الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4-
توصيل الكلام أو المضمون المنطقي والمضمون النفسي:
1-
كل منا يصدر في كلامه عن عالم خاص به، فكل تجاربه وحياته: قد تتقارب تجارب اثنين وحياتهما. ولكن التطابق التام في جملة التجارب وتفصيلات الحياة أمر مستحيل. ولذلك لا يتعلم شخصان نفس الكلمة في نفس الظروف تماما، وفي نفس الوقت، قد "يسمعانها" معا من نفس الشخص في نفس المكان، وفي أحوال مشتركة
…
إلخ، ولكن "استجابة" هذا نحو الكلمة الجديدة لا تكون مطابقة لاستجابة ذاك، نحوها، ومرجع هذا إلى أن لكليهما تكوينه النفسي، وينتج عن هذا أن فهم هذا لهذه الكلمة ستلونه إيحاءات. وظلال من المعاني، غير الإيحاءات وظلال المعاني التي تلون فهم الثاني لنفس الكلمة. وهذا هو ما يعنيه هرمان بول1 بقوله: إن كل خلق لغوي -وكل إعادة للخلق اللغوي- هو من عمل الفرد وأنه ليظل من عمل الفرد.
ولكن على الرغم من هذا فإن عمليات "التوصيل" تتكرر وتتكرر في ظروف متشابهة، وينتج عن تكرارها أن يتقارب فكر الجماعة الكلامية لهذه الكلمة أو لتلك العبارة.
إن لكل كلمة من الكلمات مضمونا منطقيا ومضمونا، أو ارتباطا، نفسيا. والمضمون "المنطقي". وهو المعنى الذي ينص عليه القاموس في الأغلب، يكون الاشتراك في فهمه واحدا أو شديد التقارب، ولكن المضمون أو الارتباط النفسي يختلف من متكلم لمتكلم اختلافا كبيرا، ولا يمنع هذا من أن يشترك جمهور المتكلمين باللغة في طائفة كبيرة من إيحاءاته ومما يرتبط به من ظلال المعاني.
نحن لا نستعمل الكلمة بمعناها المنطقي مفصولا عن مضمونها النفسي، ولا بهذا مفصولا عن ذاك، إن الكلمة عندما تصدر عنا، أو عندما تصل إلى أسماعنا،
1 Hermann Paul.
تتضمن هذا وذاك. عندما أسمع كلمة "الأهرام" فأنا أفهم منها ما يدل على الأبنية الشامخة التي بناها الفراعنة في "الجيزة" من زمن سحيق، وهي تثير في نفسي وفي نفوس غالبية المتكلمين بالمصرية ضربا من الزهو والفخار، هذا معان وظلال من المعان شبه مشتركة، ولكن قد انفرد أنا بتجارب، متعلقة بالأهرام: قد يثير سماعي لهذه الكلمة تلك المتعة الفائقة التي أحسستها عندما زرتها، وأنا طفل، لأول مرة مع والدي، وقد تثير في ذهن آخر ضربا من الأسى والألم لأنه في يوم من أيام زيارته لها عرض له حادث أليم، فما يسمع هذه الكلمة، أو يتذكرها، حتى تنبعث في نفسه تلك الذكرى الأليمة، وهكذا.
أمثال هذه الخلافات الفردية في التجربة فيما يتعلق بالكلمات تظهر أنواع الارتباطات المختلفة أو فروقا في المعاني المستدعاة. وبعض الارتباطات يظل شديد الخصوصية والفردية كما ذكرنا، ويكون غيره متطابقا عند أشخاص كثيرين، وهكذا يشيع ارتباطه بالكلمة.
2-
ولا شك أن ثمة فروقا في استعمال الكلمات مرجعها إلى نوع الكلام: فرجل العلم يسعى في أن يخلص كلامه من كل ارتباط نفسي، ولكنه بطبيعة الحال، لا يستطيع أن ينجح في هذا كل النجاح، وحتى الرياضي الذي لا يستعمل إلا الرموز الرياضية المجردة مثلا، فإن هذه الرموز يظل لها إيقاع صوتي، ويثير هذا الإيقاع إحساسات في نفس هذا، ويثير غيرها في نفس ذاك، وقد يثير ذلك الإيقاع إحساسات مختلفة باختلاف السامعين أو القارئين، وهكذا.
أما الشاعر مثلا فهو يعنى أول ما يعنى بما تثيره الكلمات من إيحاءات ومن ظلال المعاني، وهذا هو شغله الأول.