الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الأولى:
النظر في اللغة وطرق درسها جد قديم، وللعرب في ذلك آثار كبيرة معروفة علينا أن نتدبرها ونقومها لإبراز دورهم في تاريخ الدراسات اللغوية، وللائتناس بما يصلح من الأصول اللغوية التي أسسوها أصولا لعلم اللغة الحديث.
ولكن الدراسات اللغوية في أوروبا وأمريكا نشطت ونشطت الثقافة الغربية بعامة، فأصبحت -منذ حوالي نصف قرن- "علمًا" مستقلًّا، متفردًا متخصص الوسائل. ولقد نقلنا عن الغرب كثيرا من العلوم التي سبقنا إليها، وجاوزنا في كثير منها طور الأخذ إلى طور التأليف الأصيل، ودراساتنا الأدبية والنقدية خير حظا من الدراسات اللغوية فقد تعرفنا على كثير مما أحدثه الغربيون فيها، وانتفعنا به، وصدرت عن باحثينا دراسات أصيلة على هدى النظر الأدبي الحديث.
ولكن تعريفنا بالنشاط اللغوي العلمي في أحدث صوره لا يزال تعريفا هينا غامض القسمات، ينتظر الجهود الجادة المتلاحقة من الأفراد والهيئات.
وهذا الكتاب في "علم اللغة" محاولة أقدمها في هذا السبيل، وهو كتاب يحدد أسلوب عرضه للموضوعات، ومنهج تناوله للمسائل، أنه "مقدمة للقارئ العربي".
وقد آثرت أن أبدأ تعريف هذا العلم -بعد أن قدمت له منذ سنوات بكتابي "اللغة والمجتمع: رأي ومنهج"- بكتاب مؤلف لا مترجم، فالكتاب الإنجليزي أو الفرنسي موجه إلى قارئ ذي ثقافة لغوية خاصة، وتكوين عقلي مخالف، فهو مثلا يغضي النظر عما نحن في حاجة إلى إيضاحه، ويفصل فيما نراه في مرحلتنا هذه تزيدا.
والقارئ الأوروبي يجد في لغته عشرات وعشرات من المؤلفات والمصنفات مها المطول ومنها المختصر، ومنها ما وضع لعامة المثقفين، وما وضع لخاصتهم، فهو من هذا العلم في حال خير مرات ومرات من حال القارئ العربي منه.
ثم إن القارئ العربي تعلق بذهنه تصورات ومذاهب لغوية لا تيسر له متابعة التصورات والمذاهب الحديثة في علم اللغة إن عرضت له موجزة مركزة، أو مشارا إليها إشارة عابرة، كما يحدث في المؤلف الأوروبي أو الأمريكي.
ولذلك مهدت لكتابي هذا بمقدمة طويلة شيئا ما تهيئه لذهن القارئ الشادي لتلقي أصول هذا العلم بأيسر سبيل، وأدنى مجهود.
ولقد حاولت تبسيط حقائق هذا العلم ما وسعني التبسيط، مع حرصي على الدقة والسلامة، حتى يستقل القارئ المبتدئ بتحصيل ما فيه ومدارسته، وينتقل منه آمنا إلى مطالعة أصول هذا العلم.
وكان أول ما راعيته تحقيقا لهذه الغاية إثبات المصطلح الإنجليزي بحرفه، وانتقاء اللفظ العربي المقابل له بحيث لا يوقع في الخطأ أو الاختلاط، فنأيت عن اختيار المصطلح اللغوي العربي القديم ترجمة لبعض المصطلح الإنجليزي -كما صنع جماعة- وآثرت، حيث لا أجد المقابل العربي الملائم، أن استعمل المصطلح الأوروبي، وذلك كي لا يختلط التصور العربي القديم بالتصور الأوروبي الحديث، ولكي ينفسح المجال ويسمل أمام الباحث العربي حين يؤرخ الدراسات اللغوية العربية ويقومها على أساس من الفهم الحديث، فيصطنع المصطلح العربي بمعناه إلى جوار المصطلح الجديد المنقول بمرماه جانبا إلى جنب دون إيقاع القارئ في البلبلة، ودون إيهامه بغير المراد.
ولما كنت أتوجه بكتابي هذا إلى القارئ العربي فقد فصلت الحديث في موضوعات لا يفصل فيها الغربيون، وأوجزت حيث لا يوجزون، وأكثرت من الأمثلة والشواهد في مواضع، وأقللت منها في أخر. وكنت لا أدع مناسبة، في الأغلب الأعم، دون تطبيق ما أقرر على الكلام العربي بيانا لصلاحية اتخاذ الأسس والتصورات الجديدة عند دراسته، ولمدى ما تقدمه من نفع لا تنهض بمثله التصورات اللغوية العربية القديمة وحدها.
وأنا لم ألتزم في جملة ما عرضت مذهبا بعينه، في كل أصوله وفروعه، من مذاهب الدرس اللغوي المتعددة، بل ركنت إلى التعرف بالأصول العامة التي ارتضيها، والتي قل أن يختلف فيها أصحاب هذا العلم، مع بيان مصادرها ومذاهب أصحابها في معظم الأحوال، ومع الإشارة، في الوقت نفسه، إلى الآراء المخالفة الصادرة عن مذاهب أخرى، حتى يكون القارئ على بينة من المذاهب اللغوية المختلفة، وعلى دراية بالفلسفة التي قامت عليها، وعلى علم بأهم المؤلفات فيها، فلا يضل الطريق في زحمتها عندما يتاح له الاتصال بشيء منها.
ويسرني، آخر هذه الكلمة، أن أسدي الشكر مخلصا إلى صديقي وزميلي الدكتور محمد أبو الفرج المدرس بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، لقاء ما هيأ لي من المراجع والأبحاث اللغوية الحديثة التي عاد بها بعد انتهاء دراسته في لندن، فوصلني بدراسات هادية ميسرة موحية.
الدكتور: محمود السعران