الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمات
تقديم
…
تقديم:
بقلم: الدكتور حلمي خليل
أستاذ العلوم اللغوية
كلية الآداب، جامعة الإسكندرية
اللغة من أعرق مظاهر الحضارة الإنسانية، بل هي أصل الحضارة وصانعة الرقي والتقدم، فهي التي تؤلف الحد الفاصل بين شعب وشعب وبين أمة وأمة، بل بين حضارة وحضارة؛ لأن الأفراد الذين يتكلمون لغة واحدة، لا يتفاهمون بيسر وسهولة فحسب، وإنما هم قادرون على أن يؤلفوا مجتمعا إنسانيا موحدا متجانسا؛ لأن اللغة هي قوام الحياة الروحية والفكرية والمادية، بها يعمق الإنسان صلته وأصالته في المجتمع الذي يولد فيه، حيث تخلق اللغة من أفراده أمه متماسكة الأصول موحدة الفروع.
وقد حاول علماء اللغة وغيرهم من العلماء والفلاسفة والمفكرين -على مر العصور- أن يسبروا غور هذه الظاهرة الفريدة العريقة في حياة البشر للكشف عن حقيقتها وكنهها. وكان أستاذنا المرحوم الدكتور محمود السعران واحدا من هؤلاء العلماء الذي أوقفوا حياتهم على دراسة اللغة ونشر المعرفة العلمية الموضوعية المنظمة حولها.
ولم يدر بخلدي وأنا أخطو خطواتي الأولى نحو الدراسات العليا "1962" وأقرأ عليه -على طريقة السلف- كتابه "علم اللغة، مقدمة للقارئ العربي" أن الزمن سيدور دورته ويلقي على عاتقي مهمة تقديم الطبعة الثانية من هذا السفر الجليل بعد وفاة صاحبه بثلاثين عاما، وهو مطلب عزيز أشفقت على نفسي منه ولكني لم أستطع له ردًّا؛ اعترافا بفضله عليَّ وإحياء لذكرى رائد من رواد علم اللغة في مصر والعالم العربي.
وعلى الرغم من مضي هذه السنوات الطوال على ظهور الطبعة الأولى من الكتاب، طرأ خلالها تطور هائل في حقل الدراسات اللغوية، إلا أنني ما زلت
أوصى تلاميذي بقراءة هذا الكتاب ليس وفاء لأستاذي فحسب، وإنما بكل الحيدة والموضوعية؛ لأن ما زلت أرى أن هذا الكتاب لم يزل محتفظا بقيمته العلمية حتى اليوم؛ لأنه يبسط أفكارا وأصولا في ميدان علم اللغة لا يستغني أي دارس لهذا العلم في معرفتها قبل أن يخوض في مدارسه ونظرياته التي تشعبت وتطورت تطورا هائلا منذ وفاة الدكتور السعران حتى الآن.
ومنذ الوهلة الأولى التي تقع فيها العين على عنوان الكتاب: "علم اللغة، مقدمة للقارئ العربي "ط. أولى 1962" نشعر مباشرة أننا أمام علم لم يكن -آنذاك- مألوفا -وأظنه ما زال- للقارئ العربي، وإن كانت المعرفة به ودارسته قد أحرزت قدرا غير قليل من التقدم في المعاهد والجامعات العربية ومن ثم يسعى الدكتور السعران -يرحمه الله- إلى تقديم أصول هذا العلم ومبادئه بصورة واضحة وبسيطة لا تخل بالموضوع وعلميته، ولذلك حرص منذ بداية الكتاب على وضع هذه الأصول في إطارها التاريخي جنبا إلى جنب مع طرق التحليل اللغوي التي استقر عليها الفكر اللغوي آنذاك. يقول في مقدمة الكتاب:
"وأنا لم ألتزم في جملة ما عرضت مذهبا بعينه في كل أصوله وفروعه من مذاهب الدرس اللغوي المتعددة، بل ركنت إلى التعريف بالأصول العامة التي ارتضيتها والتي قل أن يختلف فيها أصحاب هذا العلم، مع بيان مصادرها ومذاهب أصحابها في معظم الأحوال، مع الإشارة في الوقت نفسه إلى الآراء المخالفة الصادرة عن مذاهب أخرى، حتى يكون القارئ على بينة من المذاهب اللغوية المختلفة، وعلى دراية بالفلسفات التي قامت عليها، وعلى علم بأهم المؤلفات فيها، فلا يضل الطريق في زحمتها عندما يتاح له الاتصال بشيء منها"1
وبالرغم من هذه الحيدة، إلا أننا نلمح بجانب الالتزام بالإطار التاريخي، التزاما آخر يتمثل في "نظرية فيرث"2 التي كان يستهدي بها في تقديم ترجيحاته
1 علم اللغة مقدمة للقارئ العربي ط. أولى 1962 ص3.
2 فيرث J R Firith أستاذ علم اللغة في جامعة لندن في الفترة من عام 1944 حتى عام 1956م، وهو صاحب نظرية سياق الحال Context of situation ومؤسس المدرسة الإنجليزية الاجتماعية في علم اللغة، وقد تتلمذ عليه الدكتور السعران، وكان من أنبغ وأحب تلاميذه إليه، وتحت إشراف "فيرث" حصل على درجة الدكتوراه من جامعة لندن عام 1951م ببحث عنوانه "دراسة نقدية للملاحظات الصوتية للنحاة العرب".
Acritical study of the Phonetic obsevation of the Arab Gvammmarians وهو من آثار الدكتور السعران التي لم تنشر بعد، وتوجد منها نسخة على الآلة الكاتبة بمكتبة كلية الآداب جامعة الإسكندرية.
ومقارناته بين المدارس اللغوية، وخاصة عندما يتصل الأمر بدراسة المعنى كما سنرى فيما بعد.
ولعل من أهم الأصول التي طرحها الدكتور السعران في كتابه، فكرة "العلمية" Scientificness، فالفضل يرجع إليه في شيوعها وتوضيحها؛ إذ علم اللغة عنده، موضوع محدد يدرس اللغة دراسة علمية موضوعية، أي يدرسها بغرض الدراسة ذاتها التي تسعى إلى الكشف عن حقيقتها، دون التطرق في هذه الدراسة إلى أهداف أخرى، تعليمية أو تربوية أو علمية، كما لا يدرس اللغة بهدف ترقيتها أو تصحيح جوانب منها أو تعديل أخرى، ومن ثم فإن علم اللغة مقصور عنده على وصف اللغة وتحليلها بطريقة علمية موضوعية.
وتأتي أهمية هذه الفكرة مع التسليم بها الآن، من جدتها -آنذاك- بالنسبة للفكر اللغوي العربي، فلم تكن الدارسة اللغوية عند العرب، حتى ظهور هذا الكتاب، على هذا النحو من الضبط والموضوعية والتحديد، وكانت فكرة العلمية في دراسة اللغة فكرة غائمة قد تقال ولكن لا تفهم على النحو الذي شرحه وفصله في الكتاب.
وتحليل اللغة عنده يبدأ من البنية، غير أن اللغة -كما نعلم- ليست مجرد بنية، وإنما هي بنية ذات صلة بظواهر أخرى لغوية وغير لغوية، ولذلك نراه يتوقف أمام علاقة اللغة بهذه الظواهر، مثل علاقة اللغة بالكلام ووظيفته، ويعتمد في تحديد هذه الوظيفة على مفهوم اللغة من حيث هي نظام من الرموز والإشارات الاصطلاحية، ومن يتوقف أمام مفهوم "دي سوسير" للرمز اللغوي وماهيته، لينتهي إلى أن اللغة تشترك مع طائفة أخرى من النظم السمعية والبصرية في الطبيعة الرمزية.
ولما كانت اللغة أيضا ذات صلة بالظواهر الاجتماعية، أو قل هي ظاهرة اجتماعية معقدة1، يرى الدكتور السعران أن دراستها تحتاج إلى الاستعانة بعلوم أخرى، مثل علم الاجتماع وعلم وظائف الأعضاء، بل بالتاريخ والجغرافيا
1 حول مفهوم الدكتور السعران حول اجتماعية اللغة. انظر: كتابه القيم، اللغة والمجتمع، رأي ومنهج، الطبعة الثانية، دار المعارف الإسكندرية 1963م.
وعلم النفس1. ولكن هذه العلوم لا تنفي صفة الموضوعية أو العلمية عن الدراسة اللغوية، وليست فرضا لميادين أخرى عليها، وإنما هي تنبع من كون اللغة معقدة. غير أنه يستبعد من الدراسة العلمية للغة ما يسميه بالفلسفة اللغوية التي تقوم على أسس منطقية وعقلية، ومع ذلك فهو لا يستبعد النظرة الفلسفية، ويقصد بها مجموعة المبادئ أو الأصول التي يقوم عليها علم اللغة، ويشترط في ذلك أن تكون هذه الفلسفة مستمدة من اللغة وطبيعتها وإلا فقد علم اللغة استقلاله وموضوعيته، أي لا بد أن تقوم هذه الفلسفة على أسس من فهم ماهية اللغة، فيم تستعمل؟، وكيف تستعمل؟، أي أن هذه الفلسفة ينبغي أن تستقي عناصرها من طبيعة الأدوار التي تقوم بها في الحياة الإنسانية. وتتصل بهذه الفلسفة أيضا عمليات التجريد والتعميم التي يضطر علم اللغة للقيام بها على مستويات التحليل المختلفة، حتى يسلم وصفه وتحليله، وتصح نتائجه، ومن ثم فإن من فلسفة هذا العلم التمييز بدقة بين الدراسة التاريخية للغة والدراسة الوصفية الآنية لها.
وبعد إرساء هذه الأصول حول مفهوم علم اللغة وموضوعه وفلسفته ينتقل إلى التحليل البنيوي للغة، ويعد الدكتور السعران من أوائل علماء اللغة العرب في العصر الحديث الذين استعملوا مصطلح البنية Structuralism وتحليل البنية عنده يبدأ من المستوى الصوتي Phonetics ولكنه يمهد لذلك بلمحة تاريخية عن تطور الدراسات الصوتية عند الهنود واليونان والرومان والعرب حتى يصل إلى التطور الذي أحرزته هذه الدراسات في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
ويعرف علم الأصوات بأنه الدراسة العلمية للحدث الكلامي Speech event دون الإشارة إلى معناه، وتقتضي هذه الدراسة العلمية تفتيت الحدث الكلامي وتحليله إلى عناصره المكونة له، وهي عملية تطهر صعوبتها في دراسة أصوات لغة لا نعرفها، ولما كان الصوت اللغوي يصدر عن جهاز النطق الإنساني فهو ذو طبيعة خاصة تجعله يختلف عن أي أصوات أخرى، وبناء على ذلك فإن دراسة الأصوات اللغوية أو الحدث الكلامي تمر بمراحل أساسية هي:
1 أصبحت بعض هذه العلوم الآن بما لها من صلة بعلم اللغة فروعا مستقلة من علم اللغة التطبيقي مثل علم اللغة الاجتماعي Sociolinguistics وعلم اللغة الجغرافي Geolinnguistics وعلم اللغة النفسي Psychoinguistics.
1-
جهاز النطق وحركاته التي ينتج عنها الصوت اللغوي، وهو ما يختص به علم الأصوات الفسيولوجي Physiological Phonetics
2-
دراسة انتقال الصوت أو علم الأصوات الأكوستيكي acoustic phonrtics.
3-
دراسة استقبال أذن السامع للصوت اللغوي، ويختص به علم الأصوات السمعي Auditory Phonetics ومن الوسائل الأخرى التي يلجأ إليها علم الأصوات ما يعرف بالدراسة الصوتية التجريبية أو الآلية Experimental Phonetics والكتابة الصوتية Phonetic transeciption وهما من الوسائل الفعالة في التعبير عن الحقائق الصوتية بدقة علمية.
بهذه الفروع لعلم الأصوات يحدد الدكتور السعران الإطار العام لتحليل الحدث الكلامي، ولكنه يرى أن علماء الأصوات وجهوا عنايتهم لدارسة الفرع الأول وبذلوا جهودا طيبة في دراسة الفرع الثاني، أما الفرع الثالث فما زال ينتظر مزيدا من البحث والدراسة. وقد شهدت العقود التالية من هذا القرن ما تنبأ به في صورة تطور هائل في دراسة هذا الفرع استخدمت فيه أجهزة وآلات معقدة وأسفر عن نتائج هامة مثل عمليات تخليق الكلام Speech synthesis وتحويل الكلام المنطوق إلى مكتوب وغير ذلك. ثم ينتقل بعد ذلك إلى تصنيف أصوات اللغة العربية حسب طريقة النطق وموضوعه من جهاز النطق وتقسيمها إلى مجهورة ومهموسة، وهو تصنيف قد يلتقي في بعض جوانبه مع الدراسة الصوتية التقليدية إلا أنه يختلف في كثير من الحقائق التي لم يفطن إليها القدماء وبعض المحدثين.
وإذا كانت الدراسة على هذا النحو تعد دراسة للصوت اللغوي معزولا، أي بعيدا عن غيره من الأصوات داخل البينة، فإن الدراسة الفنولوجية تدخل عنده في صلب الدراسة البنيوية لأصوات لغة ما، حيث تتنوع الأصوات وتختلف عقب دخولها في علاقات بنيوية داخل هذه اللغة، ومن ثم يجد عالم اللغة نفسه أمام تنوعات عدة لوحدة صوتية معينة. ومع ذلك فإن هذه التنوعات لا تؤدي إلى اختلاف المعنى، بل يمكن ردها إلى أصوات محددة عن طريق تحليل السلسلة
الكلامية إلى وحدات متمايزة بما لها من صلة بالمعنى، وكان هذا ما اصطلح على تسميته في علم اللغة "بنظرية الفونيم" وما يتصل بها من مفاهيم وتحليل، حيث يقوم التحليل فيها على تحديد القيم الخلافية والتقابلية في أصوات لغة من اللغات، ودراسة النظام الفنولوجي للغة وخصائصه تدخل عنده في صميم العلاقات البنيوية، ومن ثم فإن الفنولوجيا أو علم الأصوات اللغوية الوظيفي -كما ترجم المصطلح- هو المنوط به تحليل ودراسة هذه العلاقات البنيوية على المستوى الصوتي، ويرى أن الفصل بين علم الأصوات Phonetics وعلم الفنولوجي pho-nolngy لا يؤدي بالضرورة إلى اعتبار كل واحد منهما علما مستقلا، ويذهب إلى أن دراسة الظواهر الصوتية والفسيولوجية الخاصة بالكلام الإنساني ينبغي أن تسير موازية للدراسة الفنولوجية، وأن الفصل بين العلمين هو لون من العبث؛ إذ إن كلا منهما يعتمد على الآخر، وهي نظرة انفرد بها الدكتور السعران، وهي عكس ما نادت به "مدرسة براج" من الفصل بين علم الأصوات من حيث هو علم طبيعي وعلم الفنولوجيا من حيث هو علم لغوي.
ومن التحليل الفنولوجي ينتقل إلى التحليل النحوي، ويرى أن ذلك يتم من خلال موضوعين منفصلين ومتصلين في آن واحد، وهما:
1-
المورفولوجيا Morphology.
2-
النظم Syntax.
وهذا التناول عنده يتم بناء على أصول، ومفاهيم شكلية؛ لأن كل لغة تعرض المعاني بطرق خاصة، ونحن نتلقى هذه المعاني مرتبة بالترتيب الذي يقدمه لنا الكلام، أي في الصور والأشكال اللفظية التي يظهر بها الكلام، ومن أهم صفات التحليل النحوي لهذه الأشكال النطقية، أن يستبعد عالم اللغة الأصول الفلسفية القديمة في التحليل، كما يستبعد التقديرات الفعلية وما يتصل بها من تأويل وتفسير، ومن ثم فإن أهم ما يوصف به التحليل النحوي أن يكون شكليا أو صوريا؛ لأن هدفه هو الصور اللفظية وتصنيفها وتوزيعها على أسس معينة، ثم نضيف العلاقات الناشئة بين الوحدات اللغوية داخل الجملة، وهذا هو رأي مدرسة التحليل، إلى المكونات المباشرة LC Analysis أو مدرسة بلومفيلد التي كانت مهيمنة إلى حد ما على الفكر اللغوي آنذاك، غير أن الدكتور السعران يرى أن هذا
التحليل من ناحية أخرى هو تحليل وظيفي Functional يقوم أيضا على الدور الذي تقوم به الوحدات اللغوية داخل الجملة، سواء من حيث المبنى أو المعنى، وهو بهذا يحاول التوفيق بين آراء "مدرسة بلومفيلدا" الكلية واستبعادها للمعنى، وآراء المدرسة الإنجليزية الاجتماعية التي ينتمي إليها والتي تنطلق من المعنى. وصدد هذا يقول:
"ولا حاجة بنا إلى القول بأن هذا لا يتضمن استبعاد المعاني كمعالم أو مشيرات في المراحل الأولى من التحليل النحوي، كما أن ما قلناه من أن التحليل النحوي لا يلجأ إلى المعنى لا يتضمن أن عرض نظام نحوي ما ينبغي ألا يقرر أي معان أو فصائل دلالية ترتبط ارتباطا وثيقا أو ضعيفا بالفصائل الشكلية، ولو أنه من الواضح أن الأفضل أن مثل هذه المعاني ينبغي أن تقرر في عبارات موضوعية1.
ثم ينتهي من هذه المناقشة لدور المعنى في التحليل النحوي ليقرر أن تحليل اللغات قد كشف عن درجة كبيرة من التطابق بين الوحدات الدلالية والوحدات النحوية، مما أغرى عددا كبيرا من علماء اللغة بالربط بين التحليل النحوي والمعنى2.
ولا شك أن أستاذه "فيرث" كان واحدا من هؤلاء اللغويين الذين ربطوا بين التحليل اللغوي والمعنى، ولكن سطوة المدرسة الشكلية الأمريكية -آنذاك- كانت تحول دون ظهور عمق التحليل اللغوي وموضوعيته من حيث ارتباطه بالمعنى سواء عند "فيرث"، أو غيره من علماء اللغة، غير أن ذلك قد تحقق بعد ذلك في صورة نظرية علمية، هي النظرية التوليدية التحويلية TG grammar وخاصة في تعاملها مع البنية العميقة للتراكيب النحوية حيث يتجلى المعنى الحقيقي لأي جملة، وقد ذاعت وانتشرت هذه النظرية بعد وفاة الدكتور السعران بسنوات قليلة.
أما المستوى الدلالي في الكتاب فيغلب عليه الطابع التاريخي، وهو يقرر أن دراسة المعنى أو علم الدلالة Semanties باعتباره فرعا من فروع علم اللغة هو غاية الدراسات الصوتية الفنولوجية والنحوية والمعجمية -أو كما يقول- هو قمة هذه
1 علم اللغة، مقدمة للقارئ العربي ط. أولى ص97، 98.
2 السابق نفس الصفحة.
الدراسات؛ لأن علم اللغة لا يتيسر أن يقوم دون تصور الوحدات اللغوية وما يرتبط بها من معنى.
وهنا يتضح انحيازه الكامل إلى المدرسة الاجتماعية الإنجليزية التي يتزعمها أستاذه "فيرث" فالسياق أو العناصر غير اللغوية عنده كما هي عند أستاذه ذات دخل كبير في تحديد المعنى؛ إذ هي جزء من الموقف الكلامي كما يتمثل في المتكلم والسامع وما بينهما من علاقات، وما يحيط الكلام من ملابسات وظروف. ويدلل على ذلك بنصوص يستقيها من القرآن الكريم والشعر الجاهلي وأمثال العرب والشعر الصوفي والأحاديث اليومية.
ثم يتوقف بعد ذلك أمام تحصيل المعنى وخاصة عند الأطفال الذين يسمعون كلاما متصلا مرتبطا بسياقات مختلفة، وبكثرة التكرار والتقليد وإرشاد من حولهم تأخذ بعض الأصوات في الدلالة على المعنى. وصدد هذا يرى أن التقليد والسماع هما وسيلتا الطفل في تحصيل المعنى الذي يرتبط بالكلمات المفردة عند الطفل دون التراكيب. ولكن النظرية اللغوية المعاصرة ترفض الآن فكرة التقليد لتفسير اكتساب الطفل للغة، ونادت بالقدرة الفطرية lnnate Property التي يولد الطفل مزودا بها والتي تعينه على التحصيل والتحكم في مستويات اللغة المختلفة.
وفي تحليله للمعنى يقف به عند حدود الفرق بين المضمون المنطقي الذي يعادل عنده المعنى المعجمي والمضمون النفسي الذي يختلف من فرد إلى فرد طبقا لثقافته وطبقته الاجتماعية. ويخلص إلى أننا لا نستعمل الكلمات بمعناها المنطقي منفصلا عن مضمونها النفسي، وهي نظرة يجاوزها الآن علم الدلالة التركيبي الذي استقر واتضحت مناهج التحليل الدلالي فيه مع استقرار علم الدلالة التركيبي الذي استقر واتضحت مناهج التحليل الدلالي فيه مع استقرار علم الدلالة التوليدي في الثمانينيات من هذا القرن، أي بعد وفاة الدكتور السعران بعقدين من الزمن.
وتحت عنوان مناهج دراسة المعنى يعرض لتاريخ الدرس الدلالي منذ نشأته على يد "ميشيل بريل" عام 1897م حتى ظهور نظرية أستاذه فيرث في الأربعينيات من هذا القرن، ويقسم هذا التاريخ إلى قسمين، الأول خاص بكتابات غير اللغويين والثاني خاص بكتابات علماء اللغة. وتبدأ النظريات اللغوية في دراسة المعنى عنده -كما هي عند كثير من علماء اللغة- منذ "دي سوسير" الذي يشير إلى
قيام نظريته في اللغة على هدى من نظرية "دور كايم" الاجتماعية"، والتي تصبح اللغة فيها من جملة الظواهر الاجتماعية، ويفرق بين ثالوث "دي سوسير" الشهير: اللسان Langue واللغة Languge والكلام Parole لينتهي إلى أن لغة مجتمع ما، هي ظاهرة مستقلة عن الفرد، وأن الكلمات من حيث هي علامات ذات وجود مستقل، وأن معناها اجتماعي في جوهره، ولذلك فإن القيمة اللغوية للكلمة تكمن في شيئين، الفكرة والصورة السمعية التي تدعو الفكرة، ومن ثم فإن الكلمة داخل النظام اللغوي ما هي إلا علامة لغوية تفرق بين فكرتين، وأن قيمة كل علامة تتوقف على وجود سائر العلامات الأخرى، ثم ينتقل بعد ذلك إلى المدرسة السلوكية أو "مدرسة بلومفيلد" ويعرض نظريته وخاصة فيما يتصل بتحليل المعنى ودراسته.
أما المدرسة الاجتماعية الإنجليزية أو "مدرسة فيرث" فهي تمثل عنده آخر المدارس اللغوية التي اهتمت بقضية المعنى، فيقف عندها تفصيلا عارضا لآراء أستاذه "فيرث" ونظريته في سياق الحال Context of situation ويرى أن هذه المدرسة تنظر إلى المعنى على أنه وحدة مركبة من مجموعة من الوظائف اللغوية الصوتية والفنولوجية والمورفولوجية والنحوية، ولكي نصل إلى حقيقة المعنى لا بد من تحليل هذه الوحدة على المستويات اللغوية مع بيان العوامل الخارجية والسياق الاجتماعي. وقد طور هذه النظرية فيما بعد بعض علماء اللغة البريطانيين أمثال هاليداي وماكنتوش وإنكفت وغيرهم في إطار ما يسمى الآن بعلم اللغة الاجتماعي، حيث انصب اهتمامهم على مظاهر التنوع في استعمال اللغة والعوامل اللغوية وغير اللغوية المؤثرة في الكلام أو النص، وميزوا بين أبعاد ثلاثة في الحدث اللغوي هي: مادته وشكله وسياقه، ورأوا أن التنوع في استخدام اللغة هو نوع من السياقات التي تتلازم مع مجموعة من الملامح اللغوية التي تعكس بدورها ملامح لموقف معين، وكل ذلك يحتاج إلى تصنيف وتحليل وتحديد في إطار الاستعمال العام للغة في مجتمع معين، وكل ذلك تم بعد وفاة الدكتور السعران بسنوات غير قليلة.
بهذا التاريخ للنظريات اللغوية في الدراسة الدلالية الكتاب. وصدد هذا لا بد من الإشارة إلى قائمة المصادر والمراجع الأجنبية التي حرص على أن يضعها بين يدي القارئ وهي فاتحة انفرد بها هذا الكتاب لأول مرة في اللغة العربية، كما زود الكتاب بمعجم خاص بالمصطلحات اللغوية باللغة الإنجليزية ومقابلها باللغة العربية، ومعظم هذه المصطلحات كان جديدا على اللغة العربية. وهوامش الكتاب تزخر
بمناقشة واسعة لكثير من المصطلحات التي وضعت قبل ظهور الكتاب ورأيه فيها والمصطلح الذي ارتضاه وأسباب ذلك، وهي في ذاتها دراسة لعلم المصطلح اللغوي انفرد بها هذا الكتاب عما قبله وعما بعده أيضا.
والحق أنه بظهور هذ الكتاب عام 1962 اكتملت لأول مرة في اللغة العربية الصورة العلمية لعلم اللغة، أو بمعنى أدق الجانب النظري فيما يسمى بالبنيوية الوصفية في دراسة اللغة من حيث الأصول العامة ومستويات التحليل. وقد استطاع هذا الكتاب أن يهز ويزعزع -على الأقل دخل الجامعة- الكثير من الأفكار التي قام عليها التفكير اللغوي التقليدي، فزلزل فكرة اكتمال علوم اللغة العربية بما طرحه من مبادئ وأصول فكانت التفرقة بين دراسة اللغة من حيث هي ظاهرة إنسانية عامة ودراسة اللغة من حيث هي لغة معينة أمرًا لم يلتفت إليه أحد من القدماء وكثير من المحدثين قبل ظهور هذا الكتاب، كما وضح أيضا فكرة التطور اللغوي من حيث الفرق بين الدراسة الآنية syncronic أو الوصفية والدراسة التعاقبية Dycroinc أو التاريخية، كما حدد وأشاع الفرق بين دراسة اللغة المنطوقة ودراسة اللغة المكتوبة، كما طرح الكتاب أيضا مبدأ الموضوعية والعلمية في الدراسة اللغوية، من حيث اعتماده على وصف اللغة وتحليلها دون تقويمها أو الحكم عليها، فليست هناك من الناحية اللغوية الخالصة لغة أفضل من لغة ولا لهجة أجمل من لهجة. ومن ثم أصبحت اللغة العربية كغيرها من اللغات، يمكن أن يطبق عليها ما يطبق على اللغات الأخرى من نظريات، وأن تحلل بمناهج وطرق لم يعرفها القدماء، وإن امتازت عن غيرها من اللغات، وطبقا لمعايير غير لغوية دينية أو حضارية.
على هذا النحو من الدقة والوضوح والشمول ظهر هذا الكتاب في أوائل العقد السابع من هذا القرن، والذي نضع بين يدي القارئ طبعته الثانية دون أضافة أو حذف، وعلى الرغم من مرور هذه السنوات الطوال، ما زال الكتاب مطلوبا يقرأ ويرجع إليه، وما زالت المكتبة اللغوية العربية تفتقر إلى مثله مع ما طرأ من تطور هائل في حقل هذا العلم منذ وفاة هذا العالم الجليل ولو امتد به العمر لكان أجدر من يقوم بذلك.
رحم الله أستاذنا الدكتور محمود السعران وتغمده بعفوه ومغفرته وأسكنه جنته.
حلمي خليل
الإسكندرية في 20/ 1/ 1992م