الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
لا يخفى على كل مسلم أن الله سبحانه وتعالى بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الخلق، على فترة من الرسل، وقد مقت (1) أهل الأرض عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب (2) ماتوا- أو أكثرهم- قبيل مبعثه عليه السلام، والناس قسمين:
كتابي معتصم بكتاب، وهذا الكتاب إما مبدَّل، وإما مبدع منسوخٌ، ودين دارس، بعضه مجهول، وبعضه متروك.
وأمي من عربي أو عجمي، مقبل على عبادة ما استحسنه وظنَّ أنه ينفعه: من نجم، أو وثن (3) ، أو قبر، أو تمثال (4) ، أو غير ذلك.
والناس في جاهلية جهلاء، أعلمهم من عنده قليل من العلم الموروث عن الأنبياء المتقدمين، وقد اشتبه حقه بباطله، فيشتغل بعمل قليله مشروع وأكثره مبتدع.
فهدى الله الناس بدعوته صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من البينات والهدى، حتى حصل لأمته المؤمنين عموماً، - ولأولي العلم منهم خصوصاً - من العلم النافع، والعمل الصالح، والأخلاق العظيمة، والسنن المستقيمة ما يفوق ما عند جميع الأمم علماً وعملاً. فكان دين الإسلام، الذي بُعث به عليه الصلاة والسلام هو الصراط المستقيم، الذي أوجب الله عليهم أن يسألوه أن يهديهم إليه كل يوم في صلاتهم، ووصفه بأنه صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
فالمغضوب عليهم هم اليهود، الذين قال الله فيهم: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ
(1) - المقت: أشد البغض. يُراجع: النهاية في غريب الحديث والأثر (4/346) ، باب الميم مع القاف.
(2)
- ورد ذلك في حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه (4/ 2197) كتاب الجنة، حديث رقم (2865) .
(3)
- الوثن: هو كل ما له جثة معلولة من جواهر الأرض، أو من الخشب والحجارة، كصورة الآدمي، تعمل وتنصب فتعبد، ومن العلماء من قال: الوثن هو الصنم، وقيل: الصنم: هو الصورة بلا جثة. يُراجع: النهاية في غريب الحديث والأثر (5/151) ، باب الواو مع الثاء.
(4)
- التمثال: اسم للشيء المصنوع مشبهاً بخلق من خلق الله. يُراجع: لسان العرب (11/613) ، مادة (مثل) .
مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ
…
} (1) . وقال فيهم سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ....} (2) . وهم المنافقون الذين تولوا اليهود (3) . باتفاق أهل التفسير، وسياق الآية يدلُّ على ذلك. قال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ
…
} (4)
ففي الآيات السابقة بيان بأن اليهود هم المغضوب عليهم. والضالين: هم النصارى الذين قال الله تعالى فيهم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ
…
} إلى قوله عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (5) . وهذا خطاب للنصارى كما دلَّ عليه السياق، ولهذا نهاهم عن الغلو، وهو مجاوزة الحدّ، كما نهاهم في قوله تعالى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ....} الآية (6) .
واليهود مقصرون عن الحق، والنصارى غالون فيه. فكفر اليهود أصله من جهة عدم العمل بعلمهم، فهم يعلمون الحق ولا يتبعونه عملاً، أو لا قولاً ولا عملاً.
وكفر النصارى من جهة علمهم بلا علم، فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله، ويقولون على الله مالا يعلمون.
ولهذا كان السلف: سفيان بن عيينة وغيره يقولون: إن من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى.
ومع أن الله قد حذَّرنا سبيلهم، فقضاؤه عز وجل نافذ بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما سبق في علمه، حيث قال فيما خرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً
(1) - سورة المائدة، الآية:60.
(2)
- سورة المجادلة، الآية:14.
(3)
- يُراجع: تفسير ابن كثير (4/327) .
(4)
- سورة آل عمران، الآية:112.
(5)
- سورة المائدة، الآيات: 73- 77.
(6)
- سورة النساء، الآية:171.
وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضبِّ (1) تبعتموهم)) ، قلنا: يا رسول! اليهود والنصارى؟ . قال: ((فمن؟)) (2) .
ورواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع)) . فقيل: يا رسول الله! كفارس والروم؟. فقال: ((ومن الناس إلا أولئك)) (3) .
فأخبر- عليه والسلام- أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى، وهم أهل الكتاب، ومضاهاة لفارس والروم، وهم الأعاجم. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء، وليس هذا إخباراً عن جميع الأمة، بل قد تواتر عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:((لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك)) (4) .
وأخبر -عليه والصلاة والسلام-: أن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة (5) .
(1) - الضب: دويبة أحرش الذنب، خشنُهُ، مُفقره، ذو عقد، ولونه إلى الصُّحْمة، وهي غُبرة مشربة سواداً، وإذا سمن اصفر صدره. يُراجع: لسان العرب (1/539) مادة (ضبب)
(2)
- رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (13/300) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، حديث رقم (7320) . ورواه مسلم في صحيحه (4/2054) كتاب العلم، حديث رقم (2669) .
(3)
- رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (13/300) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، حديث رقم (7319) .
(4)
- رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (6/632) كتاب المناقب، حديث رقم (3641) . ورواه مسلم في صحيحه (3/1523) كتاب الإمارة، حديث رقم (1920، 1921) .
(5)
- رواه الترمذي في سننه (3/315) أبواب الفتن، حديث رقم (2255)، وقال: حديث غريب من هذا الوجه. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (5/218)، وقال:(رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما ثقات رجال الصحيح، خلا مرزوق مولى آل طلحة وهو ثقة) ا. هـ. وذكره السيوطي في الجامع الصغير (1/378) رقم (1818)، وأشار إلى أنه حسن. ورواه الدرامي في سننه (1/29) . ...........قلت: وله شاهد متفق على صحته وهو الحديث الذي قبله: ((لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله
…
))
فعلم بخبره الصدق القاطع الأكيد أن في أمته قوماً مستمسكون بهديه، الذي هو دين الإسلام محضاً، وقوم منحرفون إلى شعبة من شعب اليهود أو إلي شعبة من شُعب النصارى، وإن كان الرجل لا يكفر بكل انحراف، بل وقد لا يفسق أيضاً بل قد يكون الانحراف كفراً، وقد يكون فسقاً، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ.
وهذا الانحراف أمر تتقاضاه الطباع، ويزينه الشيطان، فلذلك أمر الله سبحانه وتعالى عباده بدوام دعاء الله سبحانه وتعالى بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهودية فيها، ولا نصرانية أصلاً (1) .
وقد ابتلى الله هذه الأمة بكثير من الأمور التي في فعلها تشبه بأهل الكتاب والأعاجم، وسأتكلم عما يتعلق بموضوع كتابي، وهو تشبه المسلمين بالكفار في أعيادهم واحتفالاتهم، وذلك على وجه الإيجاز:
(1) - يُراجع: اقتضاءالصراط المستقيم (1/63- 70) .