الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صالح. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) (1) وقد حقق الله للفكون الأملين معا فزال عنه المرض وصلح عقبه إذ تولى ابنه محمد وظائفه بعد وفاته، كما عرفنا.
3 - منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية
يعتبر (منشور الهداية) أفضل ما ألف الفكون، بل أفضل الكتب المؤلفة في العهد العثماني بالجرائر. فهو ليس كتاب تراجم بالمعنى المتعارف عليه لدى كتاب التراجم، وليس تخليدا لملك أو أمير أو باشا كما فعل بعض كتاب ذلك العصر، وليس كتابا في التصوف وأحوال الدراويش والانهزامية التي ألف فيها أيضا بعض مثقفي تلك الفترة. ولكنه كتاب في النقد الاجتماعي والنقد السياسي والنقد الديني، وهو أيضا كتاب عن أحوال الناس وزعمائهم السياسيين والمثقفين والدينيين، وعن علاقات هؤلاء جميعا بعضهم ببعض. إنه وثيقة حية هامة عن حالة ذلك العصر، وهو يصلح أن يكون نموذجا لما كان شائعا في العالم الإسلامي كله عندئذ، لأن ما فيه من وصف الأحوال والعلاقات والأفكار ليس خاصا بالجرائر. وقد تكون الكتب الأخرى التي ألفها الفكون في النحو والصرف والحبس، وحتى كتابه عن تحريم التدخين، وديوانه في المدح النبوي - كلها قد فاتها الوقت وأصبحت تدرس كأعمال مضى عليها الزمن، أما (منشور الهداية) فإنه الكتاب الوحيد الذي سيظل في نظرنا حيا خالدا لعمق أفكار
(1) العياشي، الرحلة 2/ 396.
صاحبه فيه واحتوائه على المعلومات الاجتماعية والإنسانية التي قل من تعرض لها من قبل بتلك الطريقة.
لم يؤرخ الفكون الانتهاء من تأليف (منشور الهداية) ولكن يغلب على الظن أنه قد ألفه بعد سنة 1045 لأنه تحدث فيه عن وفاة والده التي وقعت في تلك السنة. ولا نجده قد ذكر تاريخا آخر بعد هذه السنة. والمعروف أنه تولى هو وظائف أبيه بعد وفاته وزاد عليها إمارة ركب الحج ولقب مشيخة الإسلام. والمعروف أيضا أن ثورة ابن الصخري قد وقعت سنة 1047، وهي الثورة التي لا تجد لها ذكرا في (منشور الهداية) رغم تعرضه لثورات وأحداث أقل منها شأنا. ولذلك فنحن نرجح أن يكون (منشور الهداية، قد ألف بين 1045 و1047 وهل يمكن إذن أن نقول إن تاريخ تأليفه هو سنة 1046؟ ذلك أقرب الاحتمالات في نظرنا.
ولكن الأمر المحير هو أن الفكون ضمن كتابه حديثا عن أشخاص كانوا أحياء زمن التأليف، كما يفهم من صيغة الحديث، مثل حديثه عن أحمد المقري، بينما نعلم من مصادر أخرى أن هؤلاء الأشخاص قد توفوا قبل ذلك التاريخ المحتمل لتأليف الكتاب. فالمقري مثلا توفي سنة 1041، بينما لا يشير الفكون إلى هذه الوفاة، ويبقى حديثه عنه في الكتاب بصيغة الحي. وهناك نماذج أخرى على ذلك، مثل إيراد مراسلاته مع عالمي تونس إبراهيم الغرياني ومحمد تاج العارفين، الواقعة سنة 1037. فيبقى لدينا احتمالان آخران هما: أن الفكون ألف الكتاب فعلا حوالي سنة 1046، ولكنه ضمنه وثائق المراسلات القديمة بتواريخها المتقدمة، أو أنه كان قد بدأ في تأليف الكتاب في تاريخ سابق قد
يكون من 1033 وظل يزيد عليه ويعمل فيه إلى سنة 1046 (1) غير أننا ما نزال نميل إلى الاحتمال الأول، وهو أنه ألف الكتاب سنة 1046 وضم إليه وثائق متقدمة وأخبارا بصيغها القديمة.
ورغم أهمية الكتاب في نظرنا فليس له نسخ كثيرة. وبعد البحث والجهد توصلنا إلى وجود نسختين مصورتين منه دون أن نعرف أو نطلع على الأصل. النسخة المصورة الأولى رأيناها في المكتبة الوطنية - بالجنائز، وكان قد قدمها لها الشيخ المهدي البوعبدلي. والنسخة المصورة الثانية هي نسخة الشيخ عبد المجيد بن حبة، التي تفضل بإرسالها إلي للاطلاع عليها بواسطة الأستاذ أحمد بن السائح. وأثناء المقارنة بين نسخة المكتبة الوطنية ونسخة الشيخ البوعبدلي، ونسخة الشيخ ابن حبة وجدتهما متماثلتين وترجعان إلى أصل واحد. وقد أخبرني الأستاذ ابن السائح بأن الشيخ ابن حبة يعتقد أن نسخته ونسخة الشيخ البوعبدلي مصورتان عن النسخة الأصلية التي يملكها الشيخ فيصل العابد بباتنة. وقد استفدت من مقابلة النسختين المذكورتين، فقد كانت نسخة الشيخ البوعبدلي ناقصة صفحة العنوان وبعض الصفحات الداخلية التي أكملها الشيخ بخط يده، أما نسخة الشيخ ابن حبة فهي كاملة التصوير، ولذلك أكملت منها الناقص في النسخة الأولى. وأعدتها إلى صاحبها شاكرا. أما
(1) من الأدلة أيضا على أن الفكون ألف كتابه قبل سنة 1048 أنه تحدث عنه في كتابه (فتح اللطيف) بصيغة الماضي قائلا: (وقد ذكرنا في تأليفنا منشور الهداية ..) كذا وكذا ونحن نعرف أن (فتح اللطيف، قد ألفه سنة. انظر آخر هذه الدراسة.
النقص المشترك مثل بعض البياض وسوء كتابة بعض الكلمات الخ، فقد بقي كما هو.
إذن هناك أصل (لمنشور الهداية) عند السيد فيصل العابد. ولكن هل هو نسخة المؤلف الأصلية أو نسخة عنها؟ ذلك ما لا تعرفه الآن. غير أننا نعتقد أن للكتاب أكثر من نسخة لأنه يهم كثيرا من العائلات وكثيرا من الناس. وقد علمنا أن الشيخ أبا القاسم الحفناوي صاحب (تعريف الخلف) قد أخذ منه أوائل هذا القرن تراجم وأخبار بعض الأشخاص (1) فمن أي نسخة كان ينقل الحفناوي؟ وأين هي الآن؟ ومن جهة أخرى اطلع السيد فايسات على مقتطفات من (منشور الهداية) في القرن الماضي وضمنها كتابه عن تاريخ قسنطينة، وساه هناك نوعا من المذكرات عن رجال وحوادث العصر، وتأسف على أنه لم يتمكن من الاطلاع على الكتاب كله رغم محاولاته المضنية والتي دامت، كما قال، سنتين، مع الذين (يملكون) الكتاب (2) ونعتقد أن السيد ميرسييه فد يكون اطلع على (منشور الهداية) أيضا واستفاد منه في كتابه عن تاريخ قسنطينة. وعندما سألنا الشيخ البوعبدلي عن مصدر النسخة التي كان الحفناوي قد نقل عنها، أخبرنا أن كل ما يعرفه عن الموضوع هو أن الحفناوي تلقى من الشيخ حمدان الونيسي القسنطيني بعض التراجم من (منشور
(1) الحفناوي (تعريف الخلف)، 83/ 2، 108، 232، 427.
(2)
فايسات (روكاي)، 1868، ص 263. وقد أخذ فايسات أيضا من مقدمة (منشور الهداية)، كما جاء في صفحة 389.
الهداية) فضمنها كتابه (تعريف الخلف) دون أن يكون قد اطلع على الكتاب نفسه (1) والواقع أننا غير يائسين من وجود نسخة أخرى، على الأقل منه، لنستفيد منها في التحقيق الذي عزمنا على القيام به إن شاء الله.
عندما اطلعت على (منشور الهداية) أول مرة منذ أكثر من عشر سنوات، اندهشت لأهميته وسجلت في مذكراتي عنه على الفور ما يلي (مخطوط ترجم فيه (الفكون) لشيوخه من العلماء الصالحين ومن عاصرهم ممن ادعى الولاية والعلم واتصل بالأمراء ورام الدنيا. وترجم كذلك فيه لبعض تلاميذه وأصحابه. وفيه تراجم لوالده وجده وأحمد المقري وبعض عائلات قسنطينة، مثل المسبح والموهوب وابن باديس والحركاتي، وابن نعمون، وابن ثلجون، وغيرهم. وهو في الواقع (كتاب) عن تراجم علماء قسنطينة في القرنين العاشر والحادي عشر، مع ذكر بعض وفياتهم، والكتاب يحتوي على 294 صفحة، والغالب أنه بخط المؤلف وخطه جيد. وفيه استطرادات وأخبار هامة عن الكتب والسياسة والأحوال الاجتماعية والعلمية). والواقع أنني ما أزال على نفس الرأي اليوم. فالكتاب، كما أشرنا في البداية، وثيقة لا غنى عنها لدارس الحياة السياسية والاجتماعية والدينية في القرنين العاشر والحادي عشر (16، 17 م) بل إن أهميته تمتد إلى وقتنا الحاضر لأن معظم العائلات والأفكار والاتجاهات والزوايا التي ذكرها ما تزال موجودة بيننا.
(1) مراسلة الشيخ البوعبدلي بتاريخ.
أحصينا ما فيه من تراجم فوجدناها حوالي ثمانين ترجمة. ولكننا نبادر إلى القول إن الفكون لا يترجم للأشخاص بالطريقة المعتادة من ذكر الميلاد والوفاة والشيوخ والوظائف والتلاميذ والتآليف والكرامات والمناقب ونحو ذلك. إنه لا يتبع هذه الطريقة على الإطلاق، بل إنه يتناول أحوال الأشخاص فيصفهم فيما كانوا عليه، في نظره، من الصلاح أو الطلاح، ويتحدث عن نشاطهم الاجتماعي وعلاقاتهم مع بعضهم ومع السلطة ومع الناس، ويخبر عن عقائدهم وأطماعهم وتنافسهم في الخير والشر، وعن قوتهم وضعفهم أمام المغريات السياسية والمالية والشيطانية، وعن نشاطهم العلمي إذا كانوا من العلماء وعن نشاطهم الصوفي إذا كانوا من المتصوفة، وعن مغامراتهم إذا كانوا من المغامرين، وهكذا. فالفكون إذن لا يترجم لأهل القرنين السابقين ولكنه يسجل عنهم انطباعاته وانطباعات من عرفوهم إذا كان لم يرهم، وكثيرا ما يترك مكان الوفيات بياضا، أما تواريخ الميلاد فقليلا ما تذكر، لأن ذلك لم يكن هدفه أصلا.
وقد اختلفت هذه الانطباعات طولا وقصرا وعمقا. فبعض أحاديثه تطول وتتعمق حتى تصل عدة صفحات، وبعض أحاديثه تكون من القصر بحيث لا تتجاوز السطور. ولكنه مع ذلك يضع فيها من المعاني ما يكفي لمجلد ، وقد يستطرد فيدمج الحديث عن شخص ما أثناء الحديث عن شخصية رئيسية أخرى. وقد يذكر مجموعة من الأخبار في الخبر الأساسي. وقد يصرح حتى كأنه يرمي هدفه بسهامه النارية، وقد يكتفي بالتلميح حتى كأنه يقول لنا عليكم بإكمال الباقي وفهم الواقع وربط الحالات
ببعضها. وهو في أحاديثه هذه لا ينطلق من مصلحة ذاتية إلا قليلا. ولكنه ينطلق من المصلحة العامة، كالغيرة على الدين والأخلاق والعقل البشري. وهو يبكي هبوط أحوال المسلمين وانتشار الشعوذة بينهم وفساد الدين على أيدي زعمائهم وشيوع الرشوة لدى أرباب السلطة والقضاة والعلماء والدراويش، وقلة الأمن في المدينة وفي الريف. وهو يتحسر أثناء تراجمه كلها تقريبا على فساد الخاصة ورقاد العامة، وهو الموضوع الرئيسي الذي يكاد يتكرر في كل صفحة من صفحات الكتاب. ونحن وإن كنا سنورد نص مقدمة هذا الكتاب في قسم النصوص، فإننا نسوق عبارته هنا في الباعث على تأليفه، فليتأمل القارىء معنا هذا النص وليتذكر أن روح النص موجودة في كل ثنايا الكتاب كما أشرنا:
(أما بعد، فلما رأيت الزمان بأهله تعثر، وسفائن النجات (كذا) من أمواج البدع تتكسر، وسحائب الجهل قد أظلت، وأسواق العلم قد كسدت، فصار الجاهل رئيسا، والعالم في منزلة يدعي من أجلها خسيسا، وصاحب أهل الطريقة قد أصبح وأعلام الزندقة على رأسه لائحة، وروائح السلب والطرد من المولى عليه فائحة، إلا أنهم، أعني الطائفتين، تمسكوا من دنياهم بمناصب شرعية، وحالات كانت قدما للسادة الصوفية، فموهوا على العامة بأسماء ذهبت مسمياتها، وأوصاف تلاشت أهلها منذ زمان وأعصارها، لبسوا بانتحالهم لها على أهل العصر إنهم من أهلها. كل ذلك والقلب مني يتقطع غيرة على حزب الله العلماء أن ينسب جماعة الجهلة المعاندين الضالين المضلين لهم
أو يذكروا في معرضهم، وغيرة على جناب السادة الأولياء الصوفية أن تكون أراذل العامة وأنذال الحمقى المغرورين أن يتسموا بأسمائهم أو يظن هم اللحوق بآثارهم. ولم آل في التنفير من كلتا الطائفتين والتحذير منهم في كل زمان وأوان، وبين كل صالح من الإخوان، إلى أن أحسست لسان القول قد أنطق بنسبة ما لا يليق ذكره من أفواههم، فشرح الله صدري في أن اعتكف على تقييد يبدي عوارهم ونفضح أسرارهم، ونكون وسيله إلى الله في الدنيا والأخرى. فهذا الجهاد الذي من أحد من السيف في نحور أعداء الله، وناهيك بهم أعداء. فعظم الباعث على النصح بهذا التقييد ..) (1).
إن الفكون يتحدمث دائما عن حزبين متميزين متصارعين في عصره، وهما من يسميهما: حزب الله وحزب الشيطان. وأحيانا يسمى ذلك طائفة الخير وطائفة الشر. وطائفة الشر هذه ذات شقين: شق يضم أدعياء العلماء الذين (سطرت أناملهم في قراطيس السجلات ما يوهم من لم يرهم ممن يأتي في غابر الزمن إنهم من حزب العلماء ومن مشايخهم الأعلين)، وشق يضم (الطائفة البدعية) التي أصبحت (مقطعا للحقوق، وقسما يقسم بهم في البر والعقوق. وأعلنوا بأن سابق الأقدار منوطة بإرادتهم. واتخذت أتباعهم ألقابا لهم باسم الشيخوخة والتحذير من أن يغاضوا أو يغتاضوا هل رأيت إذن أن الفكون كان يحمل علم الجهاد في ليل مظلم من الجهل والبدعة
(1) من مقدمة (منشور الهداية).
والفساد الأخلاقي والسياسي؟ وهل رأيت أن دافعه لتأليف كتابه كان الغيرة على حزب الله من العلماء العاملين والصلحاء السلفيين؟ وهل رأيت أنه حمل رايته ضد أولئك الزنادقة أعداء الله وحزب الشيطان الذين انحرفوا عن الدين باتخاذ الألقاب الرئاسية والكهنوت الصوفي وربطوا مصالحهم بمصالح الحكام الفاسدين؟ وأين دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من هذه الثورة التي أعلنها عبد الكريم الفكون قبله بأكثر من قرن؟ اقرأ معي إن شئت قول الفكون عن المبتدعة في زمانه: (وربما زاد في إفصاح أحوالهم. إن من مات منهم بنوا عليه وشيدوا بناءات، وجعلوا عليهم قبابا من العود وألواحا منقوشة بأسمائهم وما اختاروا لهم من الألقاب التي لا تصلح لهم).
إن هذا الكلام، بل هذه الجملة، لم تعجب، بدون شك، علماء ولا متصوفة عصر الفكون، وبالطبع لم تعجب أيضا علماء ولا متصوفة ما بعد عصره لأن الأمور قد زادت سوءا بعده كما هو معروف. فالجهل عم وانتشر، وغطى السهل والوعر، والدروشة (وحاشا التصوف) والتدجيل فاض بحرهما وطما زبدهما. ولأمر ما أهمل العياشي ذكر (منشور الهداية) حين عدد كتب الفكون، بينما أطال في النقل من ديوانه في المديح النبوي كما عرفنا، ووصف كتابه في شرح أرجوزة المكودي في التصريف، بل ولخص في عدة صفحات من رحلته كتاب الفكون عن تحريم التدخين. أما الثعالبي فقد اكتفى بقوله وله تأليف في حوادث فقراء الوقت والرد عليهم. وما هو، كما رأيت، في (فقراء) الوقت الذين يعني بهم الثعالبي المتصوفة. فالكتاب كما نعلم لا يتحدث
إلا جزئيا عن هؤلاء الفقراء أو المتصوفة، ولكون دقيقين، لا يتحدث إلا عن صنف منهم. ويبدو أن الشيخين: العياشي والثعالبي، لم يطلعا أبدا على كتاب (منشور الهداية) وإنما سمعا عنه من فقراء الوقت أنفسهم، ومن غيرهم، أولئك الذين صدمهم الفكون بكتابه وكشف عوارهم وفضح أسرارهم، كما قال، فتألبوا عليه وأسروا له البغضاء ورموه بألسنة حداد (1).
ومهما كان الأمر فإن الفكون قد رتب كتابه على هذا النحو: مقدمة ذكر فيها الدافع الذي دفعه لتأليفه كما سبقت الإشارة. ثم ثلاثة فصول وخاتمة. أما الفصل الأول فجعل عنوانه (في من لقيناه من العلماء والصلحاء المقتدى بهم ومن قبل زمنهم ممن نقلت إلينا أحوالهم وصفاتهم تواترا، أردنا التنبيه عليهم وذكر ما كانوا عليه وزمانهم وتواريخ وفاتهم). وهذا الفصل، رغم طول عنوانه، قصير نسبيا. وقد ذكر فيه بعض أفراد عائلته أمثال يحيى الفكون وقاسم الفكون وجده عبد الكريم الفكون ووالده محمد الفكون وجده لأمه محمد بن قاسم الشريف. كما ذكر فيه عمر الوزان، ويحيى الأوراسي، ومحمد العطار، وأحمد الغربي، ومحمد الكماد، وعلي بن يحيى الياوراري، وأحمد بن تكفه، ومحمد بن حسن، وعبد اللطيف المسبح، وأحمد (حميدة)
(1) يذكر الفكون في كتابه (فتح اللطيف) إن كتابه (منشور الهداية) قد جلب عليه النقمة والبغض (رمقتني من أجله العيون، وانعقد على بغضي القلوب وأكثرت الشؤون)، ولكنه اعتصم بحبل الله واعتبر عمله جهادا يجازى عليه في الآخرة. ونعتقد أن عدم ترويج الكتاب واستنساخه هو جزء من حملة الغضب والبغض التي أشار إليها.
المسبح، وبركات المسبح، وعلي المرواني، وعلي الغربي، وأبو القاسم العطار، وأحمد بن باديس، وبركات بن سعيد، وشيخاه محمد التواتي وسليمان القشي النقاوسي، وعبد العزيز النفاتي، ومحمد الفاسي. ولم يذكر تواريخ الوفاة، كما قال، إلا لعدد قليل منهم. أما البقية فأماكن التواريخ لوفاتهم ظلت بيضاء في النسخة التي بين أيدينا. وكان المفروض أن يذكر تواريخ الوفاة لأن هؤلاء متقدمون عليه أو توفوا أثناء حياته. أما الذين سيتحدث عنهم في الفصلين الباقيين والخاتمة فكانوا معاصرين له ومعظمهم كانوا أحياء عند تأليف الكتاب.
أما الفصل الثاني فقد جعل عنوانه: (في المتشبهين بالعلماء، وهم الذين قصدنا بهذا التقييد إيضاح أحوالهم). ومن أجل ذلك كان هذا الفصل أطول من سابقه لأن الفكون أخذ يعالج ما قصده في الكتاب. وقد تحدث فيه عن مجموعة من الناس لا يتسع الأمر الآن لذكر أسمائهم جميعا. ونود أن نوضح ما جاء في صفحة 35 من المخطوط حين بداية الحديث عنهم ما أضافه الفكون نفسه من بيان لما سبق وهو قوله (فيمن تعاطى المنصب الشرعي لادعائه العلم، وهم كل من ادعى ما لا يصح له من خطة وتدريس وغيرهما). وهو يقصد بالمنصب وبالخطة الوظائف الرسمية كالقضاء والفتوى. وقد افتتح هذا الفصل بالحديث عن يحيى بن محجوبة الذي كان متوليا رئاسة الفتوى، وهو الذي أخبر عنه أنه كان كبير السن ومن معاصري جده، وأنه فصل في خلاف مع والده (والد الفكون) حول مسألة حبس في مجلس بالجامع الكبير، مما أزعج الوالد حتى أنه طلب من ابنه
(المؤلف) أن يخرج هو للرد على ابن محجوبة، كما سبق. وعد من هذا الفصل أيضا جده لأمه، محمد بن قاسم الشريف، الذي كان متوليا وظيفة مزوار الشرفاء. وقد تصدر أيضا للفتوى. ويحيى بن باديس، وأحمد الجزيري، وأحمد الغربي، ومحمد السوسي المغربي، ومحمد بن نعمون، وعبد اللطيف بن سعيد، وغيرهم.
ويأتي بعد ذلك الفصل الثالث الذي جعل عنوانه (في المبتدعة الدجاجلة الكذابين على طريق الصوفية المرضية) ومما يذكر أن الفكون أضاف على صفحة 110 من المخطوط حيث عنوان الفصل الثالث، هذا العنوان الإضافي (فيمن ادعى الولاية من الدجاجلة). وهو نفس المعنى ولكنه فيه بعض التصرف. وقد ابتدأ بأحدهم وهو قاسم بن أم هانىء، وأخبر أنه افتتح به الفصل (لعظم مفسدته بين الخلق وشهرة بدعته وقوتها) وبالطبع أطال فيه الحديث أيضا وذكر منهم أيضا أحمد بوعكاز، ومحمد الحاج الصحراوي والشيخ طراد، وسيدي الجليس، وعبد الملك السناني، وعلي العابد الشابي، إلخ. ومن الغريب أن الفكون وضع الشيخ محمد ساسي البوني ضمن هؤلاء الدجاجلة، لترحيبه بالشيخ المغربي علي خنجل واتخاذه الحضرة وجعله مستحما سماه (حمام أهل الصفا) إلخ. وقد أطال في الحديث عنه وعن أمره الخرافي.
وأخيرا تم الخاتمة التي قال إنه اختار لها عنوانا هو (في إخوان العصر وما هم عليه)، ولكنه في صفحة 234 من المخطوط يغير العنوان قليلا فيصبح (في ذكر من أردنا ذكره من الأصحاب والأحباب). ويقصد بهؤلاء من كان معاصرا له أو ندا،
وله معه مراسلات واتصالات شخصية. ولكن هؤلاء لم يسلموا من نقده اللاذع أيضا، وقد جمع في هؤلاء الأصحاب بعض المنتمين للعلماء والمنتمين للمتصوفة أيضا. فنجد الشيخ بلغيث الذي تحول في تونس من العلم إلى التصوف. ونجد الموهوب بن محمد الزواوي، ومحمد وارث الهاروني المتيجي، وعلي بن عثمان الشريف الزواوي، وأحمد بن الحاجة الميلى، ومحمد بن باديس، ومحمد بن ناجي، وأحمد المقري الذي أطال في الحديث عنه ونقده. ثم عددا من التونسيين (مثل إبراهيم الغرياني، وتاج العارفين)، والمولى علي العثماني، وغيرهم.
ولنلاحظ أن أكثر من عدهم أصحابا وأحبابا كانوا من خارج فسنطينة.
ولكن تبقى أهمية كتاب (منشور الهداية) في أنه ليس كتاب تراجم بالمعنى التقليدي ففيه لمسات إنسانية وأخبار طريفة وآراء شخصية أيضا. كما أن فيه نماذج من حياة وأخبار العلماء خارج قسنطينة سواء كانوا من القطر الجزائري أو من البلدان الإسلامية الأخرى المجاورة والبعيدة. وفيه أوصاف لأحداث وقعت بين العلماء والحكام سواء في قسنطينة أو في الجزائر، ووصف لبعض الثورات، وقضايا الأمن العام في الريف، ودور الزوايا، وتقاليد تلقى العلم، وأخبار الكتب. وما يلاحظ عليه أن الفكون لم يشر، ولو لحادثة واحدة فيما نعلم، عن وجود الأجانب أو النصارى في قسنطينة أو غيرها من أنحاء الجزائر.
وبعد، فليس أفضل عند الانتهاء من هذه الدراسة لكتاب (منشور الهداية) من قول مؤلفه فيه عندما تحدث عن قول المكودي:
هذا مع الجهل وشغل البال
…
والاضطرار واضطراب الحال
إذ علق الفكون على ذلك بقوله: «وإذا كان هذا في زمنه (زمن المكودي) ومنار العلم منصوب، وعن آراء الجاهلين برشق نبال البراهين محجوب، فكيف بزماننا الذي فاض فيه عباب الجهل والدعوى، وطلعت كواكب البدع والأهوى (كذا)، فلا ترى إلا مدعيا في العلم أعلى منصته، ومرتقيا في شامخ التربية أرفع فتته، جعلوا الطريقتين (العلم والتصوف) شباكا لتحصيل الدنيا منصوبة، وحبالات لجمعها بأوتاد حبها مضروبة، وما نظروا إلى عاقبة الأمر وعقابه، والوقوف بين يدي العالم بالخفيات ودقة حسابه، وأسأل الله العافية، وصلاح حال الأمة.
(وقد ذكرنا في تأليفنا (منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية) من حال الصنفين، ودعوى الفريقين، ما يكتحل بأثمده أهل الكمال، ويروى من عذب فراته أهل الفضل والإفضال، والبر بتأليفه أردت، وإرشاد الأمة ونصحها قصدت. وهو، وإن رمقتني من أجله العيون، وانعقدت على بغضي القلوب وأكثرت الشؤون، فذلك، ولله الحمد، مما يسرني في الحال والمآل، ويقوي رجائي أن يكون في عدة في عظيم الأهوال، لوعد رب العالمين، {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} .» (1)
فالرجل أراد بكتابه إصلاح حال الأمة الإسلامية وحالة مجتمعه الذي طغت عليه الضلالات. وهو يعتبر ذلك جهادا في سبيل
(1) أورد الفكون هذه السطور في كتابه (فتح اللطيف) الذي سنتحدث عنه.