الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الزِّيَادَةِ فِيمَا لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ، بَلْ تَرْجِعُ إِلَى زَائِدِهَا، أَوْ تَكُونُ هِبَةً مِنْهُ لِلَّذِي زَادَهَا إِيَّاهُ
4538 -
حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ أَبَانَ الْبَصْرِيُّ أَبُو شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَهْدِيٍّ الْأُبُلِّيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا جَهْمِ بْنَ حُذَيْفَةَ مُصَدِّقًا، فَلَاحَاهُ رَجُلٌ فِي صَدَقَتِهِ، فَأَخَذَهُ فَضَرَبَهُ فَشَجَّهُ أَبُو جَهْمٍ، فَأَتَوَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: الْقَوَدُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" لَكُمْ كَذَا وَكَذَا " فَلَمْ يَرْضَوْا، فَقَالَ:" لَكُمْ كَذَا وَكَذَا " فَرَضُوا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" إِنِّي خَاطِبٌ الْعَشِيَّةَ عَلَى النَّاسِ وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ " فَقَالُوا: نَعَمْ، فَخَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:" إِنَّ هَؤُلَاءِ اللَّيْثِيِّينَ أَتَوْنِي يُرِيدُونَ الْقَوَدَ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ كَذَا وَكَذَا فَرَضُوا " قَالَ: " أَرَضِيتُمْ؟ " قَالُوا: لَا، قَالَ: فَهَمَّ بِهِمُ الْمُهَاجِرُونُ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ عليه السلام أَنْ يَكُفُّوا عَنْهُمْ، ثُمَّ دَعَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَزَادَهُمْ، فَقَالَ:" أَرَضِيتُمْ؟ " قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ:" فَإِنِّي خَاطِبٌ عَلَى النَّاسِ وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ " قَالُوا: نَعَمْ، فَخَطَبَ
⦗ص: 433⦘
النَّاسَ، فَقَالَ:" أَرَضِيتُمْ؟ " قَالُوا: نَعَمْ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعْنًى لَطِيفٌ مِنَ الْفِقْهِ يَجِبُ أَنْ يُوقَفَ عَلَيْهِ، وَيُوقَفَ بِهِ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ فِي الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا الْبَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا الْبَابِ زِيَادَةٌ فِي بَيْعٍ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاقَضَهُ مُتَعَاقِدَاهُ، ثُمَّ يَتَعَاقَدَانِهِ مِنْ ذِي قَبْلِ، وَتَزْوِيجٌ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاقَضَاهُ، أَوْ يَتَعَاقَدَانِهِ مِنْ ذِي قَبْلٍ بِمَا يَتَعَاقَدَانِهِ، فَجَازَتْ فِي ذَلِكَ الزِّيَادَةُ، وَكَانَ الصُّلْحُ عَنْ أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاقَضَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِينَ صَالَحَهُمْ بِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ رَجُلًا لَوْ شَجَّ رَجُلًا شَجَّةً، أَوْ جَنَى عَلَيْهِ جِنَايَةً، فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ أَوْ صُولِحَ عَنْهُ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ، ثُمَّ أَرَادَ مُتَعَاقِدَا ذَلِكَ الصُّلْحِ أَنْ يَتَنَاقَضَاهُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمَا لَا يَقْدِرَانِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُمَا إِنْ نَقَضَاهُ، لَمْ يَنْتَقِضْ، وَمَا هَذِهِ
⦗ص: 434⦘
سَبِيلُهُ، فَالزِّيَادَةُ فِيهِ غَيْرُ لَاحِقَةٍ بِأَصْلِهِ وَمُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ تَقُولُ: إِنَّهَا بَاطِلَةٌ، وَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الَّذِي زَادَهَا، وَمِمَّنْ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ تَقُولُ: إِنَّهَا هِبَةٌ مِنَ الَّذِي زَادَهَا لِلَّذِي زَادَهَا إِيَّاهُ، فَإِنْ سَلَّمَهَا إِلَيْهِ جَازَتْ لَهُ، وَإِنْ مَنَعَهُ مِنْهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ، وَهَذَا مَعْنًى قَدْ ذَكَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَاسِمٍ مَا يَدُلُّ فِي جَوَابَاتِهِ اشْتِهَارُهُ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ فِيهِ، وَقَدْ مَالَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي بَعْضِ مَسَائِلِهِ الَّتِي تَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَدْفَعْ إِلَى أُولَئِكَ الْقَوْمِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَخْذُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ إِلَى أَحَدٍ إِلَّا مَا يَكُونُ طَيِّبًا لَهُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرِيعَتِهِ فِي مِثْلِ هَذَا تَحْرِيمُ أَكْلِ الرِّبَا، وَتَحْرِيمُ إِطْعَامِهِ، وَفِي إِبَاحَتِهِ إِيَّاهُمْ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى طِيبِهِ لَهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ صَارَ إِلَيْهِمْ هِبَةً مِنْهُ لَهُمْ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ مَنْ قَالَهُ مِمَّنْ ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ جَمِيعًا، وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ.
بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ فِي حُدُودِهِمْ مِنَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ فِيهَا، وَمِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ فِيهَا، وَهَلْ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} [المائدة: 49] أَمْ لَا؟
4539 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ السَّقَطِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا مُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ الْهَمْدَانِيُّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: زَنَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ فَدَكٍ، فَكَتَبَ أَهْلُ فَدَكٍ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ أَنْ سَلُوا مُحَمَّدًا عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالْجَلْدِ فَخُذُوهُ، وَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالرَّجْمِ فَلَا تَأْخُذُوهُ عَنْهُ، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:" أَرْسِلُوا إِلَيَّ أَعْلَمَ رَجُلَيْنِ فِيكُمْ " فَجَاءُوهُ بِرَجُلٍ أَعْوَرَ، يُقَالُ لَهُ: ابْنُ صُورِيَّا وَآخَرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" أَنْتُمَا أَعْلَمُ مَنْ قِبَلَكُمَا؟ " فَقَالَا: قَدْ نَحَلَنَا قَوْمُنَا بِذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُمَا:" أَلَيْسَ عِنْدَكُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ؟ " فَقَالَا: بَلَى، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " فَنَشَدْتُكُمَا بِالَّذِي فَلَقَ الْبَحْرَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَأَنْزَلَ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَظَلَّلَ عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ، وَأَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ،
⦗ص: 436⦘
مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ شَأْنِ الرَّجْمِ؟ " فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: مَا نُشِدْتُ بِمِثْلِهِ قَطُّ، ثُمَّ قَالَا: نَجِدُ أَنَّ النَّظَرَ زَنْيَةٌ، وَالِاعْتِنَاقَ زَنْيَةٌ، وَالْقُبْلَةَ زَنْيَةٌ، فَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْهُ يُبْدِي وَيُعِيدُ كَمَا يَدْخُلُ الْمِيلُ فِي الْمُكْحُلَةِ فَقَدْ وَجَبَ الرَّجْمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " هُوَ ذَاكَ " فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، وَنَزَلَتْ:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا، وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} الْآيَةَ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي الْآيَةِ الْمَتْلُوَّةِ فِيهِ لِنَبِيِّهِ الْخِيَارَ فِي أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ الْيَهُودِ إِذَا جَاءُوهُ، وَفِي أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ، فَلَا
⦗ص: 437⦘
يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ قَوْمٌ: هَذِهِ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَكَانَ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رَجْمِ النَّبِيِّ ذَلِكَ الْيَهُودِيَّ بِاخْتِيَارِهِ أَنْ يَرْجُمَهُ، وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَرْجُمَهُ لِقَوْلِ اللهِ:{أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]، أَيْ: فَلَا تَحْكُمْ بَيْنَهُمْ، وَقَدْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَكَرُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]، وَرَوَوْا مَا قَالُوا فِي ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ:
4540 -
كَمَا قَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَارِثِ الْوَاسِطِيُّ الْبَاغَنْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " آيَتَانِ نُسِخَتَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، يَعْنِي سُورَةَ الْمَائِدَةِ:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُخَيَّرًا إِنْ شَاءَ حَكَمَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ عَنْهُمْ، فَرَدَّهُمْ إِلَى أَحْكَامِهِمْ، فَنَزَلَتْ:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]، قَالَ: فَأُمِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ عَلَى
⦗ص: 438⦘
كِتَابِنَا "
⦗ص: 439⦘
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا قَدْ حَقَّقَ نَسْخَ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْآيَةِ الْمَتْلُوَّةِ فِي حَدِيثِهِ، وَكَانَ حُكْمُ مَنْ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ عَلَى مِثْلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا، وَكَانَ الْأَوْلَى بِالْأَحْكَامِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا وَاللهُ أَعْلَمُ هُوَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ لَوْ لَمْ تَكُنِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً، لَا الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا حَكَمُوا بَيْنَهُمْ، شَهِدَ لَهُمُ الْفَرِيقَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَا بِالنَّجَاةِ وَتَرْكِ مَفْرُوضٍ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُمْ حَكَمُوا: وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَحْكُمُوا بِهِ، يَقُولُ: قَدْ أَدُّوا الْمُفْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، وَيَقُولُ الْآخَرُونَ: قَدْ حَكَمُوا بِمَا لَهُمْ أَنْ يَحْكُمُوا بِهِ، وَخَرَجَ الْحُكَّامُ بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنْ تَرْكِ مُفْتَرَضٍ إِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَإِذَا أَعْرَضُوا عَنْهُمْ، وَتَرَكُوا الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ، فَأَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ يَقُولُ: قَدْ تَرَكُوا مُفْتَرَضًا عَلَيْهِمْ، وَالْفَرِيقُ الْآخَرُ يَقُولُ: قَدْ تَرَكُوا مَا لَهُمْ تَرْكُهُ، وَكَانَ مَا يُوجِبُ النَّجَاةَ لَهُمْ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا أَوْلَى بِهِمْ مِمَّا يُوجِبُ لَهُمُ النَّجَاةَ عِنْدَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَا يُوجِبُهُ لَهُمْ عِنْدَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، هَذَا لَوْ لَمْ تَكُنِ الْآيَةُ
⦗ص: 440⦘
مَنْسُوخَةً، فَإِذًا وَجَبَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرْنَا مَعَ اتِّصَالِ إِسْنَادِهِ، وَحُسْنِ سِيَاقَتِهِ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً بِالْآيَةِ الَّتِي تَلَوْنَا بَعْدَهَا، كَانَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ أَوْلَى، وَكَانَ التَّمَسُّكُ بِهَا أَحْرَى، وَوَجَدْنَا قَوْلَهُ تَعَالَى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} [المائدة: 49] يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْكَ، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بِوُقُوفِكَ عَلَى مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِمَّا يُوجِبُ ذَلِكَ الْحُكْمَ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْكَ. فَنَظَرْنَا: هَلْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ؟
4541 -
فَوَجَدْنَا فَهْدًا قَدْ حَدَّثَنَا، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ النَّخَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ الْبَرَاءِ، رضي الله عنه، قَالَ: مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِيَهُودِيٍّ قَدْ حُمِّمَ وَجْهُهُ، وَقَدْ ضُرِبَ يُطَافُ بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" مَا شَأْنُ هَذَا؟ " فَقَالُوا: زَنَى، فَقَالَ:" مَا تَجِدُونَ حَدَّ الزِّنَى فِي كِتَابِكُمْ؟ " قَالُوا: يُحَمَّمُ وَجْهُهُ، وَيُعَزَّرُ وَيُطَافُ بِهِ، فَقَالَ:" أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ، مَا تَجِدُونَ حَدَّهُ فِي كِتَابِكُمْ؟ " فَأَشَارُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ الرَّجُلُ: نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ، وَلَكِنَّهُ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا، فَكَرِهْنَا أَنْ نُقِيمَ الْحَدَّ عَلَى سِفْلَتِنَا وَنَتْرُكَ أَشْرَافَنَا، فَاصْطَلَحْنَا عَلَى شَيْءٍ، فَوَضَعْنَا هَذَا، فَرَجَمَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ:" أَنَا أَوْلَى مَنْ أَحْيَا مَا أَمَاتُوا مِنْ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى "
⦗ص: 441⦘
وَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجَمَ ذَلِكَ الْيَهُودِيَّ بِلَا تَحَاكُمٍ مِنَ الْيَهُودِ إِلَيْهِ فِيهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَوْلَى الِاحْتِمَالَيْنِ بِالْآيَةِ الَّتِي تَلَوْنَاهَا الْمُوَافِقُ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْهُمَا، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]، أَيْ: وَأَنِ احْكُمْ عَلَيْهِمْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكَ بَعْدَ عِلْمِكَ بِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يُحْكَمُ بِهِ عَلَيْهِ تَحَاكَمُوا فِي ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فِيهِ أَوْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْكَ فِيهِ، وَاللهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ.