الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ليكون شيخ البلاد لقسنطينة في وظيفة رئيس بلديتها، وذلك لأن والده كان شيخا هرما تجاوز الثمانين سنة. ولكن ذلك كان إجراء مؤقتا فقط ريثما تستقر لهم الأوضاع وتهدأ النفوس. ذلك أنهم سرعان ما ألغوا (سنة 1838) وظيفة شيخ الإسلام التي طالما تمتع بها آل الفكون، كما الغوا وظيفة شيخ البلاد أو رئيس البلدية، وبذلك أسدل الفرنسيون الستار مؤقتا على نفوذ عائلة آل الفكون بقسنطينة وهو النفوذ الذي استأنفته هذه العائلة في العهد الجديد، والذي تغلب عليه الدنيا وليس الدين (1).
5 - نشأته وثقافته (شيوخه)
هو عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم بن قاسم بن يحيى الفكون. ولد في قسنطينة سنة 988 (1580)، وسمي على جده، لأنه ولد على أثر وفاته. ويخبر الفكون نفسه أنه عندما كانت والدته حاملا به سألت جده الدعاء، فقال لها: (جعل الله عمارة
(1) حكم الفرنسيون من سنة 1842 (عهد بوجو) بإلقاء القبض وطرد الأخوين الفكون: حمودة وأحمد إلى الإسكندرية بتهمة التآمر ومعارضة أوامرهم.
انظر أرشيف إيكس 613 - 80 F . ووجدنا في مكان آخر أن الحاكم العام جول كامبون قد قرر سنة 1896 تعيين حفيد حمولة الفكون المذكور (وهو محمد الفكون) نائبا في المجلس العام بقسنطينة خلفا لسليمان بن عيسى، حفيد ابن عيس قائد جيش الحاج أحمد باي، وقد دافع كامبون عن قراره بأنه يرى أن عائلة الفكون نظيفة وتتمع بأخلاق عالية، وأنها من العائلات التي (انحنت أمام حضارتنا)، انظر كتاب جول كامبون (حكومة الجزائر)، من 254 - 255.
الدار منك). وهذه العبارة، إذا صحت، تدل على أن الفكون كان أول مولود لأبيه محمد، وأن الفكون ظل يحمل هذه الفكرة مدى حياته، أي أنه هو عمارة الدار الفكونية بدعاء جده. (ص 24). وقد عاش الفكون في كنف أبويه طويلا إذ عرفنا أن والده عاش إلى سنة 1045 أما والدته فلم يسمها ولكنه ذكر أنها كانت شريفة حسنية من عائلة محمد بن قاسم الشريف الذي قلنا أنه كان متوليا وظيفة مزوار (نقيب) الأشراف بقسنطينة، وكان محمد بن قاسم هذا مفتيا أيضا، وامتحنه عسكر قسنطينة امتحانا عسيرا. فالفكون إذن نتاج عائلتين عريقتين: إحداهما تميمية والأخرى حسنية.
وقد أشار الفكون نفسه إلى بعض حياته في طفولته وشبابه الباكر. فقد كانت قسنطينة في نهاية القرن العاشر (16 م) تعيش على تراث عمر الوزان وعبد الكريم الفكون (الجد) وعبد الرحمن الأخضري ويحيى الأوراسي فكان تلاميذ هؤلاء هم الذين يرأسون حلقات الدرس في مساجدها. وكان والده (محمد) أحد كبار المدرسين عندئذ. وكان التلاميذ يأتون إلى تلك المساجد من نواحي عديدة خاصة من زواوة والغرب (الجزائر) والأوراس ونقاوس. ومن أشهر الطرق الصوفية عندئذ الطريقة الزروقية (نسبة للشيخ أحمد زروق المتوفى سنة 899). فالأخضري والوزان من المنتسبين إليها والمتحمسين لها وكانت، الحياة السياسية لا تؤذن بالاستقرار، ولكن أسرة الفكون كانت تساهم في حفظ التوازن وتسعى للعافية والصالح العام وفي هذا الجو فتح الفكون عينيه وأخذت أعوام حياته تتوالى حتى بلغ من الدخول إلى الجامع
لحفظ القرآن الكريم. وقد ذكر هو أن شيخه في ذلك يسمى أبو القاسم بن عيسى الزواوي الملقب بثلجون (ص 245). ولاحظ عند ذكره الشيخ عبد الله بن غرارة أنه هو شيخ أبي القاسم بن عيسى الذي درس عليه القرآن العظيم، وإن ابن غرارة هذا كان مشهورا بمعرفة العزائم وتخديم الروحانيات وذا حكمة ظاهرة.
ولم يشر الفكون إلى حياته في المدرسة أو في الجامع بعد حفظ القرآن إلا قليلا فلا نجد من آثاره في هذه السن أكثر من حادثتين قد لا تساعداننا كثيرا في فهم حياته أثناء المراهقة واليفاعة. الأولى خبر ساقه عن زيارة إبراهيم الفلاري التونسي لقسنطينة وتعجيزه له (أي الفكون) في مسألة نحوية رغم حداثة سنه، كما يقول، إذ كان ما يزال في مرحلة الكتاب (المستوى المتوسط). ومع ذلك فإن الفكون يروى في شيء من الزهو والإعجاب بنفسه أنه رغم التحدي فإنه استطاع، بعد جهد جهيد، أن يتحدى الشيخ الفلاري أمام جمع من علماء قسنطينة ويسكته حين أحضر له مسألة أيضا لم يحر معها الفلاري جوابا. فأحرجه الفكون أمام زملائه الذين طالما تطاول عليهم بعلمه (1)(ص 101 - 105). أما الحادثة الثانية التي وقعت أيضا، فيما يبدو، أثناء يفاعته، فهي تعيين والده له نائبا عنه في الجامع الأعظم عندما (وقع على التكليف). وغيرة منه أخذ أحد العلماء،
(1) إبراهيم الفلاري تولى عدة مناصب في تونس منها الفتوى، وكان ماهرا في النحو. توفي سنة 1039 انظر عنه السراج (الحلل السندسية) 1/ 2، 181 وتشير أرقام الصفحات داخل المتن إلى صفحات كتاب (منشور الهداية).
الذي كان هو النائب لوالده قبله، يشنع عليه ويعلن أنه صغير السن وأن الصلاة لا تجوز وراءه من أجل ذلك. (فكان من لطف الله ورعايته أن لم يمت (حتى) جثا بين يدي جثو الصبي للمعلم) (1).
ولكن من الذي أسهم في تعليم عبد الكريم الفكون حتى نبغ واكتسب هذه المعارف كلها؟ ان هناك عدة عوامل كانت وراء ذلك. فالإضافة إلى الجو العام الذي أحدثه تلاميذ الوزان بقسنطينة، وبالإضافة إلى تردد علماء تونس والمغرب على هذه المدينة، وكذلك زيارات المشارقة سواء الذين وصلوا مع العثمانيين أو الذين وصلت أخبارهم عن طريق الحجاج - هناك قبل كل شيء المعلم الأول للفكون وهو والده. فقد كان هذا الشيخ (محمد الفكون) في مقتبل عمره عندما رزق بولده فأحاطه بعنايته من أول وهلة ورعاه بعلمه وطريقته ومكتبته. ورغم كثرة شيوخ الفكون فإن تلميذه عيسى الثعالبي الذي روى الحديث، عنه لم يذكر منهم سوى والده ويحيى الأوراسي ولكن الثعالبي أضاف كلمة (وغيرهما). ومع ذلك فإن الفكون لم يطل في ترجمة والده فنحن لا نعرف ما الذي أخذ عنه بالضبط، غير أنه يمكننا أن نتصور أنه أخذ عنه مبادىء العلوم ومراجعة المسائل التي كان الإبن يتلقاها على العلماء الآخرين في البلاد. فقد اكتفى الفكون في وصف والده بالورع والتصوف وقيام الليل والتعلق بالفقه.
(1)(منشور الهداية) من 80، وهو يقصد بذلك الشيخ أحمد الميلي.
و (جثا) في الأصل (جثى) وكلمة (حتى) زائدة من عندنا.
ولكن (منشور الهداية) يعطينا قائمة طويلة من أسماء الشيوخ الذين درس عليهم الفكون كثيرا أو قليلا من العلم. ونحن نذكرهم على النحو التالي ملاحظين أن الفكون يكثر أحيانا من العبارات التي تدل على تفوقه على أقرانه بل حض على بعض شيوخه، وقد ينتقدهم ويصحح معلوماتهم، كما أن عباراته توحي بالخرافية أحيانا إذ يسوق بعضها في قالب رؤيا مناميه وكرامات ونحو ذلك، وهؤلاء هم شيوخه:
1 -
يحيى الأوراسي، قال عنه الفكون أنه سمع به ورأى ذاته، ولكنه لم يقل إنه أخذ عليه العلم، وإنما الذي ذكر ذلك من تلميذه عيسى الثعالبي في (كنز الرواة).
2 -
سليمان القشي، قرأ عليه أوائل الرسالة وحضر باقيها، وشرح الصغرى في العقائد، والقطر والأجرومية بشرحها لجبريل، وبعض أوائل الألفية. وكان الشيخ القشي من الذين درسوا في الأزهر الشريف مدة من الزمن.
3 -
عبد العزيز النفاتي، قرأ عليه الحساب وبعض الفرائض، وكان النفاتي قد قرأ بتونس على الشيخ الشهير الشريف النجار.
4 -
محمد الفاسي المغربي، قرأ عليه بعض مسائل الإسطرلاب وبعض الفرائض، ولكن الفكون وجد عنده قصورا
في العلم فقال عنه ليس (له معرفة في معالي الألفاظ ولا بالصناعة الكسورية فأطبقت الكتاب لما تحققت من عجزه، وطالعته وحدي ففتح الله في عمل الفريضة بالطريقة الكسريه
…
) (ص 34).
5 -
محمد ابن راشد الزواوي، قرأ عليه النحو وتأثر به كثيرا، لأن ابن راشد قدم عليهم ونزل عندهم، وكان الفكون عندئذ ما يزال صغير السن، فقط في مرحلة حفظ القرآن، فحبب ابن راشد علم النحو إلى قلب الفكون إذ كان ابن راشد يناظر تلاميذ الشيخ محمد التواتي الذي سيأتي الحديث، عنه. وقد اعتمده ابن راشد أيضا في (تسميع) الدرس لفصاحة لسانه.
6 -
محمد التواتي المغربي، أشاد به الفكون كثيرا ووصفه بأنه (سيبويه زمانه). وأخبر أنه قرأ عليه كتاب المرادي في النحو مرارا كما قرأ عليه عقائد السنوسي بشراحها، وابن الحاجب بمطالعة التوضيح عليه، وتذكره القرطبي، وحضر عليه التفسير في نحو عشرة أحزاب، وتدريسه لصحيح مسلم بن الحجاج بمطالعة الأبي، وحاشية جمع التكسير على المرادي وهي بخط التواتي نفسه، وغيرها من الكتب. وكان التواتي معجبا بتلميذه الفكون مسرورا بمباحثه معه (31 - 32).
وبالإضافة إلى هؤلاء الشيوخ يخبر الفكون أنه قرأ في صغره شرح عبد اللطيف المسبح على مختصر الأخضري في الآداب العامة. وقد انتقد طريقته ورأى أن يقوم هو بوضع شرح جديد للمختصر المذكور، وسماه (الدرر على المختصر). ولكن من الواضح أن الفكون لم يتتلمذ للمسبح لأنه من جيل جده وإنما قرأ شرحه المذكور فقط.
وإذا نحن تأملنا في هذه القائمة تأكدنا من بعض الأمور:
1 -
أن شيوخ الفكون قد يكونون أكثر من هؤلاء. وإننا لا
ندري أين كان يتلقى على هؤلاء الشيوخ، والغالب أن ذلك كان في الجامع الأعظم حيث تتولى أسرته وظائف هذا الجامع وتقع دارهم بجواره.
2 -
إن مرويات الشيخ عيسى الثعالبي عن الفكون في (كنز الرواة) لا تساعدنا كثيرا في فهم أوليات الفكون وشيوخه، إذ لا تذكر من شيوخه سوى والده ويحيى الأوراسي.
3 -
إن ثقافة الفكون ثقافة محلية، فهو لم يغترب من أجلها ولم يرحل لا داخل الجزائر ولا خارجها طلبا للعلم. وأما رحلاته التي قام بها بعد ذلك فقد كانت بعد نضجه كما كانت في نطاق مهمته في أداء الحج وقيادة ركب الحجاج. ولم يتأثر من بين أولئك العلماء إلا بوالده وبالشيخين ابن راشد الزواوي ومحمد التواتي.
وسنعرف من مراسلاته وعلاقاته أنه كانت له أيضا ارتباطات علمية أخرى مع معاصريه ولكن على نطاق آخر. وهناك حادثة أخرى وقعت للفكون وهو ما يزال، كما يقول، صغير السن، وهي عزمه على الرحيل من قسنطينة إلى الحجاز.
ونفهم من سياق الحادثة، كما ذكرها، أنه كان غير راض عما في قسنطينة من مظالم وفوضى ومناكر، وأنه كان يرغب في الفرار من هذا الوضع رغم حداثة سنه. وكان يلح على والده في ذلك. وقد تحرج الوالد من موقفه، ولعله راوده على البقاء وحاول إقناعه فلم يفلح. وحانت الفرصة للمواجهة عندما زارهم في منزلهم شيخ من زواوة هو محمد الموهوب الزواوي الذي يبدو أنه كان صديقا للوالد. وكان الوالد والولد حاضرين معا. وعندما طرح الموضوع
على الشيخ الزواوي أجاب بما ثنى عزم الإبن عن الرحيل إلى الحجاز، وما فهم أن المؤمن قد يفر من أرض فيها ظلم إلى أرض يسمع أن ظلمها أقل، فإذا حل بها وجد ظلمها أعظم من الأولى. وهكذا يظل متنقلا في الطرقات إلى أن يدركه الموت وهو على تلك الحال. وقد يكون من المفيد أن نسوق عبارة الفكون نفسه بهذا الصدد. قال عن زيارة الشيخ محمد الموهوب لهم:
(وكنت إذاك مشغوفا بالنقلة لأرض الحجاز، طالبا على الوالد ذلك. فاستشاره (أي الشيخ الموهوب)، أو خاطبته أنا في ذلك، الشك مني، فسمعته ذكر حديثا عن سيدنا رسول الله (ص) تسليما أن المؤمن آخر الزمان يموت بين الطرق، أو كما قال، إلا أن هذا معناه. قال وذلك أنه يفر من وطنه لما يناله منه من المناكر والظلم ونحوهما إلى وطن آخر يسمع عنه أنه أسد وأصلح فينتقل إليه فيجده أفسد من وطنه الدي ارتحل عنه وأكثر ظلما ومنكرا، فيندم على ارتحاله منه ويظنه أنه فاق على الحالة التي تركه، فيرتحل إليه فيجده أسوأ حالا من المكان الذي جاء منه. ولا يزال كذلك بين الطرقات حتى يأتيه الموت وهو على ذلك الحال). (ص 236).
ولكن الفكون لم يخبر ماذا قرر بعد ذلك. والظاهر أنه قرر البقاء في وطنه رغم المناكر والظلم والفساد الذي فيه ولم يذكر متى حدث له ذلك ولكنه اكتفى بقوله أنه كان عندئذ ما يزال صغير السن، وكل ما يمكن أن نستنتجه من هذا النص أن حالة
الوطن لم تكن على ما يرام في نظر الفكون وأنه فكر في الرحيل عن وطنه إلى وطن آخر، لعله يجد الرضى والراحة النفسية، ثم عدل عن ذلك لأن جميع أوطان المسلمين في النهاية متشابهة وأن الفساد قد عمها جميعا، فلا مهرب من قضاء الله إلا إلى قضاء الله.
ويبدو أن الفكون قضى الأربعين سنة الأولى من القرن الحادي عشر (17 م) في كنف والده. فكان يوسع معارفه بالقراءة في المكتب والتعليم والمذاكرة والمجالسة. وكان ينوب عن والده في الصلاة بالجامع الكبير (الأعظم). وكان يؤلف الكتب والرسائل، وكان يدرس أحوال العصر ويراقب تنافس العلماء على أصحاب السلطة وانتشار التصوف الكاذب على يد دراويش ومجاذيب. وكان يرى أحوال البلاد تسوء في الإدارة والقضاء والاقتصاد والأخلاق. فكان يحز كل ذلك في نفسه فلا يجد مجالا للتعبير عنه إلا في تسويد الصحائف ونصح من توسم فيه تقبل النصح وتعليم الوافدين على قسنطينة ومساعدة المحتاجين، وسنرى كيف انطبعت هذه الحالة على مؤلفاته التي كتبها في الواقع جميعا في الفترة المذكورة.
لم يخبر الفكون عن زواجه وشؤون العائلة إلا قليلا ولكن ما جاء به من أخبار يساعدنا على فهم حياته الخاصة وسلوكه حتى وهو في ريعان شبابه. فقد تزوج ابنة أحمد (حميدة) بن حسن الغربي، الذي كان من بيوتات قسنطينة والذي كانت له بعض المناصب الشرعية كالقضاء والفتوى. وكان من أهل الشورى في
إدارة البلاد (1) ويذكر الفكون أنه بقي مع هذه الزوجة ثلاث سنوات ثم فارقها لظهور أمور منها لا يمكن الإبقاء عليها معها. ترى ما هي هذه الامور؟ إن الفكون، كما سنرى، كان متشددا مع المرأة، فهل السلوك الشخصي لهذه المرأة هو السبب في هذا الفراق؟ أو هل كان للعلاقات العائلية (والفكون لا يخفي سخطه على سلوك أحمد الغربي مع أصحاب السلطة) دور في ذلك؟ والظاهر أنه لم يكن للفكون أبناء من هذه المرأة، لأنه لم يذكر ذلك، فهل كان ذلك أيضا وراء فراقهما؟ ويبدو أن ذلك حدث في آخر العشرة الأولى من القرن الحادي عشر. ثم لا يذكر الفكون شيئا عن زواجه الثاني والمعروف أن له إبنا هو محمد الفكون، تولى وظائف والده بعد وفاته، كما سنرى. غير أننا لا نعرف إن كان له أبناء آخرون.
قلنا إن الفكون كان متشددا في أموره العائلية أو قل كان متمسكا بالقواعد الشرعية كما يراها ويفسرها، وكان لا يهمه أن يخالف ما درج عليه الناس أو أصبح عرفا عندهم، حتى ولو كان والده من هؤلاء الناس. فهو يذكر أن أهل قسنطينة كانوا يعتقدون الجذب والبركة في بعض الشيوخ فكانوا يسمحون لهم بدخول بيوتهم والتكشف على نسائهم والأكل عندهم، كما كانوا يسمحون لهم دخول حوانيتهم وأخذ ما يرغبون فيه منها. بل إن
(1) هو الذي ألف فيه الفكون رسالة سماها (سربال الردة) التي سنتعرض له. وقد توفي أحمد الغربي سنة 1030 انظر (منشور الهداية)، ص 55.
هؤلاء الشيوخ قد يضربون من يشاؤون ولا يتعرض لهم أحد. وكان الفكون يشاهد ذلك فلا يقره. وقد بدأ بنفسه، فقد أخبر أن والده كان يمسح للشيخ محمد البلدي بدخول دارهم، وكان الكبار والصغار يعظمونه. ولكنه كان مختل العقل وكان لا يصوم ولا يصلي. ولذلك كان الفكون غير راض عن دخوله دارهم. فلم يسعه إلا أن حجب زوجته عنه (1).
ويبدو أنه في آخر الأمر قرر الاستقلال بداره عن أهله. فهو يخبرنا عن مشاريع بنائه وتجديده لإحدى دور العائلة، ويخبرنا أيضا أنه فعل ذلك للمضايقة التي حصلت له في سكناه مع أهله وأقاربه. والظاهر أنه بقي يسكن الدار الأصلية التي كانت لجدوده، والتي يسميها (مسقط الرأس) أو الدار السفلى ويسمي الدار الأخرى التي بقي فيها من بقي من العائلة بالدار العليا. فقد أخبرنا أنه كان سنة 1022 يجدد داره ويبني مسقط رأسه (هروبا من سكنى الدار العليا) لما وقع له من (الضيق والتضييق). ويخبر عن هذه الدار التي يجددها، أو مسقط رأسه، بأنها كانت بالقرب من الجامع الأعظم. وفي مناسبة أخرى يحدد مكان داره أو مسقط رأسه بأنها (دار سكناي التي جددت بناءها قبلي الدار العليا التي في قبلي الجامع الأعظم الأقدم بالبلد ..) ويخبر عن نفسه أيضا بأنه كان عندئذ (أي سنة 1022، (منشغل البال ببناء مسقط الرأس
(1) جاء في الرسالة التي بعث بها الفكون إلى صديقه أحمد المقري سنة 1038 أنه كان عندئذ منشغل البال بـ (موت قعيدة البيت)، - يعني زوجه - انظر رسالته في الملاحق.
للسكنى، لأني فار من سكني الدار العليا، لما حصل لي من الضيق والتضييق من بعض الأقارب) ص 239. ومن الواضح أن ذلك وقع أثناء حياة والده، ولم يخبرنا الفكون عن هؤلاء الأقارب الذين ضايقوه حتى ألجأوه إلى الفرار والهروب من دار إلى أخرى. ونستشف من وصفه لانشغاله ببناء الدار أنه كان يدير أمرها بنفسه ومن ماله. فهل كان مستقلا عن والده عندئذ كل الاستقلال، بما في ذلك الاستقلال المالي؟ وعلى كل حال فقد نظم الفكون داره بحيث جعلها صالحة أيضا لاستقبال الضيوف من العلماء والطلبة. فقد جعل لها طابقا علويا للصلاة وللضيافة.
وعبارته كما وردت في كتابه، وهو يتحدث عن زائر زاره، هي (وأنا جالس بعلو الدار الذي جعلته مصلى، ولمن يستضيفني) ص 249.
ولم يكد الفكون يستقر بهذه الدار حتى داهمه مرض خطير لم يجد له علاجا ولم يعرف له سببا. وقد لازمه هذا المرض سنوات. وكاد يؤدي به لولا لطف الله وتوسلاته. ويخبر هو أن المرض بدأه سنة 1025 وقد تمكن المرض من قلبه ولم يجد له الأطباء علاجا. وبقي سنة كاملة لا ينام، كما قال، وهو يتصبب عرقا حتى أيس منه الجميع واختل شطره الأيسر، ص 243. وفي مكان آخر يقول إن المرض داومه ثلاث سنوات ألزمه فيها الفراش، سنة لا ينام أبدا، وسنة ينام سنة لا نوما، وسنة أخرى ارتفع عنه الضر الأكبر ولكن بقيت أعراض المرض معه. وروى عن هذا المرض أن (تلونه وعدم ثبات مجيئه على صفة واحدة هو الذي أوجب تقييده). (أي خصه بتأليف). وبالإضافة إلى هذا