الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثاً:
أسباب نشأة البدع:
الابتداع هو الإحداث في الدين، والإحداث في الدين له أسباب عدة، منها:
الجهل بأدوات الفهم.
الجهل بالمقاصد.
تحسين الظن بالعقل.
اتباع الهوى.
القول في الدين بغير علم وقبول ذلك من قائله.
الجهل بالسنة، ويشمل:
الجهل بالتمييز بين الأحاديث المقبولة وغيرها.
الجهل بمكانة السنة من التشريع.
7.
اتباع المتشابه.
الأخذ بغير ما اعتبره الشارع طريقاً لإثبات الأحكام.
الغلو في بعض الأشخاص.
وقد تجتمع هذه الأسباب، وقد تنفصل، فإذا اجتمعت، فتارة يجتمع منها اثنان، وتارة يجتمع ثلاثة.
وبذلك تتحدد الأسباب المؤدية إلى حدوث البدعة، وهي:
السبب الأول: الجهل بأدوات الفهم.
لقد أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن عربياً، جار في ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب، وقد أخبر الله بذلك فقال سبحانه:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} (1)، وقال تعالى:{قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (2)، وقال تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ*بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (3) وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ
(1) - سورة يوسف، الآية:2.
(2)
-سورة الزمر: الآية28.
(3)
- سورة الشعراء، الآيات: 193-195.
بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (1) .
فمن هذا نعلم أن القرآن نزل عربياً على رسول عربي لينذر العرب أولاً، ثم ينذر الأمم كافة، وأن الشريعة لا تفهم إلا إذا فهم اللسان العربي، ويعبر عن هذا قول الله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً......} (2) .
وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم بعث للناس كافة فإن الله جعل جميع الأمم، وعامة الألسنة في هذا الأمر، تبعاً للِّسان العربي، وإذا كان كذلك، فلا يُفهم كتاب الله تعالى إلا من الطريق الذي نزل عليه، وهو اعتبار ألفاظها ومعانيها وأساليبها.
وأنها فيما فطرت عليه من لسانها، لها دلالات وأدوات لفهم أدوات المقاصد والمعاني، وهي:
الخطاب بالعام يرادُ به الظاهر، مثاله: قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (3) . فهذا من العام الظاهر الذي لا خصوص فيه.
الخطاب بالعام يراد به العام من وجه والخاص من وجه، مثاله: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (4) . فهذا عام لم يخرج عن أحد من الناس؛ لأنَّ كل إنسان خلق من ذكر وأنثى، عدا عيسى عليه السلام. ثم قال الله تعالى بعد ذلك:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (5) ، فهذا خاص؛ لأنَّ التقوى إنما تكون من المكلف العاقل، فكان في الآية عام وهو خلق الناس والشعوب والقبائل، وكان فيها خاص وهو إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
الخطاب بالعام يُراد به الخاص، ومثاله قوله تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} (6) . فالمراد بالناس الآخرين الخصوص لا العموم، وإلا فالمجموع لهم الناس ناس أيضاً، وهم قد خرجوا، لكن لفظ الناس يقع على ثلاثة
(1) - سورة النحل، الآية:103.
(2)
- سورة الرعد، الآية 37.
(3)
- سورة هود: الآية6.
(4)
- سورة الحجرات: الآية13.
(5)
-سورة الحجرات: الآية13.
(6)
- سورة آل عمران: الآية173.
منهم، وعلى جميع الناس، وعلى ما بين ذلك.
الخطاب بالظاهر يًُراد به غير الظاهر، مثاله: قوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} (1)، فإنهُ لمَّا قال:{كَانَتْ ظَالِمَةً} دلَّ على أن المراد أهلها.
فإذا ثبت هذا، فيجب على الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أصولاً وفروعاً أمران:
أحدهما:
…
أن لا يتكلم في شيء من ذلك حتى عربياً أوكالعربي، عالماً بلسان العرب بالغاً فيه ما بلغ العرب، أو ما بلغ أئمة اللغة المتقدمون (2) ، وليس المراد أن يكون حافظاً كحفظهم وجامعاً كجمعهم، وأنَّما المراد أن يصير فهمه عربياً في الجملة.
ثانيهما:
إذا أشكل عليه لفظ في الكتاب أو في السنة، فلا يقدمُ على القول فيه دون أن يستظهر بغيره، ممن له علم بالعربية، فقد يكون إماماً فيها ولكنه يخفى عليه الأمر في بعض الأوقات، فالأولى في حقه الاحتياط؛ إذ قد يذهب على العربي المحض بعض المعاني الخاصَّة حتى يسأل عنها، كما خفي على ابن عباس رضي الله عنهما معنى:{فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ} حتى قال أحد الأعراب في خصومة في بئر: أنا فطرتها، أي: أنا ابتدأتها (3) .
ومن الأمثلة على تحريف المعاني القرآنية للقصور في اللغة وفي فهم أساليها:
قول من زعم أنه يجوز للرجل نكاح تسع من الحلائل، مستدلاً بقوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (4)، حيث جمع أربعة إلى ثلاثة إلى اثنين فنتج تسعاً ولم يشعر بمعنى فعال ومفعل في كلام العرب وأن معنى الآية:(فانكحوا إن شئتم اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً (5) . (6)
(1) - سورة الانبياء: الآية11.
(2)
- مثل الخليل بن أحمد، وسيبويه، والكسائي، والفرَّاء.
(3)
- يراجع: تفسير ابن كثير (3/546) ، تفسير سور فاطر.
(4)
- سورة النساء، الآية:3.
(5)
- يراجع: تفسير ابن كثير (1/450) ، تفسير سورة النساء.
(6)
- يراجع: الاعتصام للشاطبي (2/293- 304)، ويراجع: البدعة والمصالح المرسلة ص (125- 131) .
السبب الثاني: الجهل بالمقاصد.
مما يجب على الناظر في الشريعة الإسلامية أمران:
الأمر الأول:
أن يعتقد فيها الكمال لا النقصان، وأن يرتبط بها ارتباط طاعة وثقة وإيمان في عباداتها وعاداتها ومعاملاتها، وأن لا يخرج عنها؛ لأن الخروج عنها مروق من الدين، لأنه قد ثبت كمالها وتمامها، فالزائد عليها أو المنقص منها هو المبتدع.
فالشريعة قد جاءت كاملة، والدين قد أتمه الله ورضية لنا، قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} (1) .
والرسول صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، قال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (2) . وقد جاء بالرسالة الجامعة الخاتمة، فيستحيل أن يترك الله الناس بغير بيان، وبغير مرشد وهو القائل سبحانه: {
…
مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (3) . إلا إذا كان شرعه باقياً صالحاً كافياً كاملاً، حجَّة على هذه الدهور إلى يوم القيامة، وقد صرح سبحانه وتعالى بحفظه للرسالة، حتى تكون الحجة سليمة بعيدة عن الشكوك والريب والظنون، وتظل تعاليمها صافية ناصعة، لا تمسها يد الإنسان ولا فكره السقيم وهواه الشارد، فقال سبحانه:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (4) .
فبعد هذا كله، يجب الانقياد لهذه الشريعة والاعتقاد الجازم بكمالها ووفائها بما تتطلبه الحياة دائماً وأبدأً إلى ما شاء الله. واعتقاد غير هذا ضرب من المروق والابتداع.
الأمر الثاني:
…
أن القرآن لا تضاد بين آياته ولا بين الأحاديث النبوية، ولا بين أحدهما مع الآخر، بل الجميع يصدر من نبع واحد، ويخرج من مشكاة واحدة، وينتظمه شرع واحد، وغاية واحدة. فإذا جهل إنسان هذا، أداة جهله إلى الشذوذ والخروج والابتداع، وبيان ذلك:
(1) -سورة المائدة: الآية3.
(2)
-سورة الأحزاب: الآية40.
(3)
- سورة الاسراء: الآية15.
(4)
- سورة الحجر:9.
أن الكفار وهم أهل الفصاحة والبلاغة، وأرباب البيان واللسان، والمتربصين برسول الله صلى الله عليه وسلم لمحاولة إثبات أن ما جاء به من القرآن هو من عنده قد حاورا في بيان القرآن وسبكه، وقد أخبر الله سبحانه عن ذلك فقال:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (1) .
وكذلك ما أخرجه البخاري عن سعيد بن جبير رحمه الله قال: قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ، قال -قوله تعالى-:{فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} (2) ، قوله تعالى {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} (3) ، قوله تعالى {
…
وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} (4) ، قوله تعالى {رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (5) . فقد كتموا في هذه الآية، وقال تعالى:{....أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} (6) إلى قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (7) . فذكر خلق السماء قبل خلق
(1) - سورة النساء:82.
(2)
- سورة المؤمنون: الآية101
(3)
-سورة الصافات:27.
(4)
- سورة النساء، الآية:42.
(5)
-سورة الأنعام: الآية23.
(6)
-سورة النازعات: الآية27.
(7)
-سورة النازعات:30.
الأرض، ثم قال: {
…
َإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ....} (1) إلى قوله: {.... طَائِعِينَ} (2) . فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء، وقال تعالى: {
…
وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (3) ، {....عَزِيزاً حَكِيماً} (4)، {....سَمِيعاً بَصِيراً} (5) . فكأنه كان ثم مضى. فقال ابن عباس رضي الله عنهما:{فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} (6) ، في النفخة الأولى ثم ينفخ في الصور، فصعق من في السموات ومن الأرض، إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك، ولا يتساءلون. ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
وأما قوله: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ، وقوله:{وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} : فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون: تعالوا نقول لم نكن مشركين، فخُتم على أفواههم، فتنطق أيديهم، فعند ذلك عُرِف أن الله لا يُكتمُ حديثاً، وعنده {.....يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} (7) .
وخلق الأرض في يومين، ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين، ثم دحا الأرض، ودحوها أن أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال والجمال والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله {دَحَاهَا} وقوله:{خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} ، فجعلت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وخلقت السموات في يومين.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً} : سمى نفسه ذلك قوله، أي لم يزل كذلك، فإن الله
(1) - سورة فصلت: من الآية9.
(2)
- سورة فصلت: الآية11.
(3)
- سورة النساء: الآية96.
(4)
-سورة النساء: الآية165.
(5)
- سورة النساء: الآية134.
(6)
- سورة المؤمنون: الآية101
(7)
- سورة النساء: الآية42.
لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلا من عند الله (1) . ا. هـ (2) .
السبب الثالث: تحسين الظن بالعقل:
من أسباب حدوث البدع تحسين الظن بالعقل، وبيان ذلك من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول:
أن الله جعل للعقول في إدراكها حدّاً تنتهي إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبيلاً إلى الإدراك في كل مطلوب، ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري سبحانه وتعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون؛ إذ لو كان كيف يكون؟
فعلم الله لا ينتهي، وعلم العبد ينتهي، وما ينتهي لا يساوي ما لا ينتهي.
وقد دخل في هذه الكلية ذوات الأشياء جملة وتفصيلاً، وصفاتها وأحوالها، وأفعالها وأحكامها، جملة وتفصيلاً.
فالشيء الواحد من جملة الأشياء يعلمه الباري تعالى على التمام والكمال، بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أحواله ولا في أحكامه، بخلاف العبد؛ فإنَّ علمه بذلك الشيء قاصر ناقص، وهذا في الإنسان أمر مشاهد محسوس لا يرتاب فيه عاقل.
إن المعلومات عند العلماء تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1-
قسم ضروري: لا يمكن التشكيك فيه كعلم الإنسان بوجوده، وأن الواحد أكثر من الاثنين.
2-
وقسم لا يعلمه البتة إلا أن يُعلم به، أو يجعل له طريق إلى العلم به: وذلك كعلم المغيبات عنه، سواء كانت قريبة منه أو بعيدة عنه.
3-
قسم نظري: يمكن أن يعلمه وممكن أن لا يعلمه، وتلك هي الممكنات التي تدرك
(1) - يراج: صحيح البخاري المطبوع مع فتح الباري (8/555- 559) ، كتاب التفسير. وقد رواه البخاري تعليقاً، ثم قال في آخره:(حدثني يوسف بن عدي حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بهذا) - ورواه المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -.
(2)
- يراجه: الاعتصام للشاطبي (2/304- 317) ، وكذلك البدعة والمصالح المرسلة ص (133- 142) .
بواسطة لا بنفسها إلا أن يعلم بها إخباراً.
وقد زعم أهل العقول أنفسهم أن النظريات لا يمكن الاتفاق عليها عادة؛ لاختلاف القرائح والأنظار، وإذا وقع الخلاف فيها، كان لابد من مخبر يأتي بالحق أو مجتهد يُبين الصواب، وقد تعارضت الأدلة لتعارض العقول؛ إذ لابد أن يكون أحد المجتهدين مصيباً والآخر على شبهة، فلابد إذاً من إخبار يكون صادقاً لا يحتمل الكذب أو الضلال، ولا يكون هذا إلا في الوحي والعلم الإلهي الذي يكون على يد رسول.
إذن، لا وثوق بالعقل، ولا مناص من الرجوع إلى الوحي الإلهي.
الوجه الثاني:
لما ثبت قصور العقل في الإدراك والعلم، ثبت أنه قد يحيط بشيء دون آخر؛ لأن علمه غير محيط وشامل، فما ادَّعى علمه لم يخرج عن تلك الأحكام الشرعية التي زعم أنه أدركها؛ لإمكان أن يدركها من وجه دون وجه، وعلى حال دون حال، والدليل على ذلك: أحوال أهل الفترات فإنهم وضعوا أحكاماً على العباد بمقتضى السياسات، لا تجد فيها أصلاً منتظماً، وقاعدة مطردة على الشرع بعد ما جاء، بل استحسنوا أموراً تجد العقول بعد تنويرها يالشرع تنكرها، وترميها بالجهل والضلال، مع الاعتراف بأنهم أدركوا بعقولهم أشياء قد وافقت وجاء الشرع بإقرارها وتصحيحها، ومع أنهم كانوا أهل عقول باهرة، وأنظار صافية وتدبيرات لدنياهم شاملة، لكنها بالنسبة إلى ما لم يصيبوا فيه قليلة، فلأجل هذا كله وقع الإعذار والإنذار، وبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجَّةً بعد الرسل، والله الحجة البالغة، والنعمة السابغة.
فالإنسان مهما ظن أنه أتقن وأجاد وأبدع في أمر من الأمور إلا ويتبين له قصوره، ويتمنى أن يعيد هذا العمل ويلحظ فيه ما غاب عنه، وهذا يدل على القصور الذي يعتري العقل، ولكن الشرع بخلاف ذلك؛ لأنه من عند الحكيم الخبير، الذي أحاط بكل شيء علماً، وكل شيءٍ عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.
الوجه الثالث:
أن ما ندري علمه في الحياة ينقسم كما تقدم إلى: بدهي، وضروري، وغيره وهو النظر الكسبي، والنظري لا يعرف إلا من طريق ضروري، إما بواسطة أو بغير واسطة؛
إذ قد اعترف الجميع أن العلوم المكتسبة لابد في تحصيلها من توسط مقدمتين معترف بهما، فإن كانتا ضروريتين فذاك، وإن كانتا مكتسبتين، فلا بد في اكتساب كل واحدة منهما من مقدمتين، وينظر فيهما كما تقدم، وكذلك إن كانت واحدة ضرورية وأخرى مكتسبة، فلابد للمكتسبة من مقدمتين، فإن انتهينا إلى ضرورتين فهو المطلوب، وإلا لزم التسلسل أو الدور وكلاهما محال. فإذاً، لا يمكن أن نعرف غير الضروري إلا منهما مما عقلنا وعلمنا من مشاهدة باطنة كالألم واللذة، أو بديهي للعقل كعلمنا بوجودنا، وما أشبه ذلك مما هو معتاد لنا في هذه الدار؛ لأننا لم يتقدم لنا علم إلا بما هو معتاد في هذه الدار. أما الشيء غير المعتاد، فقبل النبوات لم يكن لنا به علم ولا معرفة، فلما جاءت النبوات بما ليس لنا به علم ولا عادة لم نحل ما لم نعرف إلا على ما عرفنا، ولذلك أنكر الناس هذا لأنهم لم يعرفوه، كقلب العصا ثعباناً، وفرق البحر.
وعلى هذا ينبغي إدراك أمرين:
الأول: أن العقل ما دام على هذه الصورة لا يجعل حاكماً بإطلاق، وقد ثبت عليه حاكم بإطلاق وهو الشرع، بل الواجب على العاقل أن يقدم ما حقه التقديم وهو الشرع، ويؤخر ما حقه التأخير وهو نظر العاقل القاصر؛ لأنه لا يصح تقديم الناقص على الكامل؛ لأنه خلاف المعقول والمنقول.
الثاني: إذا وجد الإنسان في الشرع إخباراً يقتضي ظاهراً خرق العادة المألوفة التي لم يعرفها ولم يسبق له أن رآها، أو علم بها علماً صحيحاً يصدق به، فلا يجوز أن يقدم لأول وهلة الإنكار بإطلاق، بل أمامه أحد أمرين:
إما أن يصدق به حسب ما جاء به، ويكل العلم فيه إلى عالمه، وهو ظاهر قوله تعالى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (1) .
أن يتأوله على ما يمكن حمله عليه مع الإقرار بمقتضى الظاهر.
والأمثلة على خوارق العادات كثيرة منها:
وزن الأعمال، وعذاب القبر، وإنطاق الجوارح شاهدة على صاحبها، ورؤية الله في الآخرة (2) .
(1) -سورة آل عمران: الآية7.
(2)
- يراجع: الاعتصام (2/328-331) .
فالحاصل: أنه لا ينبغي للعقل أن يتقدم بين يدي الشرع فإنه من التقدم بين يدي الله ورسوله (1) .
السبب الرابع: اتباع الهوى.
يطلق الهوى على هوى النفس، وهوى النفس: إراداتها، والجمع: أهواء، والهوى: محبة الإنسان الشيء وغلبته على قلبه. قال تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} (2)، أي: نهاها عن شهواتها، وما تدعو إليه من معاصي الله عز وجل، والهوى على إطلاقه لا يكون إلا مذموماً (3) .
ولذلك سمي أهل البدع، أهل الأهواء؛ لأنهم اتبعوا أهواءهم، فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها، والتعويل عليها، حتى يصدروا عنها، بل قدموا أهواءهم، واعتمدوا على آرائهم، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظوراً فيها من وراء ذلك (4) .
واتباع الهوى يتجلى في مظاهر عدة نتائجها عظيمة الخطر، من هذه المظاهر:
الانحراف عن الصراط المستقيم، يؤيد هذا قول الحق تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (5)، وقول تعالى:{وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} (6)، وقال تعالى:{وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (7) .
فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتبع الشريعة ولا يتبع الهوى، ولا يركن إلى أهواء الناس، فإنه إذا مال إلى أهوائهم انحرف عن الصراط المستقيم.
اتباع المتشابه وترك المحكم؛ لأنَّ في المتشابه طلبتهم من التأويل، وإرضاء ما
(1) - يراجع: الاعتصام (2/318-337) .
(2)
-سورة النازعات: الآية40.
(3)
- يراجع: لسان العرب (15/372/373) ، مادة (هوا) .
(4)
- يراجع: الاعتصام (2/176) .
(5)
- سورة الجاثية، الآية:18.
(6)
-سورة الشورى: الآية15.
(7)
- سورة الأنعام: الآية150.
في قلوبهم من شهوة ومرض وفتنة وفساد، قال تعالى: {
…
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (1)
التقيد بالشهوات والعمل لها، والسير وراء مظاهر الحياة الزائفة وترك ما أمرهم الله سبحانه وتعالى به، قال تعالى:{.....إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (2) .
صاحب الهوى أعمى أصم أبكم، لا يرى خيراً ولا يسمع نصحاً، ولا ينطق خيراً، قال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ....} (3) .
أن صاحب الهوى منافق؛ لأنه يميل حيث يميل هواه فيظهر بمظهر الجد والحزم أمام الناس، ولكنه يفعل ما يمليه عليه هواه، وقد أحسن الله وصف أهل الأهواء بقوله تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} (4) .
لهذا، فإن صاحب الهوى معرض لكل هذه المظاهر الخطيرة مهلك لنفسه ولغيره، ومن أجل ذلك ورد التحذير من اتباع الهوى في الكتاب والسنة (5) .
والأمثلة كثيرة على كون الإعراض عن الدليل والاعتماد على أصحاب الهوى سبب في حدوث البدع، والخروج عن منهج الصحابة والتابعين والسلف الصالح، فإنهم لما اتبعوا أهواءهم بغير علم ضلوا عن سواء السبيل.
ومن هذه الأمثلة- وهو أشدها -: قول من جعل اتباع الآباء في أصل الدين، هو المرجوع إليه دون غيره، حتى ردُّوا بذلك براهين الرسالة، وحجَّة القرآن، ودليل العقل، فقالوا:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} (6) .
(1) -سورة آل عمران: الآية7.
(2)
- سورة لنجم: الآية23.
(3)
- سورة الجاثية: الآية23.
(4)
- سورة محمد:16.
(5)
- يراجع: الاعتصام (2/337- 346) ، والبدعة والمصالح المرسلة ص (149، 150) .
(6)
- سورة الزخرف: الآية22.
فحين نُبِّهُوا على وجه الحجَّة بقوله تعالى: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} (1) ، لم يكن لهم جواب إلَاّ الإنكار، اعتماداً على اتباع الآباء، واطراحاً لما سواه ولم يزل مثل هذا مذموماً في الشرائع، كما حكي الله سبحانه وتعالى عن قوم نوح عليه السلام بقوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} (2) . وعن قوم إبراهيم-عليه السلام بقوله تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ*أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ* قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (3) . إلى آخر ذلك مما في معناه، فكان الجميع مذمومين حين اعتبروا واعتقدوا أن الحقَّ تابع لهم، ولم يلتفتوا إلى أنَّ الحق هو المقدَّمُ (4) .
السبب الخامس: القول في الدين بغير علم وقبول ذلك من قائله.
لقد حذَّر الله سبحانه وتعالى من القول بغير علم، وجعل ذلك من المحرمات، بل من أكبرها، فقال في كتابه العزيز:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (5) . فقد عطف الله سبحانه وتعالى القول بغير علم على الإشراك بالله وكفى بذلك ذمّاً وترهيباً.
وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ
…
} (6) . فالقول بغير علم كذب، والكذب حرام، واستجابة لدعوة الشيطان. وقد حذرنا الله تعالى من اتباعه فقال جل من قائل:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ *إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (7) .
وقد وردت أحاديث تحذر من الفتوى أو الحكم بغير علم، وخاصة فيها يتعلق
(1) - سورة الزخرف: الآية24.
(2)
-سورة المؤمنون: الآية24.
(3)
- سورة الشعراء: الآيات 72 - 74.
(4)
- يراجع: الاعتصام (2/347) .
(5)
-سورة لأعراف:33.
(6)
- سورة الأنعام: الآية144.
(7)
- سورة البقرة:168- 169.
بأمور الدين. قال صلى الله عليه وسلم: ((من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه)) (1) . وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: ((القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار. فإما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار)) (2) .
والقولُ في الدِّين بغير علم إضلال، وعلى من أضلَّ إثمُ من وقع في الضلال بسبب إضلاله، فضلاً عن إثمه؛ لوقوعه في الضلال، قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (3) .
فيجب على من لا يعلم أن يقول: لا أدري، أو أن يسأل غيره، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسْوةٌ حسنة، فعندما سُئِل عن شرِّ البقاع، قال:((لا أدري)) (4) .
وقال عليه الصلاة والسلام: ((ما أدري أتُبَّعٌ لعين هو أم لا، وما أدري أعزير نبي هو أم لا)) (5) .
ولَمَّا سُئِل ابن عمر- رضي الله عنهما عن مسألة فقال: ((لا علم لي بها، فلما
(1) - رواه أبو داود في سننه (4/66) كتاب العلم، حديث رقم (3657) . ورواه الحاكم في المستدرك (1/126) كتاب العلم، وقال: على شرطهما ووافقه الذهبي في تلخيصه. ورواه غيرهما.
(2)
- رواه أبو داود في سننه (4/5) ، كتاب الأقضية، حديث رقم (3573) . ورواه ابن ماجه في سننه (2/776) ، كتاب الأحكام، حديث رقم (2315) . وذكره السيوطي في الجامع الصغير (2/264) رقم (6189) وأشار إلى أنه صحيح.
(3)
- سورة النحل:24، 25.
(4)
- رواه أحمد في مسنده (1/81) ، ورواه الحاكم في المستدرك (1/89)، وقال: قد احتجا جميعاً برواة هذا الحديث إلا عبد الله بن محمد بن عقيل. وسكت عنه الذهبي. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (2/128) ، رقم (1545، 1546) . ورواه الخطيب في الفقيه والمتفقه (2/170) . وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد: أنه رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني والبزار، ورجال أحمد وأبي يعلى والبزار رجال الصحيح خلا عبد الله بن محمد بن عقيل وهو حسن وفيه كلام. يراجع: مجمع الزوائد (4/76) .
(5)
- رواه أبو داود في سننه (5/34، 35) . حديث رقم (4674) .
أدبر الرجل قال ابن عمر: نِعْم ما قال ابن عمر: سئِل عما لا يعلم فقال: لا علم لي به)) (1) .
فإذا مارس الجاهلُ العلم، وأفتى في الدِّين، وقع في البدعة قاصداً أو غير قاصد، وكان مبتدعاً بادِّعائهِ العلم أولاً، وبما استحدثه مما خالف الشرع بعد ذلك، وانتشار ذلك سبب في قبض العلم، وفشو الجهل والظلام، قال صلى الله عليه وسلم:((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يُقبضُ العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئِلُوا فأفتُوا بغير علم فضلُّوا وأضلًّوا)) (2)
على أن الجهل ليس قاصراً على من ليس عنده علم مطلقاً، فإنه يشمل من عنده علم كثير، ولكنه يتجاوز ما يعلم إلى ما لا يعلم ويتجرأ على ما لا يعرف، بلا دليل واضح، أو اجتهاد مقبول.
وألوان الجهل كثيرة، وكلهما تؤدي إلى إحداث البدع؛
فمنها: الجهل بأساليب اللغة.
ومنها: الجهل بالسنَّةِ، وسنتكلم عنه في السبب التالي من أسباب الابتداع.
(1) - رواه الحاكم في المستدرك (3/561) كتاب معرفة الصحابة، ولم يعلق عليه. وكذلك الذهبي. ورواه الدارمي في سننه (1/63) . ورواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/52) .
(2)
-رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (1/194) كتاب العلم، حديث (100) . ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (16/223، 224) كتاب العلم. وفي رواية مسلم: حتى إذا لم يترك عالماً)) .
السبب السادس: الجهل بالسنة:
ويشمل:
أ- الجهل بالتمييز بين الأحاديث المقبولة وغيرها.
ب- الجهل بمكانة السنة من التشريع.
أ- الجهل بالتمييز بين الأحاديث المقبولة وغيرها.
ومعنى ذلك: الجهل بمصطلح الحديث، وعدم التفريق بين الأحاديث الصحيحة وبين الأحاديث الضعيفة والموضوعة أيضاً، ونتيجة لهذا الجهل اعتمد المبتدعة على الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والضعيفة، كمصدر من مصادر التشريع، والحكم على الأمور المحدثة بأنها سنن.
وقد اتفق العلماء على عدم الأخذ بالأحاديث الموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم اعتبارها، لا في فضائل الأعمال ولا غيرها؛ لأنها ليست من الشرع، وكذلك لما ورد في ذلك من الآثار.
قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ....} (1)، وقال تعالى:{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (2)، وقال صلى الله عليه وسلم:((من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) (3)، وقال-عليه السلام:((لا تكذبوا على فإنَّهُ من كذب على فليلج النار)) (4) .
وقد شدَّد العلماء في النكير على ذلك: قال الشيخ أبو محمد الجويني
(1) - سورة الاسراء: الآية36.
(2)
-سورة البقرة:169.
(3)
- رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (1/202) كتاب العلم، حديث (110) . ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (1/67، 68) المقدمة.
(4)
- رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (1/199) كتاب العلم، حديث (106) . ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (1/66) المقدمة.
الشافعي: (يكفر من تعمد الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم ولو لم يستحله، والجمهور على أنه لا يكفر بذلك، ولكنه يفسق وتُردّ رواياته كلها، ويبطل الاحتجاج بجميعها)(1) .
فكثير من البدع التي أُحدثت، قد اعتمد محدثوها على أحاديث ضعيفة بل أكثرها موضوع، كالذين اخترعوا أذكاراً وأدعية خاصة لبعض الشهور، وتخصيص بعض الشهور بالصيام أو العمرة، والتوسيع على أهل البيت في عاشوراء والاكتحال فيه والاختضاب، وغير ذلك من البدع التي هي موضوع بحثنا هذا. فلو كان لهم علم بالسنة، ما اعتمدوا على هذه الأحاديث الموضوعة التي سبق وذكرت أنه لا يعتمد عليها أبداً لا في الفضائل ولا في غيرها.
أما من دعا إلى هذه البدع، معتمداً على هذه الأحاديث الموضوعة مع علمه بأنها موضوعة، فهذا من أصحاب الهوى المتّبع الذين تقدم ذكرهم ومن المتبعين للمتشابه، القاصدين هدم الإسلام ومحاربة أهله، والتشويش على الناس في دينهم متخذين في ذلك أساليب مُقنَّعة، ومن ثم تركهم للسنن ثم الواجبات، مكتفين بما أحدث من هذه البدع.
ب- الجهل بمكانة السنة من التشريع.
إذا كان الجهل بقواعد الحديث- التي يتم على أساسها الحكم عليه بالقبول أو الردّ- قد أدّى إلى الوضع، ودخول ما ليس من السنة فيها، ومعارضة ما ثبت منها به، فإن الجهل بمكانة السنة من الشرع قد أدَّى إلى الخروج عن حد الاتباع، الذي وجهت الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة إليه، تحت دعوى موافقة العقل ونحو ذلك.
ومن أظهر المواقف الشائعة فيما يتصل بهذا الموضوع - موضوع إنكار ما ثبت بالسنة الصحيحة صريحاً واضحاً تحت زعم موافقة العقل - إنكار من أنكر رؤية الله في الآخرة، أو نزول المسيح آخر الزمان، أو عذاب القبر ونحو ذلك.
وانقسم المبتدعة في موقفهم من السنة كأساس تشريعي إلى قسمين:
1-
قسم أنكر ما عدا القرآن جملة وتفصيلاً.
2-
وقسم أنكر أخبار الآحاد.
(1) - يراجع: شرح النووي على صحيح مسلم (1/69) ، المقدمة
أما القسم الأول: فقد استدلُّوا لما قالوا بـ:
أن في القرآن بياناً لكل شيء ولا حاجة معه إلى سواه، قال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} (1)، قال تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (2) .
قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3) ، ولو كانت السنة حجة لتكفَّل الله بحفظها، ولما حصر الحفظ في القرآن بتقديم الجار والمجرور.
أدلة منكري خبر الواحد (4) :
وما استدلُّوا به واهٍ لا حجة فيه؛ ذلك لأنَّ السنة إنما هي بيان للقرآن، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (5)
والعمل بالسنة ليس إلا عملاً بالقرآن، واتباعاً لتوجيهه في الأخذ بها، ثم إن السنة توضح في أحيان كثيرة ما يُراد من الآيات القرآنية، وبدونها لا يمكن فهم المراد من القرآن وبالتالي لا يتيسر العمل بها.
ومثال ذلك: ورد في القرآن الأمر بإقامة الصلاة على العموم، وقد أخرجت السنة من ذلك النساء الحيض، وحددت عدد الركعات، وكيفية الأداء.... ونحو ذلك.
وجاء القرآن بأحكام الميراث بين المسلمين عامة، ومنعت السنة أن يرث قاتل ممن قتله.
وفي الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه قال: ((لما نزلت {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} (6)، قال الصحابة: وأينا لم يظلم؟! فنزلت: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ
(1) -سورة النحل: الآية89.
(2)
-سورة الأنعام: الآية38.
(3)
- سورة الحجر:9.
(4)
- ذكر هذه الأدلة: الآمدي في كتابه الإحكام (2/67-71)، ويراجع كذلك: كتاب السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص (168) .
(5)
-سورة النحل: الآية44.
(6)
- سورة الأنعام: الآية82.
عَظِيمٌ} (1)) ) (2) .
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((لعن الله الواشمات والمستوشمات (3) ، والمتنمصات (4)
والمتفلجات (5) للحسن المغيرات خلق الله تعالى، فقالت امرأة كانت تقرأ القرآن - أي تحفظه - تسمى أم يعقوب (6) : ما هذا؟ فقال عبد الله: ومالي لا ألعن من لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله؟ قالت: والله لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدته، فقال عبد الله: والله لئن قرأتيه وجدتيه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (7)) ) (8) .
وعن الحسن قال: بينما عمران بن حصين يحدث عن سنة نبينا صلى الله عليه وسلم إذ قال
(1) - سورة لقمان: الآية13.
(2)
- رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (8/294) كتاب التفسير، حديث (4629) .
(3)
- الواشمات والمستوشمات: الوشم: أن يُغرز الجلد بإبرة، ثم يحشى بكحل أو نيل، فيزرق أثره، أو يخضر.
يراجع: النهاية في غريب الحديث والأثر (5/189) .
(4)
- المتنمصات: النامصة: التي تنتف الشعر من وجهها، والمتنمصة: التي تأمر من يفعل بها ذلك.
يراجع: النهاية في غريب الحديث والأثر (5/119) .
(5)
- المتفلجات: الفلج: فرجة ما بين الثنايا والرباعيات، والمتفلجات: النساء اللاتي يفعلن ذلك بأسنانهن رغبة في التحسين.
يراجع: النهاية في غريب الحديث والأثر (5/468) .
(6)
- قال ابن حجر العسقلاني: لا يُعرف اسمها. يراجع: فتح الباري (8/630) .
(7)
- سورة الحشر: الآية7.
(8)
- رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع الفتح الباري (8/630) ، كتاب التفسير، حديث رقم (4886) . ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (14/105-107) كتاب اللباس والزينة.
له رجل: يا أبا نجيد! حدثنا بالقرآن، فقال له عمران: أنت وأصحابك يقرؤون (1) القرآن، أكنت محدثي عن الصلاة وحدودها؟ أكتب محدثي عن الزكاة في الذهب والإبل والبقر وأصناف المال، ولكن قد شهدتُ وغبت، ثم قال: فرض علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة كذا وكذا. فقال الرجل: أحييتني أحياك الله. قال الحسن: فما مات ذلك الرجل حتى صار من فقهاء المسلمين.......)) (2) .
وكان طاوس يصلي ركعتين بعد العصر، فقال له ابن عباس:((اتركهما. فقال: إنَّما نهى عنهما أن تُتخذا سُلَّما يوصل إلى الغرور، فقال ابن عباس: فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن صلاة بعد العصر، وما أدري أتعذب عليها أم تؤجر؟ لأنَّ الله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ..} (3)) (4) .
وقد ورد تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه البدعة، وتنفيره منها:
فعن أبي رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والناس حوله: ((لا أعرفن أحدكم
(1) - وهكذا وردت في المستدرك للحاكم (1/109) . لعل صحة الكلمة - والله أعلم -: تقرؤون.
(2)
- رواه الحاكم في المستدرك (1/109-110) كتاب العلم، وصححه، وسكت عنه الذهبي. ورواه أبو داود بنحوه (2/211) كتاب الزكاة، حديث (1561) .
(3)
-سورة الأحزاب: الآية36.
(4)
- رواه الحاكم في المستدرك (1/110) كتاب العلم. وقال: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي في تلخيصه. ورواه الشافعي في الرسالة ص (443) وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/189) .
يأتيه أمر من أمري قد أمرت به أو نهيت عنه، وهو متكئ على أريكته، فيقول: ما وجدنا في كتاب الله عملنا به وإلا فلا)) (1) .
وأما ما استدلَّ به القائلون بهذه البدعة - إنكار السن - من الآيات، فلا يفيد ما ادعَّوه؛ لأنَّ بيان الكتاب لكل شيء إنما هو بحسب ما أشار إليه من أصول الأدلة، التي يمكن معها فهم ما أجمله القرآن، ومعرفة حكم ما لم يرد النص القرآني بحكمه صراحة. وأول هذه الأصول: السنة النبوية الشريفة.
والمراد بالكتاب في قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (2) : هو اللوح المحفوظ (3) .
والحصر في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (4) ، ليس حقيقاً؛ لأنّ الله حفظ أشياء غير القرآن، وقال تعالى:{يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} (5)، قال تعالى:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (6)، أي: يحفظك.
وأما استدلُّوا به من أدلة منكري خبر الواحد: فأدلة المنكرين لخبر الواحد والرد عليها تطول في مقامنا هذا، ولاسيما أنه لا علاقة له بموضوع بحثنا، ولكن من باب الفائدة نذكر خلاصة الرد عليهم:
* قال الخطيب البغدادي: (وعلى العمل بخبر الواحد كان كافة التابعين،
(1) - رواه أبو داود في سننه (5/12) كتاب السنة، وقال: حديث (4605) . رواه الترمذي في سننه (4/144) أبواب العلم، حديث (2800)، وقال: حديث حسن. ورواه بعضهم مرسلاً. ورواه الحاكم في المستدرك (1/108) كتاب العلم، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. ورواه الآجري في كتاب الشريعة ص (50) .
(2)
- سورة الأنعام: الآية38.
(3)
- يراجع: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (6/420) .
(4)
- سورة الحجر:9.
(5)
- سورة البقرة: الآية255.
(6)
-سورة المائدة: الآية67.
ومن بعدهم من الفقهاء الخالفين، في سائر أمصار المسلمين إلى وقتنا هذا، ولم يبلغنا عن أحد منهم إنكار لذلك، ولا اعتراض عليه فثبت أن من دين جميعهم وجوبه؛ إذ لو كان فيهم من كان لا يرى العمل به لنقل إلينا الخبر عنه بمذهبه فيه، والله أعلم) (1) ا. هـ.
ومن الجهل بمكانة السنة من التشريع:
تقديم غيرهم مما لا يثبت إلا بها عليها، أو معارضتها به، كالقياس والاستحسان ونحو ذلك، أي: تقديم الرأي على النص.
والاجتهاد في الشريعة الإسلامية لابد من اعتماده على النصِّ وتقديمه على كل ما سواه، فإذا ما وجد نص في مسألة وجب المصير إليه.
وقد أرشدت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكذلك الآثار عن السلف الصالح إلى هذا الأمر. قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2) وقال تعالى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (3) وقال تعالى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) .
وفي الحديث: ((لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلاً حتى بدا فيهم أبناء سباياً الأمم، فأفتوا بالرأي فضلُّوا وأضلُّوا)) (5) .
(1) - يراجع: الكفاية في علم الرواية ص (72) .
(2)
- سورة المائدة: الآية44.
(3)
- سورة المائدة: الآية45.
(4)
- سورة المائدة: الآية47.
(5)
- رواه ابن ماجه (1/21) المقدمة، حديث (56)، قال في الزوائد: إسناده ضعيف. يُراجع: مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (1/11) .
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/180)، باب في القياس والتقليد: رواه البزار وفيه قيس بن الربيع، وثقة شعبة والثوري، وضعفه جماعة. وقال ابن القطان: هذا إسناد حسن. ا. هـ.
وعن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وجد فيها ما يقضي به قضى، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا وكذا. فإن لم يجد سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم، جمع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به، وكان عمر رضي الله عنه يفعل ذلك، فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة سأل: هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء؟ فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به، وإلا جمع علماء الناس واستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به (1) .
وفي حديث قبض العلم قال صلى الله عليه وسلم: ((
…
فيبقى ناس جهال يُستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضِلون)) (2) .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ((لا يأتي عليكم زمان إلا وهو شر من الذي قبله، أما إني لا أقول أمير خير من أمير ولا عام أخصب من عام، ولكن فقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفاً ويجيء قوم يقيسون الأمور برأيهم)) (3) .
(1) - رواه الدارمي في سننه (1/58) باب الفتيا وما فيه من الشدة. ويراجع أيضاً: إعلام الموقعين (1/62) .
(2)
- رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (13/282) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، حديث رقم (7307) . ورواه مسلم بنحوه في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (16/225) كتاب العلم.
(3)
- رواه الدارمي في سننه (1/65) باب تغير الزمان. ورواه ابن عبد البر في بيان العلم (2/135) باب ذم القول في دين الله بالرأي والظن والقياس.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/180) : ((رواه الطبراني في الكبير وفيه مجالد بن سعيد وقد اختلط)) ا. هـ.
ورواه البخاري أوله مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (13/19) كتاب الفتن، حديث (7068) .
وقد اختلف العلماء في الرأي المقصود إليه بالذمِّ في الآثار المتقدمة فقالت طائفة: هو القول في الاعتقاد بمخالفة السنن؛ لأنهم استعملوا آراءهم وأقيستهم في ردِّ الأحاديث، حتى طعنوا في المشهور منها الذي بلغ التواتر؛ كأحاديث الشفاعة، وأنكروا أن يخرج أحد من النار بعد أن يدخلها، وأنكروا الحوض، والميزان، وعذاب القبر.....إلى غير ذلك من كلامهم في الصفات والعلم والنظر.
وقال أكثر أهل العلم: الرأي المذموم الذي لا يجوز النظر فيه ولا الاشتغال به، هو ما كان في نحو ذلك من ضروب البدع.
قال أحمد بن حنبل رحمه الله: (لا تكاد ترى أحداً نظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل)(1) .
وقال جمهور أهل العلم: الرأي المذموم في الآثار المذكورة، هو القول في الأحكام بالاستحسان، والتشاغل بالأغلوطات، ورد الفروع بعضها إلى بعض، دون ردّها إلى أصول السنن. والنظر في عللها واعتبارها، فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل وفرعت وشققت قبل أن تقع، وتكلم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن.
ففي الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل للسنن والبعث على جهلها، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ومن كتاب الله عز وجل ومعانيه (2) .
السبب السابع: اتباع المتشابه:
من أسباب الابتداع القوية: اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة من العلماء المبتدعين، وابتغاء تأويله من الجهلة المتعالمين.
(1) - الدغل - بالتحريك -: الفساد. والداغل: الذي ينبغي أصحابه الشر، يدغل لهم الشر، أي يبغيهم الشر ويحسبونه يريد لهم الخير. يراجع: لسان العرب (11/244، 245) مادة (دغل) .
(2)
- يراجع: بيان العلم وفضله (2/138-139) النهي عن كثرة المسائل. وذكره ابن حجر في فتح الباري (13/289، 290) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة.
وقسَّم الشاطبيّ المتشابه إلى قسمين:
1-
حقيقي: وهو المراد بقوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} . وهو ما لم يجعل لنا سبيل إلى فهم معناه، ولا نصب لنا دليل على المراد منه، فإذا نظر المجتهد في أصول الشريعة وتقصاها وجمع أطرافها لم يجد فيها ما يحكم له معناه، ولا ما يدل على مقصوده ومغزاه، ولا يكون إلا فيما لا يتعلق به تكليف سوى مجرد الإيمان به.
2-
إضافي: وتشابهه من جهة أن الناظر قصر في الاجتهاد أو زاغ عن طريق البيان، اتباعاً للهوى فلا يصحّ أن ينسب الاشتباه إلى الأدلة، وإنَّما ينسب إلى الناظرين التقصير أو الجهل بمواقع الأدلة، فيطلق عليهم أنهم متبعون للمتشابه؛ لأنهم إذا كانوا على ذلك مع حصول البيان فما الظن بهم مع عدمه
ومن هؤلاء: المعتزلة (2) ، والخوارج (3) ، وغيرهم (4) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والذي اقتضى شهرة القول عن أهل السنة، بأن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله ظهور التأويلات الباطلة من أهل البدع؛
(1) - سورة آل عمران:7.
(2)
- المعتزلة: هم القائلون بأن الله تعالى قديم، والقدم أخص وصف لذاته، ونفوا الصفات القديمة أصلاً، فقالوا: هو عالم بذاته قادر بذاته حيٌّ بذاته، لا بعلم ولا قدرة ولا حياة، وهي صفات قديمة ومعان قائمة به لأنَّه لو شاركته الصفات في القدم لشاركته في الإلهية. وقالوا بأن كلام الله محدث مخلوق، وما في المصحف حكاية عنه. وسُمُّوا بهذا الاسم؛ لأنهم اعتزلوا مجلس الحسن البصري بعد قولهم بالمنزلة بين المنزلتين. يراجع: الملل والنِّحل للشهرستاني ص (43-48) .
(3)
- الخوارج: هم أول من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع المارقين، القائلون بتكفير عثمان وعلي رضي الله عنهما، ويقدمون ذلك على كل طاعة، وكذلك تكفير الحكمين، وكل من رضي بالتحكيم، ويكفّرون أصحاب الكبائر، ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة حقاً واجباً، وينقسمون إلى عدة فرق.
يُراجع: الفرق بين الفرق للبغدادي ص (55) ، والملل والنحل للشهرستاني ص (114- 137) ، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (3/349) .
(4)
- يراجع: الموافقات (3/55، 56) .
كالجهمية (1) ، والقدرية (2) من المعتزلة وغيرهم، فصار أولئك يتكلمون في تأويل القرآن برأيهم الفاسد، وهذا أصل معروف لأهل البدع، أنهم يفسرون القرآن برأيهم العقلي، وتأويلهم اللغوي، فتفاسير المعتزلة مملوءة بتأويل النصوص المثبتة للصفات والقدر على غير ما أراده الله ورسوله فإنكار السلف والأئمة هو لهذه التأويلات الفاسدة، كما قال الإمام أحمد بن حنبل في ما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكَّت فيه من متشابه القرآن وتأوَّلته على غير تأويله، فهذا الذي أنكره السلف والأئمة من التأويل.
فجاء بعدهم قوم انتسبوا إلى السنة بغير خبرة تامة بها، وبما يخالفها ظنُّوا أن المتشابه لا يعلم معناها إلا الله، فظنُّوا أن معنى التأويل هو معناه في اصطلاح المتأخرين، وهو: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى المرجوح، فصاروا في موضع يقولون وينصرون أن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله ثم يتناقضون في ذلك من وجوه:
أحدهما: أنهم يقولون: النصوص تجري على ظواهرها، ولا يزيدون على المعنى الظاهر منها، ولهذا يبطلون كل تأويل يخالف الظاهر، ويقرون المعنى الظاهر، ويقولون مع هذا، إنَّ له تأويلاً لا يعلمه إلا الله، والتأويل عندهم ما يناقض الظاهر، فكيف يكون له تأويل يخالف الظاهر، وقد قرر معناه الظاهر؟! .
ومنها: أنا وجدنا هؤلاء كلهم لا يحتج عليهم بنص يخالف قولهم، لا في مسألة أصلية، ولا فرعية، إلا تأوَّلُوا ذلك النص بتأويلات متكلفة مستخرجة من جنس تحريف الكلم عن مواضعه، من جنس تأويلات الجهمية والقدرية للنصوص التي تخالفهم، فأين هذا من قولهم: لا يعلم معاني النصوص المتشابهة إلا الله تعالى؟!.
وهذا أحمد بن حنبل إمام أهل السنة الصابر في المحنة. لما صنف كتابه في الرد
(1) - الجهمية: أتباع جهم بن صفوان الذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال، وأنكر الاستطاعات كلها، وزعم أن الجنة والنار تبيدان وتفنيان، وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، والكفر الجهل به، وقال: لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى، وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز، وأن علم الله حادث، وأنكر صفات الله، وأن كلام الله حادث. يراجع: الفرقُ بين الفِرق ص (199، 200) .
(2)
- القدرية: فرقة ضالة تنفي صفات الله الأزلية كالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر وأنه ليس لله اسم ولا صفة، وأن الله لا يُرى، وأن كلام الله حادث مخلوق، وأن الله غير خالق لأكساب الناس، وأن الناس هم الذين يقدرون كسبهم، فهم ينكرون القدر فلذلك سمُّو قدرية. وبدعتهم هذه حدثت في آخر عصر الصحابة وكان أكثرهم في الشام والبصرة وفي المدينة أيضاً، وأصل هذه البدعة أحدثها مجوسي من البصرة ثم تلقَّاها عنه معبد الحهني. وقد أنكر الصحابة عليهم ذلك.
يراجع: الفرق بين الفرق ص (93- 94) ، ومجموع الفتاوى (7/384- 386) ، وكذلك (13/36، 37) .
على الزنادقة والجهمية، فيما شكَّت فيه من متشابه القرآن، وتأولته على غير تأويله، تكلِّم على معاني المتشابه، الذي اتبعه الزائغون، ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، آية آية، وبين معناها، وفسَّرها ليبين فساد تأويل الزائغين، واحتجَّ على أن الله يُرى، وأن القرآن غير مخلوق، وأن الله فوق العرش، بالحجج العقلية والسمعية، ورد ما احتجَّ به النفاة من الحجج العقلية والسمعية، وبين معاني الآيات التي سمَّاها هو متشابهة، وفسرها آية آية، وحديثاً حديثاً، وبين فساد ما تأولها عليه الزائغون، وبين هو معناها، ولم يقل أحمد- رحمه الله: أن هذه الآيات والأحاديث لا يفهم معناها إلا الله، ولا قال أحد له ذلك، بل الطوائف كلها مجتمعة على إمكان معرفة معناها، لكن يتنازعون في المراد كما يتنازعون في آيات الأمر والنهي.....
وكان الإمام أحمد-رحمه الله-ينكر طريقة أهل البدع الذين يفسِّرون القرآن برأيهم وتأويلهم من غير استدلال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة، والتابعين، الذين بلَّغهم الصحابة معاني القرآن، كما بلَّغُوهم ألفاظه، ونقلوا هذا كما نقلوا هذا، لكن أهل البدع يتأوَّلُون النصوص بتأويلات تخالف مراد الله ورسوله، ويدعون أن هذا هو التأويل الذي يعلمه الراسخون، وهم مبطلون في ذلك، لاسيما تأوّلات القرامطة والباطنية (1)
الملاحدة،
(1) - القرامطة والباطنية: من الفرق الخارجة عن الإسلام، وعقيدتهم أن أحد الصانعين قديم هو الإله الفاعل، والإله خلق النفس، فالإله هو الأول والنفس هو الثاني وهما مدبرا هذا العالم، وربما سموهما العقل والنفس، ثم إنهم قالوا إنهما يدبران العالم بتدبير الكواكب السبعة والطبائع الأولى، وقولهم هذا بعينه قول المجوس؛ لأنَّ مؤسس الباطنية مجوسي وهو ميمون بن ديصان المعروف بالقداح - جد العبيديين -. وممن استجاب لدعوته: حمدان قرمط، وإليه تنسب القرامطة فهم من الباطنية.
وهؤلاء المجوس كانوا مائلين إلى دين أسلافهم ولم يجسروا على إظهاره خوفاً من سيوف المسلمين، فكانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر وأسسوا مذهبهم على أمور سموها (السابق) و (التالي) و (الأساس) و (الحجج) و (الدعاوى)
…
وأمثال ذلك من المراتب، وترتيب الدعوة سبع درجات، آخرها البلاغ الأكبر والناموس الأعظم، وتأوَّلُوا آيات القرآن والأحاديث على هذه الأسس، وكذلك تأولوا أحكام الشريعة على وجوه تؤدي إلى رفع الشريعة أو إلى مثل أحكام المجوس، فأباحوا لأتباعهم نكاح البنات والأخوات وشرب الخمر وجميع اللذات، ويدَّعُون أن الملك سيزول عن المسلمين ويرجع إلى المجوس، فهم ينتظرون رجوعه إليهم، ووجدوا أن أسهل الطرق لاستمالة المسلمين لاتباعهم هو إظهار التشيع لآل البيت فكان منهم حكام مصر وهم العبيديين الذين يزعمون أنهم من سلالة فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم. فغرض الباطنية هو الدعوة إلى دين المجوس بتأويلات يتأولون عليها القرآن والسنة.
يُراجع: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (35/ 120-144) ، والفرق بين الفرق ص (265-299) ، وفضائح الباطنية ص (11-14) .
وكذلك أهل الكلام المحدث من الجهمية والقدرية وغيرهم.
ولكن هؤلاء يعترفون بأنهم لا يعلمون التأويل، وإنما غايتهم أن يقولوا: ظاهر هذه الآية غير مراد، ولكن يحتمل أن يُراد كذا، وأن يُراد كذا. ولو تأولها الواحد منهم بتأويل معين، فهو لا يعلم أنه مُراد الله ورسوله، بل يجوز أن يكون مراد الله ورسوله عندهم غير ذلك؛ كالتأويلات التي يذكرونها في نصوص الكتاب والسنة كما يذكرونه في قوله تعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} (1) ، و {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) ، و {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} (3)، و {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (4) . وقوله صلى الله عليه وسلم:((وينزل ربنا)) (5)) (6) .
السبب الثامن: الأخذ بغير ما اعتبره الشرع طريقاً لإثبات الأحكام:
ومن أسباب حدوث البدع، الأخذ بغير ما اعتبره الشرع طريقاً لإثبات الأحكام، ويتمثل هذا في الاستناد إلى رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم في النوم، وأخذ الأحكام عنه، ونشرها بين الناس، أو العمل بها دون نظر إلى موافقتها للشريعة أو عدم الموافقة، وهذا خطأ؛ لأنَّ الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعاً على حال، حتى تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية، فإن سوغتها، عُمِل بمقتضاها، وإلا وجب تركها والإعراض عنها، وإنَّما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة، وأما استفادة الأحكام فلا
(1) - سورة الفجر:22.
(2)
-سورة طه:5.
(3)
- سورة النساء:164.
(4)
- سورة الفتح: الآية6.
(5)
- رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (3/29) كتاب التهجد، حديث رقم (1145) ، ورواه مسلم في صحيحه (1/521) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، حديث (758) .
(6)
- يُراجع: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (17/ 412-416) .
فإن قيل: إن الرؤيا من أجزاء النبوة، فلا ينبغي أن تهمل، وأيضاً إن المخبر في المنام قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قد قال:((من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي)) (1) . وإذا كان كذلك، فإخباره في النوم كإخباره في اليقظة.
فالجواب على ذلك بما يأتي: إن كانت الرؤيا من أجزاء النبوة فليست إلينا من كمال الوحي، بل جزء من أجزائه، والجزء لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه، بل إنما يقوم مقامه في بعض الوجوه، وقد صرفت إلى وجه البشارة والنذارة وهذا كاف.
وأيضاً: فإنَّ الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة من شروطها أن تكون صالحة من الرجل الصالح، وحصول الشرط مما ينظر فيه، فقد تتوفر وقد لا تتوفر.
وأيضاً: فهي منقسمة إلى الحلم، وهو من الشيطان، وإلى حديث النفس، وقد تكون سبب هيجان بعض أخلاط، فمتى تتعين الصالحة حتى يحكم بها، وتترك غير الصالحة؟ .
ويلزم أيضاً على ذلك أن يكون تجديد وحي بحكم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو منهي عنه بالإجماع (2) .
قال النووي رحمه الله في معنى حديث ((من رآني في المنام فقد رآني)) :
معنى الحديث: أن رؤيته صحيحة، وليست من أضغاث الأحلام وتلبيس الشيطان، ولكن لا يجوز إثبات حكم شرعي بها؛ لأن حالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق لما يسمعه الرائي، وقد اتفقوا- جمهور المحدثين- على أن من شرط من تُقْبَلْ روايته وشهادته أن يكون متيقظاً، لا مغفلاً ولا سيء الحفظ، ولا كثير الخطأ، مختلّ الضبط، والنائم ليس بهذه الصفة فلم تقبل روايته، لاختلال ضبطه. هذا كله في منام يتعلق بإثبات حكم على خلاف ما يحكم به الولاة.
أما إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بفعل ما هو مندوب إليه، أو ينهاه عن منهي عنه، أو يرشده إلى فعل مصلحة، فلا خلاف في استحباب العمل على وفقه؛ لأنَّ ذلك ليس
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (12/383) كتاب التعبير، حديث (6994) . ورواه مسلم في صحيحه (4/260، 261) .
(2)
- يراجع: الاعتصام للشاطبي (1/260، 261) .
حكماً بمجرد المنام، بل بما تقرر من أصل ذلك الشيء، والله أعلم (1) .
فمما يجب الحذر منه ما يقع لبعض الناس وهو أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه، فيأمره بشيء أو ينهاه عن شيء فينتبه من نومه فيُقْدمِ على فعله أو تركه بمجرد المنام دون أن يعرضه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى قواعد السلف رحمهم الله قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (2) . ومعنى قوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} أي: إلى كتاب الله، ومعنى قوله:{وَالرَّسُولِ} ، أي: إلى الرسول في حياته، وإلى سنته بعد وفاته، على ما قاله العلماء رحمهم الله، وإن كانت رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حقاً لا شك فيها لقوله عليه الصلاة والسلام:((من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي)) (3) . لكن لم يكلف الله تعالى عباده بشيء مما يقع لهم في منامهم. قال عليه الصلاة والسلام: ((رُفِع القلم عن ثلاثة..)) (4) وعدَّ فيهم النائم حتى يستيقظ؛ لأنَّه إذا كان نائماً فليس من أهل التكليف، فلا يعمل بشيء يراه في نومه
وجهٌ.
الوجه الثاني: أن العلم والرواية لا يؤخذان إلا من متيقظ حاضر العقل، والنائم ليس كذلك.
الوجه الثالث: أن العمل بالمنام مخالف لقول صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم: ((تركتُ فيكم الثقلين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي)) (5) . فجعل عليه السلام النجاة من الضلالة في التمسك بهذين الثقلين فقط لا ثالث لهما، ومن اعتمد على ما يراه في نومه فقد زاد
(1) - يُراجع: شرح النووي على صحيح مسلم (1/115) المقدمة.
(2)
- سورة النساء: الآية59.
(3)
- رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (12/383) كتاب التعبير، حديث (6994) . ورواه مسلم في صحيحه (4/260، 261) .
(4)
- رواه الإمام أحمد في مسنده (6/100) عن عائشة رضي الله عنها. ورواه أبو داود في سننه (4/558) كتاب الحدود، حديث (4398) عن عائشة. ورواه الترمذي في سننه (2/438) أبواب الحدود، حديث (1446) عن علي، وقال حديث حسن غريب. ورواه ابن ماجه في سننه (1/658) كتاب الطلاق، حديث (2041) عن عائشة.
(5)
- رواه الحاكم في المستدرك (1/93) كتاب العلم، وسكت عنه ولم يعلق عليه الذهبي. ورواه ابن عبد البر في بيان العلم وفضله (2/24) باب معرفة أصول العلم. ولم ترد في روايتيهما كلمة (الثقلين) . ورواه مالك في الموطأ يلاغاً (2/899) كتاب القدر. وقال الألباني رحمه الله: صحيح. يراجع: صحيح الجامع الصغير (3/ 39) حديث (2934) ، وسلسلة الأحاديث الصحيحه (4/355- 361) ، حديث (1761) .
لهما ثالثاً.
فعلى هذا من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وأمَرهُ بشيءٍ أو نهاهُ عن شيءٍ فيتعين عليه عرض ذلك على الكتاب والسنة؛ إذ أنه عليه الصلاة والسلام إنما كلف أمته باتباعهما. فإذا عرض رؤياه على شريعته صلى الله عليه وسلم فإن وافقتها علم أن الرؤيا حق، وأن الكلام حق وتبقى الرؤيا تأنيساً له، وإن خالفتها، عَلِم أن الرؤيا حق، وأن الكلام الذي وقع له فيها ألقاه الشيطان له في ذهنه والنفس الأمارة؛ لأنهما يوسوسان له في حال يقظته، فكيف في حال نومه! .
ولو كان المنام مما يتعبد به لبيَّنهُ صلى الله عليه وسلم، أو نبَّه عليه أو أشار إليه ولو مرة واحدة كما فعل في غيره (1) .
ويحكى أن شُريك بن عبد الله القاضي، دخل على المهدي، فلما رآه قال: علي بالسيف والنطع، قال: ولِم يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت في منامي كأنك تطأ بساطي وأنت معرض عني، فقصصت رؤياي على من عبرها، فقال لي: يُظهر لك طاعة ويضمر معصية، فقال له شُريك: والله ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل- عليه السلام ولا أن معبرك بيوسف الصديق عليه السلام، فبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق المؤمنين؟ فاستحيا المهدي، وقال: اخرج عني (2) .
السبب التاسع: الغلو في بعض الأشخاص.
ومن أسباب الابتداع أيضاً التغالي في تعظيم الشيوخ والأشخاص إلى درجة
(1) - يراجع: المدخل لابن الحاج (4/286-288) .
(2)
- يراجع: الاعتصام (1/261، 262) .
إلحاقهم بما لا يستحقونه، فيزعم بعض الناس أنه لا ولي لله أعظم من فلان، وربما أغلقوا باب الولاية دون سائر الأمة إلا هذا المذكور، وهذا باطل محض، وبدعة فاحشة؛ لأنَّهُ لا يمكن أن يبلغ المتأخرون أبداً مبالغ المتقدمين، فخير القرون الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، ثم الذين يلونهم، وهكذا يكون الأمر أبداً إلى قيام الساعة، فأقوى ما كان أهل الإسلام في دينهم وأعمالهم ويقينهم وأحوالهم في أول الإسلام، ثم لا زال ينقص شيئاً فشيئاً إلى آخر الدنيا، لكن لا يذهب الحق جملة، بل لابد من طائفة تقوم به وتعتقده، وتعمل بمقتضاه على حسبهم في إيمانهم لا ما كان عليه الأولون من كل وجه؛ لأنه لو أنفق أحد المتأخرين وزن أُحُد (1) ذهباً ما بلغ مدّ أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نصيفه، وإذا كان كذلك في المال فكذلك في سائر شُعب الإيمان.
ومن الناس من يزعم أن فلاناً من الناس مساوٍ للنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه لا يأتيه الوحي ومن هؤلاء الشيعة الإمامية (2)
. ولولا الغلو في الدين والتكالب على نصر المذهب، والتهالك في محبة المبتدع، لما وسع ذلك عقل أحد، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع
…
)) (3) الحديث. فهؤلاء غلوا كما غلت النصارى
(1) - اسم الجبل الذي وقعت عنده غزوة أحد المشهور سنة 3هـ، وهو جبل أجمر، وبينه وبين المدينة قرابة ميل في شماليها. يراجع: معجم البلدان (1/109) .
(2)
- هم القائلون باتباع الاثنى عشر إماماً، ويدخل في عمومهم أكثر مذاهب الشيعة في العالم الإسلامي، ويقولون إن الإمامة ثبتت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنص، وكذلك نص علي على الحسن، والحسن على الحسين، وهكذا
…
كل إمام ينص على من بعده، وتفرقوا إلى حوالي أربع وعشرين فرقة، والإمامة عندهم ركن من أركان الإسلام وهي منصب إلهي كاختيار الله سبحانه للرسالة من يشاء من عباده، ويعتقدون أن الإمام معصوم عن الخطأ والنسيان والمعاصي في الظاهر والباطن، ويجوزون أن تجري خوارق العادات على يد الإمام، وأن الإمام أحاط علماً بكل شيء، ويزعمون أنه أكثر الصحابة ضلُّوا بتركهم الاقتداء بعد النبي صلى الله عليه وسلم فهم كفار وبعض فرقهم تعتقد ألوهية علي رضي الله عنه، وأنه يسكن السحاب، وأن الرعد صوته، فإذا سمعوا الرعد قالوا: عليك السلام يا أمير المؤمنين. وبعض فرقهم خرجت عن الإسلام كالسبأية والبنانية والحطابية وغيرهم.
يُراجع: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص (52- 66) ، والفرق بين الفِرق ص (38- 54) ، والملل والنحل للشهرستاني ص (162-173) .
(3)
- رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (13/300) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، حديث (732) . ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (16/219) كتاب العلم واللفظ له. .