المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2 - مجتمع قسنطينة - شيخ الإسلام عبد الكريم الفكون داعية السلفية

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأولعصر الفكون وحياته

- ‌1 - التطور السياسي

- ‌2 - مجتمع قسنطينة

- ‌3 - الحياة الثقافية

- ‌4 - عائلته ومكانتها

- ‌5 - نشأته وثقافته (شيوخه)

- ‌6 - وظائفه وامتيازاته ومكانته

- ‌الفصل الثانيتأثير الفكون

- ‌1 - تلاميذه

- ‌1 - أبو مهدي عيسى الثعالبي:

- ‌2 - أبو سالم العياشي المغربي:

- ‌3 - يحيى الشاوي:

- ‌4 - بركات بن باديس:

- ‌5 - أحمد بن سيدي عمار (بن داود):

- ‌6 - محمد وارث الهاروني:

- ‌7 - محمد البهلولي:

- ‌8 - أبو القاسم بن يحيى، ومحمد العربي، والموهوب بن محمد بن علي:

- ‌9 - علي بن عثمان بن الشريف نسبا:

- ‌10 - أحمد بن ثلجون:

- ‌11 - محمد بن عبد الرحمن البوقلمامى:

- ‌12 - محمد بن باديس:

- ‌13 - أبو عمران موسى الفكيرين:

- ‌14 - عاشور الفكيرين (القسنطيني)

- ‌15 - محمد الفكيرين:

- ‌16 - علي بن داود الصنهاجي:

- ‌17 - أحمد الميلي:

- ‌2 - مراسلاته

- ‌3 - مذهبه الصوفي وموقفه من البدع

- ‌4 - بين النحو والأدب

- ‌5 - موقفه من قضايا عصره

- ‌الفصل الثالثتآليفه

- ‌1 - محدد السنان في نحور إخوان الدخان

- ‌2 - ديوان الفكون

- ‌3 - منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية

- ‌4 - فتح اللطيف

- ‌الفصل الرابعالنصوص

- ‌أ - النثر

- ‌1 - مقدمة كتاب (منشور الهداية)

- ‌2 - مقدمة كتاب (محدد السنان)

- ‌3 - رسالة من الفكون إلى أحمد المقري

- ‌4 - رسالة تاج العارفين إلى الفكون

- ‌5 - رسالة الفكون إلى تاج العارفين

- ‌ب - الشعر

- ‌حرف الهمزة

- ‌حرف الباء

- ‌حرف اللام

- ‌حرف الياء

- ‌ج - وثائق أخرى

- ‌المصادر

- ‌فهارس

الفصل: ‌2 - مجتمع قسنطينة

والعلماء يتزاورون والطرق الصوفية تنتشر هنا وهناك والبضائع متبادلة بنشاط، وهكذا.

‌2 - مجتمع قسنطينة

قبل أن نتحدث عن هذا المجتمع نود أن نلاحظ أن كتابات الفكون تعتبر مصدرا هاما عن مجتمع قسنطينة في القرنين السادس عشر والسابع عشر (10 - 11 / هـ) ولا نعرف أن هناك مصدرا آخر عربيا عن هذا المجتمع في تلك الفترة، اللهم إلا ما جاء في كتاب العدواني عن المجتمع القبلي في الإقليم خلال القرن السادس عشر. أما المصادر الأوروبية فموجودة ولكن قليلة، وكان هؤلاء يحرصون على تصوير حياة العواصم وقلما يتنقلون أو يتاح لهم التنقل إلى مدن الأقاليم مثل قسنطينة. ومن ذلك كتابات ليون الإفريقي (حسن الوزان) ومرمول الإسباني.

وعلينا أن نعود إلى مصادر أخرى لنعرف من خلالها طبيعة هذا المجتمع ولعل في كتابات ابن أبي دينار صاحب المؤنس وفي تراجم حسين خوجة صاحب ذيل بشائر أهل الإيمان (وكلاهما من القرن السابع عشر 11 / هـ)، بعض الفوائد لما نحن فيه. كما أن في كتابات رجال الصوفية أمثال زعماء الطريقة الزروفية أو الشابية معلومات هامة عن الحياة الاجتماعية بقسنطينة وإقليمها، يضاف إلى ذلك الكتابات الشرعية كدفاتر القضاة وكنانيش العلماء وكتب الفقه ونحوها. أما المصادر المتأخرة فمتوفرة ولا سيما منذ دخول الفرنسيين. ومن أبرزها كتابات صالح العنتري وأحمد العطار وفايسات وميرسييه وشيربونو وفيرو، وآخر ما صدر عن هذا

ص: 21

الموضوع كتاب محمد المهدي شغيب المسمى (أم الحواضر)(1) وينسب الفرنسيون كتابا إلى الشيخ محمد البابوري ألفه سنة 1848، ولكننا لا نعلم الآن عنه شيئا ويبدو أنه يشبه تأليف العطار (2) أما كتابات الورتلاني عن مجتمع قسنطينة فهي هامة ولكنها جاءت متأخرة عن الزمن الذي نعالجه.

كان مجتمع مدينة قسنطينة مجتمعا حضريا متماسكا. وكانت تلعب فيه العائلات الكبيرة، ولا سيما الدينية، دورا فعالا ونافذا. فهي التي تنظم العلاقات العامة، وهي التي تضع شروط المعاملات، وهي التي تعين أو تبارك النظام الإداري للمدينة (مشيخة المدينة أو البلدية) وتسهر على الحماية والرعاية الداخلية (الشرطة)، وتنشط الحياة الاقتصادية وتتحرك في الأزمات (كالطواعين، والجوائح الأخرى) والمهمات الكبيرة بطريقة جماعية منسقة. صحيح أن المدينة كانت مقسمة إلى أحياء أهمها حي باب الجابية وحي البطحاء، وصحيح أن هناك التنافس بين تلك العائلات من أجل المجد والجاه والثروة، ولكن هذا التنافس لم يبلغ حد التنافر أو التحارب. وحتى ما ركز عليه بعض مؤرخي الفرنسيين من أن عائلات قسنطينة انضمت عند مجيء العثمانيين

(1) انظر في هذا الشأن أيضا ما كتبناه عن كتاب (علاج السفينة في بحر قسنطينة الذي ألفه أحمد الأنبيري، ونشرناه في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) ط 2، 1982، القسم الأول.

(2)

ذكره فايسات وقال أن البابوري من علماء قسنطينة وأنه ألف عمله بطلب من شيربونو، كما أشار فايسات إلى تأليف للشيخ مصطفى بن جلول أيضا ولم نطلع عليه. انظر فاسيات (روكاي) 243/ 2.

ص: 22

إلى فريقين فريق بزعامة عائلة ابن عبد المؤمن وفريق بزعامة عائلة الفكون - قلنا حتى ذلك كان مجرد اختلاق لم تؤكده الوثائق (1)، وكل ما في الأمر أن عائلة عبد المؤمن قد ضعفت خلال العهد العثماني بينما ارتفعت حظوظ عائلة الفكون، وانتقلت إمارة ركب الحج من الأولى إلى الثانية. ولا نجد في كتابات الفكون التي تعرض بالتفصيل إلى أهل القرن السادس عشر (10 / هـ) والسابع عشر أية إشارة تعريضا أو تصريحا، يشم منها المس من قيمة عائلة ابن عبد المؤمن، بالعكس أنه عندما ذكر شخصا من هذه العائلة قال عنه (حبيبنا محمد، حفيد الشيخ عبد المؤمن).

معظم العائلات في قسنطينة كانت تعيش على العلم والتجارة والزراعة والعلم لأن قيمة العائلة كانت في تراثها العلمي وتنشئة أبنائها عليه من حفظ القرآن الكريم إلى تولية القضاء والفتوى والتدريس. ومن اعتناق المذاهب الصوفية إلى بناء الزوايا. إذن كان التراث العلمي لكل عائلة مما تعتز به وتفاخر بأنه طريقها إلى المجد والشهرة والنفوذ. وكانت التجارة هي عصب الحياة فمعظم العائلات كانت تتعاطى التجارة بطريقة أو بأخرى، بالجملة أو بالتفصيل في داخل المدينة فقط أو بالتعامل مع مدن السواحل وتونس. وكانت أسواق المدينة تغص بالواردين من شتى أنحاء الأقليم للتزود بالمواد الغذائية والبضائع المختلفة. فهؤلاء أهل زواوة وهؤلاء أهل الأوراس وهؤلاء أهل الصحراء، كلهم كانوا

(1) - مثل ما ادعاه شيربونو (روكاي، 1856 - 1857) ص 97 - 98 من أن الترك سمموا الشيخ عبد المؤمن خدعة وسلخوا جلده وحشوه تبنا وأرسلوه إلى الجزائر. وعينوا بدله شيخا من عائلة الفكون.

ص: 23

يؤمون عاصمة الإقليم لقضاء مآربهم في أسواقها. وكثير ما بقي بعض هؤلاء الوافدين في المدينة فيتخذون لهم مسكنا ويتزوجون أو يأتون بعائلاتهم معهم فينمو المجتمع ويتنوع ويتنافس، ولكن المجتمع الحضري كان في الغالب ينظر شزرا إلى هؤلاء (البرانية) فهو يريد تجارتهم وأموالهم وبضائعهم ويدهم العاملة ولكنه لا يريد بقاءهم في المدينة ومنافستهم وعاداتهم الخشنة التي لا تتفق مع عاداته الرقيقة وبالإضافة إلى ذلك كانت معظم العائلات الكبيرة تملك ضيعات (البساتين، خارج المدينة لا سيما في منطقة الحامة التي كانت تعرف أيضا (بالفحص الأبيض)، وكانوا غيورين أشد الغيرة على هذه الأراضي الزراعية الخصبة التي تمون المدينة بالغلال والبقول والخضر والألبان واللحوم ونحوها. وكانت العائلة لا تعتبر نفسها ثرية أو صاحبة اعتبار اجتماعي إلا إذا كانت تملك مجموعة من البساتين لا بستانا واحدا ولذلك كانت العائلات حريصة كل الحرص على توفر الأمن خارج المدينة أيضا حتى تستطيع القيام بعمارة الأرض وزراعتها في أوقاتها. أما إذا انعدم الأمن فكثرت اللصوص والحرابة وقطاع الطرق فإن الخوف يمنع الناس من استغلال أراضيهم، وسنعرف من كتابات الفكون ولا سيما في (منشور الهداية) عن موضوع العائلات وموضوع الأمن والخوف وأثرهما في الحياة العامة.

ولعل حرص عائلات قسنطينة على أراضيها وأسواقها وتجارتها هو الذي حدا بها إلى تأييد السلطة ضد ما كان يقع من ثورات في الريف أحيانا، كما حدا بها إلى أن تتدخل بالصلح وإصلاح

ص: 24

ذات البين والتوسط حتى لدى باشا الجزائر من أجل الإبقاء على الأمن والاستقرار للذين بدونهما تحل الفوضى وتتبعثر الجهود ويسود الخوف والخراب. ولكن هذا لا يعني أن الاضطرابات في المدينة والثورات في الريف (الإقليم) لم تحدث، بالعكس فقد حدثت كما عرفنا وكان لها أثر سلبي على اقتصاد الإقليم كله. فثورة ابن الصخري وثورة يحيى الأوراسي وثورة جبال نقاوس والفوضى التي أشاعها طلاب المال عن طريق الشعوذة والدجل في الريف كل ذلك جعل إقليم قسنطينة في حالة بائسة وجعلنا نفهم أن قبضة السلطة كانت متداعية، وهذا أيضا يجعل مسؤولية عائلات قسنطينة أعظم وأخطر. ولو تتبعنا الألفاظ التي وردت عند الفكون في وصف حالة الخوف لخرجنا بقاموس هام. ومن ذلك هذه التعابير الموحية أشد الإيحاء وهي: الظلمة (ج ظالم)، الحرابة (الأشرار)، اللصوص، الأعراب (أهل البادية)، غمريان (جماعة - أتباع قاسم بن أم هاني)، العلمة (جماعة - أتباع أحمد بوعكاز) العبابسة (قوم نزل عندهم أحمد الفاسي) وزعيمهم العباسي الغازي، أولاد عيسى وهم جماعة من اللصوص والحرابة، ريغة جماعة متلصصة أيضا وعندما يذكر الفكون خاصة البلد (قسنطينة) يصفهم بأعيانها أو سكانها أو حضرها، أما عندما يذكر أهل القصبة (مقر الباي) فيذكر من هناك هكذا:

السلطة، الظلمة، دار الإمارة، العسكر، إلخ.

وفي كتابه (محدد السنان) ذكر الفكون أحوال أعيان قسنطينة، غاضبا على بعض طبائعهم السلبية في نظره، ويمكن تلخيص مآخذه عليهم فيما يلي

ص: 25

1 -

ما جبلوا عليه من منابذة العلم وأهله. واتكالهم على شرف آبائهم وعلو مرتبتهم وما هم فيه من الرياسة التي شرفوا بها بين إخوانهم.

2 -

ما هم عليه من الحسد والبغضاء وهتك أعراض المسلمين. وفى مكان آخر من كتابه (منشور الهداية) ثار الفكون ضد ما يعتبره النفاق الاجتماعي عند فئة الأعيان وإظهار ما لا يبطنون. ولكن ثورته هذه ثورة رجل علم وأخلاق ودين. فهو يريد منهم أن يكونوا مثالا للإنسان الكامل وأن يتجردوا من الحسد والهوى والاعتماد على الشرف والتفاخر بالمناصب (والرياسة)، وأن يرجعوا إلى حب العلم وأهله، وأن يعملوا بالدين في المعاملة.

وقد أكثر من الإشارة إلى شيوع بعض الأمراض الاجتماعية في نظره كانت شائعة في وقته مثل، الخنا، وشرب الخمر والاختلاف إلى نوادي العربدة والإنشاد، وحضور (الحضرات) الصوفية التي يقع فيها الرقص والشطح واستعمال الأوتار والبندار، كما ثار ثورة قوية ضد تعاطي الحشيشة والتدخين الذي رآه حراما لا مراجعة فيه. وهناك إشارات في كتبه إلى شيوع أمور أخرى يراها مفاسد اجتماعية مثل دخول مدعي الجذب على المحارم، وذهاب النساء إلى أدعياء الصوفية طلبا للولد ونحو ذلك، والرياء والتهافت على المناصب، وادعاء العلم، ومصانعة السلطة وتعاطي الرشوة، واستغلال العامة ماليا وعقليا، إلخ.

ولم يسلم مجتمع قسنطينة من الطواعين والجوائح خلال الفترة التي ندرسها فهذا الفكون يذكر لنا عددا من زيارات الطاعون

ص: 26

للمدينة وموت العديد من أهلها، وفي مقدمتهم بعض العلماء والأعيان. وهو نفسه قد مات بالطاعون سنة 1073. ومن التواريخ البارزة لهذه الطواعين ما حدث سنة 1602، وسنة 1622، وسنة 1634، وسنة 1644 (1054) ثم طاعون سنة 1073 (1680) الذي أشرنا إليه (1) أما الجفاف فأكبره ما حدث عام 1602 والذي دام حوالي تسع سنوات، تلته مجاعة، وجفاف سنة 1647 (1057) والذي تلته مجاعة كبيرة، وقد حصل بعدها كثير من النهب والتعدي وانحلال التوازن الاقتصادي. وهذه الأزمات الاجتماعية - الاقتصادية (بالإضافة إلى الثورات التي أشرنا إليها) كانت تقود أعيان المدينة، ولا سيما العلماء ورجال الدين، إلى تولي المسؤوليات الأخلاقية والروحية والقيام بالواجب الشرعي تفاديا للمزيد من الفوضى وحقنا للدماء وصونا للأعراض. ولعل من هؤلاء عبد الكريم الفكون الذي أصبح في القرن السابع عشر (11 / هـ) ليس مجرد رجل عادي من أعيان قسنطينة ولكنه أصبح زعيما روحيا وقيادة أخلاقية عالية في البلاد يهابها الحاكم ويلتجىء إليها المحكوم.

ومن الجوائح التي تعرضت إليها قسنطينة حلول الجراد سنوات 1023، 1024، 1025، وقد وصف لنا الفكون في كتابه (محدد السنان) هجوم الجراد سنة 1024، فقال (وقعة الجراد الوارد

(1) ذكر الفكون أن بركات المسبح قد توفي بالطاعون سنة 982 / هـ. وأشار إلى وتوع الطاعون سنة 1031 ووفاة عدد من العلماء به. أما طاعون سنة 1073 فقد دام ثلاثة أشهر (من رمضان إلى ذي القعدة). وفي يوم واحد أودى بحياة 500 (خمسمائة) شخص من قسنطينة وحدها.

ص: 27