتوقى فيه من البعوض. يراجع: لسان العرب (11/595) مادة (كلل) .
ولما انتهى مرور أصحاب الطرق، عاد الملك إلى السرادق الملكي، حيث قدمت صنوف الحلوى، وأنواع المرطبات، فتناول منها جميع الحاضرين وبعد فترة قصيرة بارح جلالته السرادق الملكي قاصداً تشريف سرادق السادة البكرية (1) ، وما إن أشرف عليه حتى نهض شيخ مشايخ الطرق الصوفية (2) ، وحوله جماعة من كبار المشايخ لاستقبال جلالته بما يليق بمقامه الكريم، ثم ألقيت قصة المولد الشريف، وما إن وصل القارئ إلى ذكر مولده صلى الله عليه وسلم حتى نهض الملك واقفاً إجلالاً وإعظاماً لهذه الذكرى الكريمة وبوقوفه وقف الجمع الحاشد في كمال الخشوع والإكرام، وعند الانتهاء من إلقاء القصة والدعاء للملك، بدأ القرَّاء في تلاوة ما يتيسر من القرآن الكريم، بترتيل حسن، وتنغيم مطرب جميل!!! وجميع القراء من مشهوري المجودين، ومذكوري الملحنين!!، وأصحاب الأصوات الشجية، والأنغام العذبة الندية، ثم تقدم الخدم والفراشون بصواني الحلوى، وأكواب المرطبات إلى بين يدي الملك ليتناول منها ما يشاء، كما أديرت بعد ذلك على سائر الحاضرين فتناول كل أحد منهم ما لذَّ وطاب، وفي أثناء إلقاء القصة الشريفة لم تنقطع المدافع عن دويها المطلق بنظام محكم، وترتيب بديع، كما أخذ المذيع بالراديو في ترديد القصة من أبواقه لإسماع الجمهور، وبعد ذلك نهض الملك وقرأ الفاتحة، وشاركه في قراءتها جميع الحاضرين)) (3) ا. هـ.
وقال السندوبي - أيضاً - في معرض كلامه عن المولد سنة 1366هـ:
((وفي صبيحة يوم اثنا عشر من ربيع الأول عطلت أعمال الحكومة في وزاراتها ودواوينها ومصالحها، كما عطلت الأعمال في الدوائر المالية والتجارية احتفالاً بذكرى المولد النبوي الشريف على جاري العادة)) (4) ا. هـ.
(1) - وكان لبيت السادة البكرية في إحياء المولد النبوي الشأن العظيم والقدح المعلى، والعناية الفائقة منذ دهر. قاله السندوبي في تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي ص (190) .
(2)
- وهو في ذلك الوقت أحمد مراد البكري. يراجع: تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي ص (190) .
(3)
- يراجع: تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي ص (196- 200) .
(4)
- يراجع: تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي ص (212) .
فما تقدم من النصوص التي وصفت طريقه إحياء المولد النبوي في عصور مختلفة، يؤكد لنا أن هذه الاحتفالات ليست إلا تلبية لشهوات ورغبات النفوس المريضة من الناس، ومراسم هذه الاحتفالات من الأكل والشرب وإنشاد القصائد، واختلاط النساء بالرجال، وأعمال اللهو وما يؤول على القائمين على هذه الاحتفالات من الأموال، والعطايا والهدايا، خير شاهد على ما ذكرت.
فليس القصد كما يدعُون تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والفرح بذكرى مولده، وإحياء ذكره، وإثبات محبتهم له صلى الله عليه وسلم بتلك الاحتفالات المبتدعة.
وكون هذه الاحتفالات أمر محدث مبتدع فهذا كاف في ذمِّها، والتحذير منها، لاسيما وأن من ابتدعها إنما ابتدعها بسوء نية، كما تقدم بيان ذلك (1) .
وربَّما شذَّ عن هذه القاعدة أناس فعلوا ذلك عن حسن نية ولكن حسن النية لا يبيح الابتداع في الدين، فمن قبلنا من الملل كانوا يبتدعون قي دينهم أموراً بقصد التعظيم وحسن النية، حتى صارت أديانهم غير ما جاءت به رسلهم، ولو تساهل سلفنا الصالح كما تساهلوا، وكما تساهل الخلف الذين اتبعوا سننهم شبراً بشبراً وذراعاً بذراع، لضاع أصل ديننا، لاسيما وأن هذه الاحتفالات لا تخلو من الشرك الأكبر وهو التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به، ودعاؤه، واللجوء إليه، ومن المعلوم أن الشرك الأكبر مُخْرِجٌ من الملة.
ولكن الله تكفل بحفظ هذا الدين، وجعل السلف الصالح من تبع نهجهم وآثارهم سبب هذا الدين. ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم الحقيقة والصادقة هي طاعته فيما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، وتعظيمه يكون بالصلاة عليه، والالتزام بسنته، والعمل بها، والذبِّ عنها، كما سنوضح ذلك في المبحث التالي - إن شاء الله - والله أعلم.
(1) - في المبحث الأول من الفصل الثالث في هذا الكتاب.