الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبارة الثعالبي في (كنز الرواة) عن شيخه الفكون (انجمع باخره عن الناس ولزم العزلة والعكوف على العبادة وتهذيب النفس)(1).
ولا يمكننا أن نتتبع كل مراسلات الفكون أثناء حياته فهي حياة طويلة وخصبة كما عرفنا وقد شاع أمره في عصره حتى قدره بعضهم لعلمه وصلاحه، وقدره آخرون لزهده وتصوفه، وقدره آخرون لسياسته وحكمته. وهكذا تعددت جوانب حياته كما تعددت وجهات نظر الناس فيه، كما سنعرف.
3 - مذهبه الصوفي وموقفه من البدع
رغم نقد الفكون لمتصوفة عصره فإنه كان شخصيا من المتصوفين، وكان في الواقع شاذليا زروقيا. وهو لا يخفي ذلك أو ينكره بل يعلنه في غاية الصراحة. وكان يسير على مقتضى تعاليم الطريقة الشاذلية والطريقة الزروقية في آرائه وسلوكه. وقد تأثر بهذه التعاليم، كما سنرى، من عدة مصادر.
المصدر الأول: إنه أخذ عن والده عن جده عن عمر الوزان، الذي قال عنه الفكون أنه دعوة من دعوات الشيخ أحمد زروق. وبين ذلك بأن الشيخ زروق كان يتردد على قسنطينة وكان والد الوزان يعمل جابيا للضرائب بباب المدينة. فكان يعفي الشيخ زروق من الدفع. وقد جاء الشيخ زروق ذات مرة فلم يجد ذلك الرجل فسأل عنه فقيل له إنه يقيم وليمة بمناسبة ميلاد ولد له، فذهب إليه زروق وحمل الولد (عمر الوزان) في كفه وأخذ يدور
(1) الثعالبي (كنز الرواة) - مخطوط - وكلمة (بآخره) تعني في نهاية حياته.
به الغرفة وهو يتمتم له بكلام صوفي وأدعية، مفادها أن عمر الوزان سيكون من أهل العلم والصلاح في قومه. وقد فهم الناس من ذلك أن الوزان رجل (خاص) لأنه دعوة من دعوات الشيخ أحمد زروق. وعندما ترجم الفكون للوزان ذكر أنه قد تحول من كتب الصوفية والوعظ إلى الحديث الشريف، ووعد الفكون بكتابة تأليف في كرامات الوزان. إذن فالفكون من المنتسبين إلى مدرسة الوزان التي هي مدرسة الإمام أحمد زروق، وقد ورث هذا الانتماء عن والده عن جده كما ذكرنا.
المصدر الثاني: أنه قرأ على الشيخ يحيى الأوراسي، كما عرفنا. وكان الأوراسي قد أخذ الطريقة الزروقية عن شيخه طاهر بن زيان الزواوي عن أحمد زروق عن عبد الرحمن الثعالبي. وكان زروق قد أقام مدة في كل من بجاية وقسنطينة وترك هناك تلاميذ ونشر تعاليمه الشاذلية المنقحة. وتخبرنا بعض الروايات أن الفكون قد لبس الخرقة الصوفية الزروقية - الشاذلية على يد شيخه يحيى الأوراسي عن طاهر بن زيان المذكور عن أحمد زروق الصغير عن والده عن محمد بن يوسف السنوسي إلخ (1).
المصدر الثالث: أن الفكون درس القصيدة القدسية لعبد الرحمن الأخضري وهي القصيدة التي تذكر أحوال المتصوفين في القرن العاشر الهجري (16 م) وتنحى عليهم اللجوء إلى الخرافة والشعوذة، وتدعو إلى التمسك بالعلم ونبذ
(1) العياشي، الرحلة 206/ 2. ط. المغرب 1899.
البدعة والعمل بالكتاب والسنة، والجمع بين علمي الظاهر والباطن جمعا صحيحا واضحا. وكان الأخضري من تلاميذ محمد بن علي الخروبي الذي هو من تلاميذ الشيخ أحمد زروق. وكان الفكون قد أعجب إعجابا شديدا بالقدسية حتى أنه كاد يذكرها كاملة في كتابه (منشور الهداية) مستشهدا بأبياتها من حين لآخر إذ تنجده آراء الأخضري في الأحوال المشابهة التي كان يعرضها الفكون في وقته (بينهما حوالي قرن حسب بعض الروايات). ومن إعجابه بالأخضري أنه شرح له أيضا عملا في آداب الدين والمعاملات سماه (الدرر على المختصر)، كما سنعرف. كما أورد رسالة مطولة لأحمد زروق محتجا بها رادا بها على أدعياء التصوف في وقته (1).
وقد تكون هناك مصادر أخرى لا نعلمها الآن عن تأثر أو أخذ الفكون بالطريقة الزروفية الشاذلية. فالذين تحدثوا عنه كالثعالبي والعياشي لم يذكروا أنه أخذ إجازة من أحد رجال الصوفية في المشرق، ولم يشيروا إلى أنه تتلمذ لأحد هناك، كما كان يفعل جل العلماء في وقته بالعكس لقد وجدنا الفكون ثائرا على علماء المشرق إذ يعتبرهم متساهلين في العلم ولا يرعون حرمة المساجد، ومتساهلين في مسائل الحلال والحرام، كالدخان.
كما وجدناه متشددا في منح الإجازات لغيره خلافا لعادة علماء ذلك العصر. وهذا العياشي يذكر أنه عندما حج معه سنة 1064 طلب منه الانخراط في سلك طريقته (الزروقية) فلم يكتب له
(1)(منشور الهداية) ص 229 - 234.
الفكون ذلك كتابة وإنما اكتفى بقوله له (إني أقول لك كما قال الإمام الشاذلي، رضي الله عنه: لك ما لنا من الخدمة، وعليك ما علينا من الرحمة). وهذا في الواقع تهرب من إعطاء الإجازة والرضى المكتوب بالدخول في الطريقة. وقد تحرج العياشي من ذلك وقنع، كما قال، بهذه الكلمة حتى لا يثقل على الشيخ:(قنعت منه. بالكلمة التي قالها لي لما علمت حاله، وخشيت أن أثقل عليه وأكلفه ما لا تطيب به نفسه، فإنه. من أهل القلوب (1).
ولعل نفس الموقف وقفه الفكون مع تلميذه الآخر عيسى الثعالبي. فقد ذكر هذا في فهرسه المسمى (كنز الرواة) أنه أخذ عن شيخه الفكون بعض كتب الحديث، وحصل منه على الإجازة فيها. ومن جهة أخرى عرض عليه الثعالبي الوظيفة الزروقية كما عرض عليه حزب البحر لأبي الحسن الشاذلي وكلاهما عمل يضم مبادىء الطريقتين الأصلية (الشاذلية) والفرعية (الزروقية) - وقد لقن الفكون الذكر للثعالبي على عادة الصوفية، ولكنه اكتفى هنا بكلمة الإخلاص (سورة الإخلاص؟) ثم ألبسه الخرقة الصوفية قائلا له:(خالدة تالدة لا تباع ولا توهب). هكذا روى الثعالبي عن شيخه الفكون. ونحن وإن كنا لا نشك في نسبة الفكون للطريقة الزروقية نكاد نشك في تلقين الفكون له الذكر وإلباسه الخرقة على النحو الذي حدث. فقد عرفنا من كتابات الفكون أنه من طينة أخرى، وأنه عاتب معاصريه، على هذا الأسلوب، فكيف يمارسه هو؟!
(1) العياشي، الرحلة 390/ 2.
ولكن الأوصاف التي أوردها كل من العياشي والثعالبي له صحيحة في نظرنا لأنها تنطبق تماما مع ما عرفنا عنه من كتاباته. وعبارة العياشي في ذلك أن الفكون كان منقبضا، منزويا عن الناس، مترددا على الحرمين الشريفين رغم كبر السن. وعبارة الثعالبي في ذلك أطول وأوضح وهي: جمع الله له بين العلم والعمل إلى كمال الزهد والورع والتعفف عن الناس، وعدم التأثر بكلام الناس حتى استوى عنده المدح والذم، مع المجانبة للطلبة (العلماء) وأهل الولايات الدنيوية وقلة المبالاة بهم وعدم الاهتمام بما يهدى إليه. بل يضيف الثعالبي قوله فيه أنه (انجمع بآخره عن الناس ولزم العزلة والعكوف على العبادة وتهذيب النفس)(1) وقد مر بنا أن الثعالبي حكى عن شيخه أنه لم يكترث بوالي مصر وعلمائها وأعيانها عندما خرجوا لملاقاته ومهاداته والتبرك به (فما استفزه شيء من ذلك، ولا اكترث به ولم يقبل منه (أي من الباشا) دينارا ولا درهما).
وكان الفكون لا ينكر التصوف، ولكن يرى أن أهل عصره انحدروا به إلى الدرك الأقل وأساؤوا فهمه، وحولوه إلى (حضرة) فيها الرقص والموسيقى والإنشاد وغيرها من البدع والمنكرات، كما استغلوه في سلب العامة أموالها وتخدير عقولها وتعطيل الأعمال التي أمر الله بها، ومن ثمة الوهن الذي أصاب المسلمين. ولذلك كان يكثر من الاستشهاد من آثار المتصوفة الأقدمين كالبسطامي والطرطوشي وإبراهيم الشاطبي والغزالي
(1) عيسى الثعالبي (كنزة الرواة)، ص 300، مخطوط خاص.
ومحمد بن الحاج وإبراهيم بن أدهم، بالإضافة إلى الأخضري وزروق والوزان. فثورة الفكون إذن ليست على التصوف في حد ذاته ولكن على سوء فهمه واستغلاله، وليست على المتصوفة عموما ولكن على الدجالين المتعوذين أو (أدعياء الولاية) كما يسميهم، أولئك الذين اتخذوا تلاميذ من النساء والرجال، ونصبوا أنفسهم لإعطاء العهد وتلقين الأوراد، وكانوا يخالطون الظلمة والمفسدين، ويدخلون على النساء في بيوتهن، واستشهد لذلك بالشيخ بوكلب الذي تعلق بامرأة وتعلقت به حتى أنها كانت تبيت عنده وحملت منه فقالت إن الأولياء أعطوها له، كما استشهد بالشيخ بلقاسم الحيدوسي الذي كان يجتمع بالنساء غيبة وحضورا.
ويفهم من كلام من ترجموا للفكون، خصوصا الثعالبي والعياشي (1) أنه قد مر بتجربة جعلته (يتحول) من علوم أهل الظاهر إلى علوم أهل الباطن. وكان هذا التحول عندهم مدحا لا ذما، لأن علوم أهل التصوف أصبحت في القرن الحادي عشر أولى وأجدر بالدراسة والاهتمام من علوم أهل الظاهر. ما الذي جعل الفكون يتحول هذا التحول الخطير؟ لا أحد يذكر السبب. لقد عرفناه عقلانيا ينتقد البدع والخرافات وينكر استخدام الروحانيات والحضرات ونحوها. وعندما تحدث عن الشيخ
(1) الظاهر أن كل المترجمين الآخرين للفكون إنما أخذوا عن هذين المصدرين، وقل من رجع مباشرة إلى حياته في مصادرها الأخرى مثل (منشور الهداية).
الوزان مدحه من أنه تحول من دراسة كتب التصوف إلى كتب الحديث. وتخصص هو في دراسة النحو والصرف، وهما من العلوم العقلية. ومدح جده بأنه كان يعتني بالبيان ويدرس سعد الدين التفتزاني ويؤلف فيه. إذن كيف تغيرت حالة الفكون فأصبح يقول عن هذه العلوم قرأناها لله وتركناها لله؟ وهل صحيح أنه تحول كذلك؟ إن آخر كتاب ألفه في علم الصرف يعود تاريخه إلى سنة 1048 (1) ولا نعرف أنه ألف كتابا آخر بعد هذا التاريخ، وكان عمره حينذاك ستين سنة. وفي هذا التاريخ كان أيضا متوليا وظائف والده الشرعية وأضاف عليها إمارة ركب الحج ولقب شيخ الإسلام. فهل تقدم السن وتوليه الوظائف المذكورة جعلته يتحول هذا التحول الخطير؟ قد يكون ذلك.
ولكن عبارات، المترجمين في ذلك، متناقضة وغامضة، فبعضهم، كالعياشي، ينسب إليه أنه تحول من علوم الظاهر إلى علوم الباطن وبعضهم، كالثعالبي، ينسب إليه أنه فقط توقف عن ممارسة التدريس الذي كان قد قضى فيه شطرا كبيرا من حياته. ونرجح نحن رواية الثعالبي لا رواية العياشي. فقد يكون الفكون توقف عن التدريس، لكبر سنه وكثرة وظائفه وثقلها. ولكن تبرير ذلك التوقف كما ذكره الثعالبي لا نسلم به أيضا، فهو يقول عن الفكون: وكان إذا ليم على ترك التدريس يقول: علم طلبناه لله وتركناه لله. وإلى هنا يمكن أن يكون ما نسبه الثعالبي للفكون
(1) ستعرف أنه الكتاب الذي شرح به منظومة (أرجوزة) المكودي في التصريف. وقد انتهى منه في شهر صفر من سنة 1048.
صحيحا. فقد يكون الفكون قد تعاطى التدريس زمنا ثم تخلى عنه لمآرب أخرى أهم وأخطر وهي كما لاحظنا تلك الوظائف الجديدة والمهمات السياسية والدينية التي تقلدها. ولكن مقالة الثعالبي غير ذلك. فهو يفسر كلام الفكون السابق بقوله: (يعني لفساد الزمان وعدم إخلاص النية في طلب العلم). هذا كلام لا يمكن في نظرنا أن يصدق على الفكون الذي كان يعتبر القيام بالتدريس والنهي عن المنكر ومحاربة البدع والآفات، جهادا يقوم به في سبيل الله.
والغريب أن العياشي الذي عرف الفكون شخصيا والتقى بولده وتتلمذ على الثعالبي، تلميذ الفكون، يردد تقريبا نفس العبارة التي نسبها الثعالبي للفكون وهي (علم طلبناه لله وتركناه لله) ولكن في مقام آخر. لقد ذكرها في مقام التصوف لا في مقام التدريس، فالفكون في نظر العياشي تحول من علم الظاهر إلى علم الباطن قائلا أن الفكون إذا سئل عن علوم أهل الرسوم (علوم الظاهر) يقول:(قرأتها لله وتركتها لله). فأنت ترى أن العبارة واحدة، ولكن العياشي استعملها بشأن تخلي الفكون عن العلوم العقلية والتوجه إلى التصوف أو علوم أهل الحقيقة، بينما استعمل الثعالبي نفس العبارة بشأن تخلي الفكون عن التدريس. ويبدو لنا أن المؤلفين الإثنين انطلقا من قناعات شخصية. فالثعالبي كان يجمع بين علوم الظاهر وعلوم الباطن وكان كما يقول مترجموه محبوبا من أهل الشريعة وأهل الحقيقة على السواء، فلم يمدح، بل لم يذكر حتى عابرا، تخلى الفكون عن العلوم العقلية لأنه لا يرى ذلك شيئا يستحق المدح والتنويه وكان العياشي، وهو من
المغرب الأقصى الذي ازدهرت فيه الطرق الصوفية عندئذ، ميالا إلى التصوف فمدح الفكون على كونه تحول من ظاهري إلى باطني (بعدما كان إماما) في علوم اللغة والشريعة (وله تأليف يشهد له بالتقدم) فيها.
والخلاصة أن الفكون عاش حياته على مرحلتين. المرحلة الأولى (وهي الأطول والأثمر) كرسها للعلم تلقيا وتدريسا وتأليفا. وكان أحب العلوم إليه علم النحو وما يتصل به من صرف وبلاغة ولغة. ولكنه لم يكن خلال هذه المرحلة متخليا أبدا عن مبادىء الطريقة الزروقية التي تعلم العلم والعمل، وتزكي الصلاح وتنفي البدع والخرافات، وتحض على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1) أما المرحلة الثانية من حياته، فقد قضاها في القيام بوظائف الجامع الكبير (الأعظم) من إمامة وخطابة وفتوى ورعاية للأحباس. كما كان يتردد على الحرمين الشريفين أميرا لركب حج الجزائر باعتباره شيخا للإسلام أو الشخصية الدينية الأولى في البلاد. ومع تقدم السن ومتطلبات الوظائف المذكورة وكثرة اتصالاته بالناس (ولاة وعلماء وصلحاء وعامة - جزائريين وغيرهم) ظهر الفكون وكأنه لا وقت له للتدريس ولا للقيام بالتأليف في العلوم التي طالما فاق فيها أهل عصره أو كان (إماما) فيها كما
(1) وصفه معاصره أحمد المقري، صاحب (نفح الطيب) أيضا بأنه كان ميالا إلى التصوف. ونعم ما فعل. وكان المقري قد توفي سنة 1041 أي أثناء عناية الفكون بعلوم المعقول. وهذا يتفق مع ما ذهبنا إليه من أن الفكون لم يتخل عن التصوف الحقيقي حتى وهو يدرس النحو والبلاغة واللغة والصرف.