الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
وهذا مثال من الفرنسية يتخذ فيه التغيير وجها آخر غير الوجهين السابقين:
إن الأشكال النحوية للنفي في الفرنسية قد أدت إلى تغيير غريب نجم عنه أن ألفاظا تدل أصلا على معان مثبتة، صارت تدل على أضدادها، أي على معان منفية. ومن ذلك أن التعبيرات الفرنسية التي كانت تعني "ولا خطوة" ne
…
pas ،"لا شيء" ne
…
rien و"ولا شخص" ne
…
pas صارت تستعمل استعمالا خاصا في الر على كثير من الأسئلة ذات الصيغ المعينة يتلخص في حذف الجزء الأول من هذه التعبيرات -وهو كلمة ne وهي الكلمة الدالة على النفي- فيرد كلمة pas "خطوة" personne شخص" أو rien "شيء" وحدها -وهي تدل على الثبوت- ولكن يفهم الفرنسيون من هذه الكلمة معنى النفي، بعد حذف الكلمة الدالة أصلا على النفي! فإذا رد الفرنسي على سؤال بمعنى: "من هناك؟ " وأراد أن يقول ما يقابل: "لا أحد" قال personne أي شخص" أو "أحد".
إن مثل هذا الإيجاز، أي حذف جزء من عبارة مركبة واستعمال الباقي للدلالة على معنى الكل، أمر له نظائر في معظم اللغات.
3-
التغير الدلالي والتاريخ الثقافي
1:
من مظاهر التغير الدلالي ما يكشف لنا عن ماضينا الثقافي، وذلك أنه يلاحظ عند أصحاب اللغات المختلفة ميل قوي إلى إطلاق بعض الكلمات المأثورة للدلالة على مسميات جديدة لم يكن لها أي وجود فيما مضي، وذلك كأسماء المخترعات، خاصة، فأكثر أصحاب اللغات يطلقون على الآلة المخترعة في حالات كثيرة، اسما من كلامهم المألوف الذي كان مستعملا قبل ظهور هذا الاختراع، وهذا الاسم يكتسب بهذا معنى جديدا لم يكن له، وقد ينسخ هذا المعنى الجديد المعنى القديم، وفي معظم الأحوال. ومن ذلك كلمة "دبابة" في اللغة العربية: نحن نستعملها في الوقت الحاضر للدلالة على السيارة المصفحة المعروفة، التي تتحرك بطريقة آلية والتي تهجم على صفوف الأعداء، وترمي منها القذائف،
1 Schlauch The Gift pp. 124-126.
والدبابة كلمة قديمة، وكانت تدل على آلة قتالية كذلك، ولكن الآلة القديمة كانت "بدائية" بالقياس إلى الدبابة الحديثة، فالدبابة القديمة آلة تتخذ في الحصار كانوا يدخلون في جوفها، ثم تدفع في أصل الحصن فينقبونه وهم في جوفها1.
إن السبب المباشر في هذا النوع من التغير الدلالي هو التغيرات العارضة في العالم الخارجي، لا تغيرات أو عوامل نفسية داخلية، ولكن على الرغم من ذلك يظل للعوامل النفسية أثرها، فمرد استعمال الكلمات القديمة هذا الاستعمال الذي أوضحناه إلى نزعة المحافظة والإبقاء على القديم، هكذا يلاحظ أن كثيرا من المفردات "التكنولوجية" في معظم اللغات مفردات قديمة تغيرت معانيها. ونحن نقول:"أقلعت السفينة" وهذا الفعل من "القلع" بمعنى الشراع "أي نشرت شراعا أو سارت" والسفينة الآن لا "قلع" لها بل تسير بالبخار. ونظير هذا الاستعمال موجود في الإنجليزية فهم لا يزالون يستعملون الفعل to sail حتى عندما يتحدثون عن المراكب البخارية غير ذوات الأشرعة.
ومن المجاز القديم الذي لا نزال نستعمله قولنا. "دارت رحى الحرب" وإن تشبيه طحن الحرب بطحن "الرحى" يبدو ساذجا في العصر الحديث، ولكن لا يزال لهذا المجاز أثره، فكأننا لا نبالي بالمعنى الأصلي للرحى إنما نشير إلى إفناء الحرب بوجه عام.
والكلمة الدالة على "يد"، والمأخوذة من اللاتينية manus لا تزال في كثير من اللغات الأوروبية تتصدر كلمات كثيرة تدل على منتجات لم تعد تصنع باليد بالعشرات، بل تصنع آليا بالألوف والملايين، ومن ذلك كلمة manuscript وقد مرت، وكلمة mavufactured products "المنتجات الصناعية".
وكلمة paper في الإنجليزية تشير إلى طور قديم كان الورق يتخذ فيه من البردي2، لا من لب الخشب كما هو الحال، ومع ذلك فـ paper تدل في إنجليزية عصرنا على الورق.
1 "الدبابة" بمعناها القديم معروفة من العصر الجاهلي، وقد وردت الإشارة إليها في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لابن هشام.
2 Papyrus.
وكلمة pen لا تزال إلى الآن تدل على القلم أو على سن القلم، وكانت أصلا دلالة على "القلم" القديم أي "الريشة" التي كانت تتخذ للكتابة من ريش الطيور.
وهكذا فالاشتقاق اليسير في كلمات كثيرة يعيننا على العودة، عن طريق التغير الدلالي، إلى العصور الغابرة1، فإن كثيرا من الكلمات في كل لغة تحفظ أثرا من الحياة القديمة في هذا الجانب أو ذاك من جوانبها.
1 أوردت مارجريت شلاوخ "ص125، 126" هذا المثال من الألمانية، بالإضافة إلى الأمثلة الإنجليزية التي عرضناها: إن الكلمة الألمانية wand "بمعنى حائط: بالإنجليزية: Wall" تظهر أن المساكن المنسوجة أو مساكن "الشعر" كانت قائمة في الأراضي الجرمانية في الأزمنة التاريخية.
وهذا الكلمة لا تزال تستعمل في الألمانية للدلالة على حوائط من الحجر والطوب لها هيكل من الحديد والصلب بعيدة كل البعد من بيوت "الشعر" البدائية.