المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ صعوبات في الطريق: - علم اللغة مقدمة للقارئ العربي

[محمود السعران]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌تقديم

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌تمهيد

- ‌دراسة اللغة علم

- ‌علم اللغة في الشرق الأدبي

- ‌ صعوبات في الطريق:

- ‌ علم اللغة يدرس "اللغة

- ‌ حول البحث في نشأة اللغة:

- ‌ اللغة "كلام

- ‌ عن طبيعة اللغة "الكلام" وظيفة إنسانية "غير غريزية" و"غير موزونة" الكلام وظيفة ثقافية مكتسبة:

- ‌ اللغة نظام من العلامات الاصطلاحية ذات الدلالات الاصطلاحية

- ‌ علم اللغة يستعين بعلوم أخرى:

- ‌ علم اللغة وعلم النفس:

- ‌ الفلسفة اللغوية:

- ‌علم اللغة انعكاس أو استنباطي

- ‌الباب الثاني: علم الأصوات اللغوية

- ‌مدخل

- ‌ لمحة تاريخية:

- ‌ علم الأصوات اللغوية في صورته الحاضرة:

- ‌ الدراسة الصوتية الآلية:

- ‌ الكتابة الصوتية

- ‌ حاجتنا إلى علم الأصوات اللغوية:

- ‌ من أسباب تخلف دراستنا اللغوية:

- ‌النطق

- ‌أعضاء النطق

- ‌ آلية النطق

- ‌ الصوت الكلامي

- ‌ تصنيف الأصوات:

- ‌ عن الأصوات في "الكلام

- ‌الباب الثالث: النحو

- ‌نحن نفكر بجمل

- ‌من التحليل الفونولوجي إلى التحليل النحوي

- ‌النحو الوصفي

- ‌المورفولوجيا

- ‌ منهج المورفولوجيا ومنهج النظم:

- ‌الفضائل أو الأقسام النحوية

- ‌ عن أصول النحو الصرفي:

- ‌ النحو المقارن:

- ‌الباب الرابع: علم الدلالة أو دراسة المعنى

- ‌قمة الدراسات اللغوية

- ‌ قصور المعنى "القاموسي

- ‌تحصيل المعنى

- ‌ توصيل الكلام أو المضمون المنطقي والمضمون النفسي:

- ‌تغير المعنى

- ‌التغير الانحطاطي أو "الخافض

- ‌التغيير الدلالي والاستعمال النحوي

- ‌ التغير الدلالي والتاريخ الثقافي

- ‌مناهج دراسة المعنى

- ‌نشأة علم الدلالة "ميشيل بيرييل

- ‌ دراسة تغير المعنى بعد برييل:

- ‌ كتابات غير اللغويين:

- ‌من نظرية اللغويين في علم الدلالة

- ‌الباب الخامس: تاريخ الدراسات اللغوية

- ‌العصور القديمة

- ‌ العصور الوسطى وعصر النهضة:

- ‌القرنان الثامن عشر والتاسع عشر

- ‌القرن الثامن عشر

- ‌ القرن التاسع عشر:

- ‌ القرن العشرون

- ‌معجم المصطلحات

- ‌المراجع

- ‌المراجع الإنجليزية

- ‌المراجع الفرنسية:

- ‌المراجع العربية:

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌ صعوبات في الطريق:

3-

‌ صعوبات في الطريق:

إذا كان لغويو الغرب يشكون ضآلة ذيوع علم اللغة وندرة الإفادة من نتائجه، فأجدر بشكوانا أن تكون الغربة عن هذا العلم برمته.

إن علينا أن نتعرف جهد قرن من الزمان، هذا فضلا عن التعرف على الأصول القديمة التي أخذ منها هذا الجهد. وعلينا أن نكتب في هذا العلم بالعربية، فلن يكون لنا "علم اللغة" ما اقتصر المتخصصون على دراسته في أصوله الأجنبية.

ولكن كتابة هذا العلم بالعربية، ومحاولة الإفادة منه في الميادين اللغوية العربية، محوجتان إلى فضل جهد، فإن تمثل ما كتب في هذ العلم بلغات الغرب ليس أمرا هينا.

أ- ومن أول ما يجابه الباحث العربي في هذا السبيل من صعوبات، وضع مصطلح هذا العلم بالعربية1.

= ثم أصدر من بعد كتابه "دلالة الألفاظ""ملتزم الطبع والنشر مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة. الطبعة الأولى سنة 1958".

وقد ظهرت سنة 1950 ترجمة كاملة لكتاب قيم هو "اللغة" من تأليف اللغوي الفرنسي الكبير ج. فندريس J Vendryes Le Langage "مطبعة لجنة البيان العربي، نشر مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة" اضطلع بها الأستاذ عبد الحميد الدواخلي والدكتور محمد القصاص "وكان أولهما إذ ذاك أستاذا مساعدًا بكلية دار العلوم وثانيهما مدرسا بكلية الآداب بجامعة عين شمس".

وإن المتصلين بالمؤلفات اللغوية الأوروبية المتخصصة ليدركون ما يعانيه المترجم من مشقه عندما ينقل إلى العربية كتابا كاملا بتفصيلاته الصوتية، والنحوية، والدلالية

إلخ، وبأمثلته الوفيرة المتلاحقة من عشرات اللغات

ثم كان جيل أحدث ممن أسلفنا الإشارة إليهم تخصص أكثرهم في علم اللغة أو في أحد فروعه، في لندن، وأكثر هؤلاء يقومون الآن بالتدريس في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة "مثل الدكتور تمام حسان والدكتور عبد الرحمن أيوب، والدكتور كمال بشر" أو في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية "صاحب هذا الكتاب، والدكتور محمد أبو الفرج".

1 من أمثلة ذلك الاختلاف في ترجمة المصطلحين الأساسيين Consonant "بالفرنسية: Consonne" و Vowel "بالفرنسية Voyelle" ترجمهما دكتور إبراهيم أنيس في كتابه "الأصوات اللغوية""ط. نهضة مصر بالفجالة، نشر مكتبة نهضة مصر بالفجالة" بـ"الساكن" و"صوت اللين". وترجمهما في كتابه "من أسرار اللغة""مطبعة لجنة صوت البيان العربي سنة 1951، نشر مكتبة الأنجلو المصرية" بـ"حرف" و"حركة" =

ص: 31

_________

= ومعروف أن "الحرف" في الاستعمال العربي القديم يصدق على الـ Consonant والـ Vowel كليهما، فكأن كلمة "حرف" هنا تستعمل استعمالا اصطلاحيا جديدا، وعلى القارئ أن يكون على حذر ليميز بين استعمالها مرادا بها لمعنى التقليدي، وبين استعمالها مرادا بها المعنى الجديد ولا سيما في النصوص التي يناقش فيها الكاتب التصورات اللغوية العربية القديمة، فيقع في سياق واحد "الحرف" بمعناه عند سيبويه أو ابن يعيش مثلا، ثم الحرف مقابلا لـ Consonant، و"الحرف" مرة ثالثة مقابلا لـ Vowel وقد يختلط الأمر على المبتدئين من القراء، أو قد يعانون من أمرهم رهقا، وقد يتوهمون أحيانا أنهم أدركوا المراد من الكلام، وهم واقعون في الخطأ. ونحن نعرض هذا المثال من كلام الدكتور إبراهيم أنيس من كتابه "من أسرار اللغة" ص171 بيانا للصعوبة التي على القارئ أن يواجهها:

"ويسيطر على نظام المقاطع في اللغة العربية، في رأينا أمران هامان:

1-

الحرف المشكل بما يسمى السكون يجب تحريكه بأي حركة حين يقع في وسط الكلام بعد حرف مد.

2-

لا يصح أن يتوالى في وسط الكلام حرفان مشكلان بالسكون، أو بعبارة أخرى خاليان من الحركة. وعلى هذا إذا تصادف أن اشتمل الكلام المتصل على حرف مد، وكان ما بعده حرفا مشكلا بالسكون وجب تحريك هذا الساكن، أو إذا تصادف أن توالى في وسط الكلام حرفان خاليان من الحركة وجب تحريك الأول منهما.

ولقد برهنت الدراسات الصوتية الحديثة على أن المقطع الصوتي في اللغة العربية يبدأ دائما بحرف من الحروف أي Consonant ففي مقطع مثل: كَ، كِ، كُ نراه مكونا من حرف تليه حركة

".

نلاحظ أن الكاتب، ليحدد أنه يقصد "بحرف" ما يقابل Consonant، يقيده بقوله "المشكل بالسكون" ولو حذف "القيد" فجرى الكلام هكذا: "الحرف يجب تحريكه بأي حركة

" لزاد الغموض. هذا فضلا عن أن "المشكل بالسكون" لا يعد فصلا Consonant عن الـ Vowel فالسكون "يشكل" به حرف مثل التاء، أو الباء، أو الكاف. السكون نفسه هو العلامة المميزة "للحركة الطويلة" أو "لحرف المد" أي أنه العلامة Long - Vowel فالزلفات والواوات والياءات الممدودة تشكل في العروض العربي خاصة بالسكون!

وقد استعمل الكاتب قيدا آخر "للحرف" ليتضح في ذهن القارئ العربي أن المقصود بـ"حرف" هنا أن يقابل Consonant فوصفه بأنه الخالي من الحركة فقال: "لا يصح أن يتوالى في وسط الكلام حرفان مشكلان بالسكون، أو بعبارة أخرى حرفان خاليان من الحركة". هذا القيد يقرب تصور الـ Consonant إلى ذهن القارئ العربي ولكن حذفه، وحذف القيد السابق، والاكتفاء بكلمة "حرف" فهذا هو المصطلح الذي يراد استعماله استعمالا جديدا توقع في البلبلة. وإحساس المؤلف بهذا، وبأن المفهوم الجديد لم يتضح بعد في ذهن القارئ هو الذي دعاه إلى أن يقول: "

أن القطع الصوتي في اللغة العربية يبدأ دائما بحرف من الحروف أي Consonant". هذا مظهر من مظاهر الصعوبات التي يواجهها الكاتب والقارئ جميعا عند استعمال "حرف" هذا الاستعمال الاصطلاحي الجديد.

وإن المفهوم التقليدي لكلمة "حركة" قد يحول دون تصورها، عندما تستعمل مقابلة لـ Vowel، صوتا أساسيا في الكلام مثل "الحرف المشكل بالسكون" فقد يظل عسيرا على القارئ أن يخلص ذهنه من أن "الحركة""علامة" أو "عارض" تابع للحرف" الذي هو "الجسم أو "الجوهر"، ولا سيما عندما يطالع في نفس النص عبارة "يجب تحريكه

".

ثم إن ورود عبارة "حرف مد" بعد "الحرف الـ

" والـ "حركة" قد يفهم بعض المبتئدين من القراء أن الأصوات الأساسية في اللغة ثلاثة أقسام هي: "الحرف"، و"الحركة" و"حرف المد"، مع أنهما قسمان رئيسيان هما ما يقابل Vowel Consonant. =

ص: 32

_________

= أما الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه "علم اللغة""الطبعة الثانية، مزيدة ومنقحة، نشر مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة، مطبعة الاعتماد بمصر سنة 1944".

فقد ترجم Consonans بـ"الحروف الساكتة" أو "الساكنة" أو "الأصوات الساكنة""ولو أنه لم يلتزم هذه الترجمة في ثنايا الكتاب، فترجم هذا المصطلح في مواضع أخر بـ"الحروف غير المتحركة" وبـ"الأصوات" ليس غير، مما سنشير إليه في الهامش التالي، وترجم Voyelles "وأكثر استعمالاته لهذا المصطلح ولسابقه بصياغة الجمع" بـ"حروف المد" و"أصوات المد" و"أصوات لينة" و"أصوات لين" "حروف اللين" و"الأصوات المدية".

نرجئ الحديث عن مدى صلاحية "الساكنة" أو "غير المتحركة" ترجمة لـ Consonnes إلى ما يلي من تعليقنا على استعمال مترجمي كتاب "اللغة" لفندريس لنفس المصطلح بـ"سواكن""جمع ساكن". ونجتزئ هنا بالإشارة إلى أن مؤلف "علم اللغة" كان يجد نفسه مضطرا في معظم الأحوال إلى تحديد مراده بـ"الحروف الساكنة" بأن يعقب ذلك بقوله بين قوسين "ونعني بها ما عدا أصوات المد" أو "ما يقابل أصوات اللين" وهكذا.

ومن أمثلة ذلك قوله في ص128: "تتألف أصول الكلمات في اللغات السامية في الغالب من ثلاثة أصوات ساكنة "أحرف ساكنة "3" مختلفة". وعلق في هامش الصحفة نفسها على قوله: "أحرف ساكنة" بقوله: "الحرف هو ما يرمز إلى الصوت في الكتابة". فاستعمال كلمة أصوات في هذا المقال أدق من استعمال كلمة حروف، ونريد بالساكنة ما يقابل اللينة. "ولكن المؤلف لم يلتزم هذا التمييز بين "حرف" و"صوت".

وقوله "في ص211: "1- التفاعل بين الأصوات الساكنة "ونعني بها ما يقابل أصوات اللين". وعبارته في ص213: "

فيتحول إلى صوت ساكن "ونعني بها ما يقابل أصوات اللين". وقوله في ص214: "وأكثر ما يكون ذلك في الأصوات الواقعة في أواخر الكلمات سواء أكانت الأصوات لين أم أصواتا ساكنة "ونعني بالساكنة ما عدا أصوات اللين". ولكن المؤلف لا يلتزم إيراد هذا التفسير في جميع الحالات. ومن ذلك قوله في ص130: "

بل تختلط فيه الأصوات الساكنة باللينة".

أما الأستاذان عبد الحميد الدواخلي، والدكتور محمد القصاص فقد ترجما Consonne و Consonan toyelle بـ"ساكان""ج. سواكن" و"حركة""ج. حركات"، وذلك في عملهما الجليل الشاق المشكور، الذي خدما به الدراسات اللغوية العربية أيما خدمة، والذي لم ينتفع بها دارسو اللغة عندنا حق الانتفاع، وهو ترجمة كتاب Le Langage "اللغة" للعالم الفرنسي الكبير J Vendryes ج. فندريس "مطبعة لجنة البيان العربي سنة 1950 القاهرة. نشر مكتبة الأنجلو المصرية".

وقد التزما هذه الترجمة فيما يبدو في ثنايا الكتاب كله. ومعنى هذا أنهما أعطيا "الساكن" مفهوما جديدا غير المفهوم العربي، "فالساكن" في النحو العربي كما ذكرنا يطلق على مثل نون "من" ويطلق في الوقت نفسه على مثل ألف "ما" أي أن الساكن في النحو العربي يقابل Consonne أحيانا، ويقابل قسما من الـ Voyelle "هو ما يسمى في النحو العربي "الحركة الطويلة أو "حرف المد واللين".

وهذا الاستعمال يخلق نفس الصعوبات التي يخلقها "الحرف" بالمعنى الجديد، عند مناقشة التصورات العربية القديمة فنضطر إلى استعمال "الساكن" بهذا المعنى أو بذاك من معنييه التقليديين، وإلى استعماله بالمعنى الجديد في سياق واحد، وقد يقع في السياق كلمة "متحرك" و"حركة" و"المتحرك" بالمعنى التقليدي، هو بعبارة الأستاذين الدواخلي والقصاص "ساكن" وليته "حركة". =

ص: 33

_________

= ومع أن كتاب فندريس لا تعرض فيه أمثال هذه النصوص العربية التي توقع في الإشكال فبعض استعمالات هذين المصطلحين الجديدين في الكلام تبدو مرهقة للقارئ المبتدئ. ومن ذلك قول المترجمين الفاضلين "ص51":

"لقد افترضنا حتى هنا بقاء الشفتين والحنجرة في حالة سكون عند إصدار الساكن. لذلك لم نحصل إلا على سواكن صامتة يعني مجردة من الصوت Simmloss Unvoiced" Voix كما يقول الإنجليز والألمان

".

فكلمة "سكون" هنا ليس لها صلة بالمعنى الاصطلاحي الجديد لـ"الساكن" كما استعمل في هذا النص نفسه. فالمراد بالسكون هنا هو عدم تحرك الوترين الصوتيين بالحنجرة أي عدم تذبذبهما تذبذبا يحدث نغمة موسيقية. ومما يزيد من صعوبة هذا النص العربي ترجمة Voix بـ"الصوت"، و"الصوت" هي التي ترجم بها المترجمان كلمة Son. ومعروف أن Voix في هذا السياق لا تعني الصوت الإنساني، إنما هي مصطلح يعني تذبذب الوترين الصوتيين تذبذبا منغما، وخير ترجمة لها هي "الجهر" التي استعملها سيبويه في وصف الأصوات العربية، والتي استعملها المترجمان في سياق آخر "ص52 من الترجمة".

ووصف كلمة "سواكن" بأنها "صامتة""ترجمة لكلمة Sourdes" زاد من تعقيد النص العربي بالنسبة للقارئ المبتدئ. وكان خيرا أن توصف هذه السواكن بـ"مهموسة""وهو الاصطلاح الذي استعمله سيبويه، والذي استعمله المترجمان في مواضع أخر "ص52 س4 مثلا".

على أن في هذا النص الذي نناقشه خطأ آخر عارضا، يوقف من له معرفة بالأصوات اللغوية وطرائق تكوينها؛ إذ يدرك أن "بقاء الشفتين والحنجرة في حالة سكون" لا يتفق مع النتيجة المقررة بعد كلمات وهي "لذلك لم نحصل إلا على سواكن صامتة".

ذلك أن من المعروف أن مما يدعوه المترجمان "سواكن صامتة" Consonnes Sourdes ما يكون لوضع الشفتين أثر أساسي في تكوينه "مثل P". وقد راجعنا الترجمة على الأصل الفرنسي فوجدنا أن ما ترجمه الأستاذان عبد الحميد الدواخلي، ومحمد القصاص بـ"الشفتين والحنجرة" هو: Les leves de la glotte

أي "شفتي فتحة الحنجرة" فالوتران الصوتيان بالحنجرة هما في الواقع أشبه بالشفتين.

خداع النظر هو الذي أدى بالمترجمين إلى قراءة الأصل كما لو كان مثلا Les levres la glotte

وهذا هو الأصل الفرنسي لذلك النص الذي أثار هذه المشكلات جميعا:

Nous avons suppose jusou ice que Pendant L emission de la Consonne Les levres de la glotte restaient immobiles

Aussi navons nous obtenu que des consonnes sourdes Cest a dire depourvues de VOlX unviiced Stimmlos comme disent les anglais et les allemands

عن ص29 من طبعة سنة 1950 من كتاب.

J Verdryes le Langage lntroduction Linguistique A L Histoire

Editions Albin Michel 22 Rue Huyghens paris "XlVE" lmprimerie Bussiere a Saint Amand "Cher" France 1 9 1950

أما الدكتور محمد مندور فقد ترجم Consonne و Voyelle - في المقال القيم الذي كتبه العالم اللغوي الكبير أنطوان مييه Antoine Mieillet - بالصوت "الصامت" والصوت "الصائت". =

ص: 34

إن هذا العلم يتضمن تصورات لم تقدم في أذهان لغويي العرب، وقد لا يصلح للتعبير عنها مصطلحات عربية رسخت دلالاتها وتبلورت، وقد يكون من الخير تجنب استعمالها حتى لا يختلط معناها الأصيل بالمعنى الحديث الذي يراد بها أن تدل عليه.

سيضطر الباحث العربي إلى وضع بعض المصطلح الجديد، وقد يحتفظ أحيانا بالمصطلح الأجنبي حتى يحين الوقت -بعد الإكثار من التأليف ومدارسة أصول هذا العلم الجديد وفروعه- لظهور مصطلح عربي أصيل سائغ.

وإن الاطلاع على ما كتب بالعربية تعريفا بهذا العلم، وهو جد قليل لشاهد بمدى الصعوبة التي يعانيها الكاتب والقارئ جميعا في هذا المجال، فقد اختلف المؤلفون والمترجمون، وهذا طبيعي ومتوقع، في المصطلحات الدالة على معان واحدة1، حتى إن المطلع المبتدئ ليقع في البلبلة والحيرة والاختلاط.

وقد اضطرب بعض المؤلفين والمترجمين فترجم المصطلح الأوروبي بلفظ معين مرة، ثم ترجم المصطلح نفسه مرة أخرى في نفس الكتاب بلفظ آخر2.

= ونحن نؤثر هذه الترجمة على سواها، وقد اتبعناها في كتابنا "اللغة والمجتمع: رأي ومنهج" وفي هذا الكتاب؛ لأنها بابتعادها عن المصطلحات العربية التقليدية توفر كثيرا مما أشرنا إليه من مشكلات ولبس وإبهام، وتيسر للباحث الحديث في الوقت نفسه، عندما يؤرخ التصورات اللغوية العربية القديمة، أن يقومها في ذاتها، وأن يقارن بين التصورات الجديدة في عبارة بينة دقيقة.

1 انظر الهامش السابق.

2 ومن ذلك ما أشرنا إليه في الهامش السابق من ترجمة الأستاذ علي عبد الواحد وافي في كتابه "علم اللغة" للفظ consonnces بـ"الحروف الساكنة""أو الأصوات الساكنة" مرة وبـ"الحروف غير المتحركة" مرة أخرى، وبـ"الأصوات" ليس غير. قال في ص180،181: "

فالآرامية حوشية الأصوات، صعبة النطق، تلتقي في كلماتها المقاطع المتنافرة والحروف الساكنة. والعربية عذبة الأصوات، سهلة النطق، خفيفة الوقع على السمع، تقل في كلماتها الحروف غير المتحركة، ولا يكاد يجتمع في مفرداتها ولا في تراكيبها مقاطع متنافرة، ولا يلتقي في ألفاظها ساكنان. "هذا سياق واحد ترجمت فيه كلمة consonnes بأكثر من صورة! "

ومن ترجمة الأستاذ وافي لهذا المصطلح بـ"الأصوات" ليس غير قوله في 218: "والأصوات الصامتة consonnes sourdes p t k الواقعة بين صوتي لين قد تحولت في اللاتينية الحديثة حوالي القرن السادس إلى أصوات مدوية consonnes sonores قريبة منها b d g etc"

ص: 35

ومنهم من ترجم مصطلحين مختلفين بلفظ واحد1. ومنهم من دل بمصطلح عربي قديم محدد المعنى على تصور جديد، وربما استعمله بحيث لا يتبين

1 من ذلك ما صنعه مترجما كتاب "اللغة" لفندريس من ترجمة Les morphemes أحيانا بـ"الأصوات"، و"الأصوات" هي الترجمة المعهودة والتي اتبعاها في نقل les sons.

ومن أمثلة ترجمتها les morphenes بـ"الأصوات" قولهما في العنوان الفرعي للجزء الثاني من الكتاب وهو الخاص بالنحو "الكلمات والأصوات""ص104" والمقابل الفرنسي لهذا هو Mots et-Morphemes وذلك في ص86.

ومن أمثلة هذا كذلك قولهما في ص155: "بعد ذلك يجب أن نبعد الأصوات. فإن عددا كبيرا من "أجزاء الكلم" في نحونا ليس شيئا آخر".

و"الأصوات" هنا كلمة مضللة لأن المقصود بها في الأصل "المورفيمات""أو "دوال النسبة" كما آثر المترجمان أن يترجما les morphemes في أكثر المواضع التي يعرض فيها هذا المصطلح" وهي تصور نحوي لا مقابل له في النحو العربي وقد يكون عنصرا صوتيا، وقد يكون غير ذلك، وهو ما وضحه فندريس نفسه في الجزء الخاص بالنحو "ص104-112" وما سنشير إليه في كلامنا عن النحو، والأصل الفرنسي للجملة العربية التي استشهدنا بها هو قول فندريس "pp. 136-137".

ll faut en suite mettre a part les morphemes Un bon nombre des parties du dis cours de notre grammaire ne sont pas autre chose

ومما يسهل على القارئ العربي الوقوع في الخطأ بتصديق أن "الأصوات" في المثالين اللذين أوردناهما، وفي سواهما إن وجد لها نظير أو أكثر، المراد أن يقابلا les morphemes لا ses sons كما يريد مؤلف الكتاب وكما يتقضي السياق عند ذوي النظر، أن المترجمين عندما وردت كلمة morphemes للمرة الثانية في الفصل الأول من الجزء الخاص بالنحو ترجماها بـ"دوال النسبة" وأوردا بعد المصطلح العربي المصطلح الفرنسي بالحروف اللاتينية، وهذا من المرات القلائل التي يوردان فيها المصطلح الفرنسي، فإذا وجد القارئ العربي أن عنوان هذا الفصل نفسه هو "الكلمات والأصوات"، لم يدر بخلده أن المترجمين يقصدان بالأصوات في هذا العنوان ما عبرا عنه بعد في صفحة ونصف وما تردد من بعد "انظر خاصة ص105-112" بقولهما "دوال النسبة".

وأما أمثلة ترجمة الأستاذ عبد الحميد الدواخلي، ومحمد القصاص لـ Les sons "الأصوات" وهي الترجمة المعهودة المقبولة لهذا المصطلح فنكتفي منها بالإشارة إلى الجزء الأول من الكتاب "ص43" وهو "الأصوات" ومقابله في الأصل الفرنسي ورد في ص21 "Les Snos "P 21.

ومن أمثلة ترجمة مصطلحين مختلفين بلفظ واحد ما يصنعه نفس المترجمين في نفس الكتاب ترجمة كلمة desinence في أغلب الأحوال بـ"لاصقة""ج لواصق. انظر مثلا ص111 س5 وقابله بما ورد في ص92 من الأصل الفرنسي" وترجمة affixe بـ"لاصقة" كذلك "ص114 س1 من الترجمة العربية ص 95 من الأصل الفرنسي".

ولما اجتمعت الكلمتان الفرنسيتان معطوفتين ترجما جمع الأولى بـ"العلامات"، وجمع الثانية بـ"اللواصق""ص113 س10، س11".

"

لم يبق علينا إلا النظر في اختلاف الحركات واللواصق والعلامات" وهذا هو الأصل الفرنسي لهذه الترجمة، وقد ورد في ص94. =

ص: 36

القارئ المقصود من الكلام، وخاصة عندما يرد في نص واحد المصطلح العربي مرادا به المعنى القديم، ونفس المصطلح مرادا به المعنى الحديث، دون أدنى تنبيه من الكاتب1.

= 333 il ny a plus a tinir compte que des variations de voyelles et des affixes et desi nences.

ومما زاد من صعوبة متابعة الترجمة العربية في الفصل الأول من الجزء المفرد للنحو على وجه الخصوص "انظر مثلا ما بين ص106، ص115" استعمال "لاحقة" و"لاصقة" و"زائدة"، "علامة"، وجمع هذه الكلمات، استعمالا غير واضح التحديد. وبالرجوع إلى الأصل الفرنسي ظهر لنا أن desincnce فضلا عن ترجمتها بـ"لاصقة" وبـ"علامة" قد ترجمت بـ"زائدة""ج. زوائد" كما في ص106 س12 "الأصل الفرنسي ص87" وفي ص109 س3 "الأصل الفرنسي ص90" وفي ص113 س3 "الأصل الفرنسي ص44" وظهر لنا أن "زائدة" قد استعملت كذلك ترجمة لكلمة augment "ص113 س2 والأصل الفرنسي ص94 ص115 س9 من أسفل والأصل الفرنسي ص97".

وربما كان الأفضل أن تترجم desinence بـ"خاتمة""جمع "خواتيم" وخاتمات" لتتميز في العربية من ترجمة augment "التي نفضل ترجمتها بـ"لاحقة" ج. لواحق". ويسهل تصور هذين العنصرين وسواهما أن نقول إن عددا كبيرا من كلمات اللغة الهندو - أوروبية يتكون من ثلاثة عناصر أو أكثر، والعنصر الأول هو "الأصل" أو "الأرومة""racine بالفرنسية و root بالإنجليزية" والعنصر الثاني لاحقة أو أكثر؛ والعنصر الثالث "خاتمة" desinence "بالإنجليزية desinence". إن "الأصل" يعطي المعنى العام للكلمة، و"اللاحقة" تعدل أو تخصص ذلك المعنى، أما "الخاتمة" فهي تبين علاقة الكلمة بسائر الجملة، أو تحدد الشخص، أو النهاية المحددة لزمن الفعل. إلخ. "انظر في تفصيل هذا:

T Hudson Williama A Short lntroducation to the study of Comrparative Gram mar "lndo European" pp 43-46

1 ومن ذلك ترجمة كلمة morphologie "بالصرف" أو "النظام الصرفي"، morphologique بـ"صرفي" أو "صرفية".

والتصور الذي يعبر عنه هذا المصطلح تصور لا يطابقه، أو يماثله، أو يقرب منه تصور عربي، وقد لاحظت أن ترجمة هذا المصطلح بالمصطلح العربي القديم، مرادا به معنى جديد، تعوق كثيرا من الطلاب على إدراك هذا التصور الذي نسعى إلى إدخاله في دراستنا اللغوية الحديثة.

وهذا مثال من ترجمة الأستاذين عبد الحميد الدواخلي. والدكتور محمد القصاص لكتاب اللغة لفندريس. قالا في ص108: ونجد في تبادل الحركات في اللغات الهندية الأوروبية أو في السامية خير الأمثلة لتوضيح هذه الفصيلة. لسنا هنا نضيف عنصرا صوتيا إلى دالة الماهية ليخلع عليها قيمة صرفية. بل يكتفي في الإشارة إلى دور دالة الماهية الصرفي بالعناصر الصوتية لهذه الأخيرة نفسها. فالإنجليزية تقابل بالجمعين men و feet المفردين man "رجل" foot "قدم"

فالاختلاف الذي بين هذه الصيغ اختلاف في جرس الحركة الذي يلعب على هذا الوضع دور دالة النسبة؛ إذ إنه وحده يشير إلى قيمة الكلمة الصرفية".

وقالا في 109: "دور النغمة هذا يلفت نظرنا إلى أن اللغات الهندية الأوروبية كانت، لثرائها بناظمها الصرفي، تملك وسائل شتى للتعبير عن الروابط التي بين الكلمات وعن دور الكلمة في الجملة".

وهذا النص من ص126: "تصنيف الفصائل النحوية عمل من أعمال الصرف العام الذي لا يزال حتى الآن ينشد من يقوم بعمله".

ص: 37

ب- ومن الصعوبات التي على الباحث العربي أن يذللها، إزالة "الأوهام" الراسخة في عقولنا نتيجة دراستنا لجوانب من النشاط اللغوي العربي القديم. وهذا عمل خطير شاق قد لا يأتي إلا بعد تقويم الدراسات اللغوية العربية بأسلوب جديد، وإلا بأن يكون عرض أصول علم اللغة الجديد عرضا يجمع إلى الدقة والصحة الوضوح والبيان، وإلا بالنص على الفروق بين التصورات المختلفة للغويين، وإلا بسوى ذلك من أمور.

ومن هذه الأوهام:

1-

أن القارئ العربي سيشرع في قراءة هذا العلم الجديد، وفي ذهنه "مسلمات" لا يسلم بها هذا العلم. ومن هذه "المسلمات" ما يمس جوهرية "كأقسام الكلام"، فالكلمة عندنا "اسم" أو "فعل" أو "حرف"، ونحن نرى أن هذا التقسيم عقلي عام، بمعنى أنه صادق على جميع اللغات ماضيها وحاضرها ومستقبلها1.

ولكن الدراسة اللغوية الحديثة ترى أن هذا التقسيم لا يتصف بصفة "العموم". وترى أن المرجع في تقسيم الكلمة هو اللغة موضوع الدرس، فقد لا يصدق على لغة ما يصدق على أخرى، أي أن تقسيم الكلمة ينبغي أن تحدده

1 انظر كتب النحو العربية في تعريف الكلمة. ونحن هنا ننقل نصا شائعا لابن هشام الأنصاري المصري "المتوفى سنة 761هـ". عن كتابه "شرح شذور الذهب""تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر وطبع المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة لصاحبها مصطفى محمد، سنة الطبع غير مذكورة، ص6".

قال ابن هشام يشرح قوله في المتن إن الكلمة اسم وفعل وحرف: "قلت: الكلمة جنس تحته هذه الأنواع الثلاثة لا غير، أجمع على ذلك من يعتد بقوله، قالوا: ودليل الحصر أن المعاني ثلاثة: ذات، وحدث، ورابطة للحديث بالذات فالذات الاسم، والحدث الفعل، والرابطة الحرف، وأن الكلمة إن دلت على معنى في غيرها فهي الحرف، فإن دلت على زمان محصل فهي الفعل، وإلا فهي الاسم".

ثم أورد ابن هشام عقب هذا مباشرة قول ابن الخباز الذي ذهب إلى انقسام الكلمة إلى اسم وفعل وحرف ليس قاصرا على اللغة العربية، بل هو ماثل في جميع اللغات لأن الأساس الذي قام عليه هذا التقسيم أساس "عقلي". ولما كان ذلك كذلك فاللغات في هذا سواء، أي أن الكلمة في أي لغة من اللغات جنس تحته هذه الأنواع الثلاثة: الاسم والفعل والحرف.

قال ابن هشام "ص6":

"قال ابن الخباز: ولا يختص انحصار الكلمة في الأنواع الثلاثة بلغة العرب؛ لأن الدليل الذي دل على الانحصار في الثلاثة عقلي، والأمور العقلية لا تختلف باختلاف اللغات".

ص: 38

طبيعة الاستعمال اللغوي في كل لغة، لا أن يبدأ درس لغة من اللغات بالبحث عما فيها من "اسم" و"فعل" و"حرف"1.

2-

ومن أخطر ما رسخ في عقولنا عدم التمييز بين الدراسة الوصفية والدراسة التاريخية للغة.

ونحن نعتز بعربيتنا اعتزازا يخيل إلينا أنها لم تتغير منذ أن نزل القرآن الكريم، أو أنها لم تتغير إلا في أقل القليل، فنحن في دراسة مسألة ما قد نستشهد بشاهد جاهلي إلى جوار شاهد من صدر الإسلام، وإلى جوار شاهد عباسي وهكذا.

ونحن في حاجة إلى أن نتقبل أن اللغة العربية "الفصحى" في حياتها الطويلة الخصبة، مع محافظتها البالغة بوجه عام، قد طرأت عليها تغيرات في هذا الجانب أو ذاك، وأيا كان كنه هذه التغيرات، فهي في نظر العلم "تغيرات" يجب أن تدرس دراسة موضوعية منزهة من الأهواء.

والغريب في الأمر أننا ندرس "الدخيل" و"المولد" ونتحدث عن "غريب" القرآن الكريم والحديث الشريف، وعما فيها من كلمات أجنبية الأصل، وعن "تحضر" الكلام العربي، و"رقته" في بعض العصور، وعن "أساليب" عفى عليها الزمن فلم نعد نستعلمها، ونتحدث في تاريخ الأدب العربي عن الأطوار التي مر بها "أسلوب" الشعر، وعن تلك التي مر بها "أسلوب" النثر، ولكنا مع ذلك كله نحجم عن أن نقرر ذلك الحكم العام، وهو حكم بديهي صادق، رضينا أو لم نرض، ألا وهو أن اللغة العربية قد أصابها منذ نزول القرآن الكريم، حتى أيامنا هذه، تغيرات في هذا الجانب من جوانبها أو في ذاك. ونرى أن في هذا خطرا على لغتنا التي يجب علينا أن نصونها صونا للقرآن الكريم.

1 انظر الفصل الخاص "بأقسام الكلام" Parts of Speech في كتاب أوتو يسير سن "فلسفة النحو".

Otto Jespersen The philosophy of Grammar London George Allen and Unwin Ltd pp 58 71 "Reprinted 1948".

وانظر في كتاب "اللغة" لفندريس ترجمة الأستاذين الدواخلي والقصاص، الفصل الذي عنوانه "الأنواع المختلفة للكلمات" من ص155-181.

وانظر شيئا من التفصيل في هذا الموضوع عند الكلام على "الفلسفة اللغوية" في الباب الخاص بـ"موضوع علم اللغة" من هذا الكتاب.

ص: 39

ولغة القرآن الكريم مغايرة منذ نزولها للغة العرب، لم تكن كلغة الشعر الجاهلي، ولم تكن شبيهة بكلام خطباء العرب وكهانهم ولم يشبهها فيما بعد ذلك من زمان كلام من الكلام.

إن "التغيرات" التي أصابت الكلام العربي الفصيح لم تصب أصول التركيب اللغوي في كثير، فلن يضر رصدها وتسجيلها المحافظة على كتاب الله العلي القدير، ولا على آثارنا الأدبية والفكرية. بل إن رصدها فضلا عن كونه واجبا علميا، سيوسع آفاق فهمنا للغتنا وتاريخها. وإن الفهم الصحيح للغة وتاريخها، من أولى الخطوات اللازمة عند النظر في "صونها" أو "الارتقاء" بها، أو "تطويعها" لتجاري مقتضيات العصر الحديث وحضارته.

إن الملاحظة الصوتية لنقل الكلام العربي الفصيح كما يتمثل في الأقطار العربية المختلفة لحاكمة بأن نطقه في مصر يختلف عن نطقه في العراق، ونطقه في العراق يغاير نطقه في ليبيا أو تونس أو الجزائر أو المغرب.

إن دراسة وجوه الخلاف في نطق الكلام العربي الفصيح في الأقطار العربية المختلفة ليس يعني بحال من الأحوال الدعوة إلى تفتيت "الوحدة العربية" أو إلى إضعافها. وأعجب ما في الأمر أنا لا نتخذ ما بين العرب من خلافات في هيئات الجسوم وسمات الوجوه، ولا نتخذ ما بين بلداتهم من خلافات في الأجواء والأنهار والأرضين، ولا ما بينهم من خلافات في الأزياء والمآكل والمشارب والزينات، نحن لا نتخذ ذلك كله أو شيئا منه مبررًا للحكم على من يجهر به بأنه "رجعي" أو "استعماري" أو "ضيق الأفق"!. ولكن أكثرنا لا يقبل التصريح بظاهرة يسيرة صادقة فيما يتعلق بكلام العرب! ويتصور أن هذه الملاحظة وأشباهها "ستقضي" على العربية شر قضاء، أو ستصيبها بجرح بليغ، ولا يدري أنه بذلك يحكم على نفسه بأنه يجهل كيف تحيا اللغات وتتطور.

ص: 40

ولو قال قائل: إن أوجه الخلاف بين الكلام العربي الفصيح في الأقطار العربية المختلفة لا تقتصر على خلافات في النطق "من حيث مخارج بعض الأصوات، ومواضع "الارتكاز" و"النبر" إلخ.." بل تتسع حتى تشمل المفردات والعبارات، لكان ما يواجه به من هجوم أقسى مرات ومرات مما يواجه به صاحب القول الأول1.

1 إن النظر في لغة الصحافة العربية لكفيل ببيان أوجه الخلاف بين البلاد العربية المختلفة في تسمية بعض المسميات، وفي استعمال تركيبات خاصة. ومن هذه المسميات والتركيبات ما يدرك القارئ العربي، من غير أهل البلد صاحبة الجريدة أو المجلة، معناه لأول وهلة، ومنه ما قد يدرك معناه على وجه من وجوه التقريب، ومنه ما يحتاج في إدراك معناه إلى عون من أهل البلاد أو مشاركة في حياتهم.

ومن أمثلة هذه المفردات استعمال لفظ "الجامعة" في تونس بمعنى "الرابطة" أو "النقابة" العمالية. وقد روى لي نفر من طلبتي بكلية الآداب والتربية "بالجامعة" الليبية -وكنت منتدبا للتدريس بها- أنهم كانوا في مرة في رحلة "جامعية" إلى تونس وكانوا يركبون "حافلة" الجامعة" أي "أوتوبيس" الجامعة" وكان مكتوبا على الحافلة "الجامعة الليبية" فكان كثير ممن يستقبلهم من أهل تونس يظن أنهم "نقابة" من نقابات العمال الليبيين.

ويستعمل التونسيون كذلك "الفلاحة" بمعنى "وزارة الزراعة".

وهذه مفردات عراقية تستعمل في الفصحى بما لا نستعمله في مصر، ومنها ما لا نكاد نستعمله الآن. وقد جمعتها من مناقشاتي مع صديقي العراقيين الأستاذ الدكتور جميل سعيد، والدكتور يوسف عز الدين:

"محاسب" في العراق عندما يقال "محاسب الكلية" هو نظير "معاون" الكلية في مصر، أما "معاون" الكلية في العراق فتعني مساعد عميد الكلية.

"ملاحظ" تدل في العراق على رئيس الكتاب في أي موسسة حكومية.

"الجابي" وجمعها "الجباة" تقابل في العراق "الكمساري" في مصر.

"البرق" العراقية نقول عنها في مصر "التلغراف".

"رزمة" يستعملها العراقيون بمعنى "طرد" يرسل بالبريد "وجمعها "رزم".

ويقولون "دائرة" الرزم، فالدائرة عندهم تستعمل مقابلة لقسم من أقسام "مصلحة" حكومية وما أشبه.

و"الصف" في العراق، كما هو الحال في سوريا، بمعنى السنة الدراسية، ولما قامت الوحدة بين مصر وسوريا بدئ في توحد الكثير من المفردات والمصطلحات، فأخذت كتب وزارة التربية والتعليم التي تطبع في القاهرة تقول:"تلاميذي الصف الخامس" وكانت قبلًا تقول: "تلاميذ السنة الخامسة".

وإذ قيل: "معلم" في العراق أدرك السامع أن المقصود من يقوم بالتعليم في المدارس الابتدائية، أما إذا قيل:"مدرس" فهو يدرك أن المقصود مدرس بالمدرسة الثانوية.

و"الماعون" في العراق، وجمعها "المواعين" بمعنى "الطبق".

و"اللبن" تعني اللبن "تخثر"، أما اللبن المحلوب فهو "الحليب" ونحن في مصر ندل على "الحليب" بالحليب أو اللبن. "والاستعمال العراقي هو السائد في ليببا".

ويستعملون "خائر" بمعنى "لبن زبادي""والأكثر في الاستعمال الكتابي أن يدلوا عليه بـ"لبن" أما "خائر" فهي زيادة للتدقيق".

و"العلبة" في العراق تطلق على الآنية الخشبية التي يخثر فيها اللبن، ولا تطلق على "علبة" من صفيح "كما نستعملها في مصر" وتطلق على علبة من الورق المقوي فيقال:"علبة" سجائر كما تقول في مصر. =

ص: 41

ونسي هؤلاء أن معرفة هذه الأوجه الخلافية خطوة أولى في سبيل التعريف بها تيسيرا على أبناء العربية في مختلف أقطارها، وقد يؤدي هذا التعريف إلى التقريب أو التوحيد.

3-

ومن أخطر ما هو راسخ في أذهان الناشئة من دارسي اللغة عندنا، تصور "العامية" أو "العاميات" تصورا يكتنفه الخطأ أو يلابسه الوهم، فالعامية عندنا "منحطة" أو صورة فاسدة من الكلام العربي "الفصيح""الصحيح". ولقد يشتد الوهم بجماعة منهم فيرى أنها لا تجري على "قواعد" أو أصول، ولا يسهل عليه أن يتصور أنها باعتبارها "لغة" كأية لغة يمكن الكشف عن قواعدها، ووصف حقائقها، وأن في حيز الإمكان أن تصبح لهجة من اللهجات "العامية""لغة عامة مشتركة"، أو "لغة أدبية فصيحة" في يوم من الأيام. ومعنى هذا أن مفهوم العلاقة بين "اللغة" و"اللهجات". ومفهوم تطور اللغات لا يزالان غريبان على أذهان كثير من طلابنا.

4-

ومن الأوهام العظيمة المتمكنة في أنفس الغالبية من طلاب اللغة عندنا، عدم التفريق بين "النحو" وبين "اللغة" التي يدرسون نحوها، حتى إن معظمهم ليظن أن العربية الفصحى هي هذا النحو، أو أن العرب كانوا فصحاء لأنهم كانوا قادرين على أن يتكلموا هذا الكلام "المعرب""الفصيح" و"الصحيح" دون دراسة للنحو!.

= أما كلمة "ثوب""وجمعها "ثياب" فهي تدل في العراق على صنف من الثياب هو "القميص الإفرنجي". و"نداف" جمعها "ندافون" وتجمع في العامية العراقية على "نداديف" بمعنى "منجد" "الصانع الذي يضرب القطن ويصنع "المراتب" و"المخدات"

إلخ".

ويدلون على "الجزار" في العراق بكلمة "قصاب""والأكثر في مصر أن نستعمل اللفظ الأول، أما الثاني فقد يقتصر استعماله على الكتب المدرسية وما شابهها". و"العلوة" بمعنى سوق الخضراوات والفواكه. يقولون: امتلأت "علاوي المخضرات" ويقولون: "علاوي الحنطة والشعير"، أي محلات بيع الحنطة والشعير وخزنها.

ويقصدون بقولهم: "مخضر""وجمعها "مخضرات" ما ندل عليه بقولنا: "خضار".

و"الرقي" في العراق هو ما نسميه في مصر "البطيخ" يقولون: اشتريت رقية أو ثلاث رقيات، أما البطيخ فيستعملونها لما نطلق عليه في مصر "الشمام".

ومن أمثلة التركيبات اللغوية الخاصة التي يستعملها في لغة الكتابة قطر عربي، ولا يستعملها آخر ما لاحظته في صيغة الدعوات إلى حضور الحفلات والاجتماعات في ليبيا. يقولون مثلا: "نتشرف بدعوتكم لحضور حفل الشاي الذي يقام على شرف الأستاذ

عند الساعة

".

ونحن في مصر نكتب بدل "على شرف"، "تكريما" أو "احتفالا"

إلخ بدل "عند الساعة

". وقد يكتبون أحيانا، "على الساعة

" "في الساعة".

ص: 42

وإنهم ليقدسون النحو قدسية بالغة، فلو أخبرتهم أن هذا "النحو" كان من الممكن أن يتخذ صورة أخرى لو أنه كان قد أقيم على أسس أخرى، وأنه قد يأتي عالم فيضع للعربية "نحوا" جديدا يغاير هذا النحو المألوف الذي نتدارسه لاختلط عليهم الأمر ولم يحسنوا إدراكه.

فلا بد من أن نظهر لهم أن آية لغة من اللغات أو لهجة من اللهجات، أو أية صورة من صور الكلام الذي تستعمله جماعة من الجماعات "منظمة" بطبعها، تحتوي على "قواعد" خاصة بها، وأن مهمة اللغوي أو النحوي أن يصف هذه اللغة أو اللهجة أو هذه الصورة من صور الكلام، مهمته أن يكشف عن حقائقها و"قواعدها"، أن يدرك ويقرر طرق إصلاحها. ولما كان اللغوي أو النحوي واصفا محللا دارسا لشيء منظم بطبعه، جاز أن يختلف تقرير هذا الوصف والدرس والتحليل من عالم إلى عالم، حسب الأسس التي يقيم عليها كل درسه، والمناهج التي يتبعها، والوسائل التي يصطنعها، فـ"النحو" وكثير غير النحو من وجوه دراسة لغة من اللغات وصف لجانب من جوانب هذه اللغة، أو محاولة للوصف.

ولو ضربنا مثلا من عالم الطبيعة قاصدين التقريب والتوضيح لا التشبيه والتمثيل لقلنا أن "المجموعة الشمسية" تسير على نظام معين منذ الأزمان القديمة، فهي "منظمة" في ذاتها، ولو عجزنا نحن عن إدراك هذا النظام فليس معنى هذا أنها غير منظمة، ولو اتضح لنا بعد زمن أن في وصفنا لهذا النظام وتقريرنا لحقائقه خطأ أو أخطاء، فليس يعني هذا، ولا ينجم عنه بالضرورة، أن نظامه قد أصابه الاختلال، وعراه الخطأ. إنها شيء منظم بطبعه، ثم يأتي عالم فيصف هذا النظام، أو يحاول وصفه حسب ما أوتي من "علم".

وإنا لنخطو خطوة أخرى في سبيل التقريب فنقول: إن القدماء من الجغرافيين كانوا يعتقدون أن الأرض "مسطحة" وكانوا يرتبون على ذلك نتائج كثيرة، ثم تغيرت هذه النظرة و"أثبت" العلماء أن الأرض "كروية"، فليس معنى ذلك أن الأرض كانت مسطحة لما كان يُظن أنها كذلك، أو أنها انقلبت كرة لما رؤي ذلك. إنها منظمة بطبعها، وعلى صفات وخصائص معينة، ومهمة الفلكي أو الجغرافي أن يحاول وصف هذا النظام، وقد يخطئ لقصور وسائله عن إدراك "الحقيقة"، ولقد يختلف عالمان يصطنعان نفس الوسائل في تقرير نتائج هذه الدراسة.

ص: 43

وإليك مثالا آخر القصد منه التقريب والتوضيح كذلك، وهو مستمد هذه المرة من الميدان الفسيولوجي: إن كلا منا يحمل أجهزة لها نظمها وأصولها، ولكن جهلنا بهذه النظم لا يعني أن هذه الأجهزة، في الأحوال العادية، لا تؤدي وظيفتها، أو أنها تخطئ في تأدية هذه الوظيفة، أو أنها "لا تجيد" تأديتها. إن جهل إنسان عادي بكيفية حدوث عملية الإبصار لا يعني أنه لا يبصر، كما أن جهله بكيفية حدوث السمع، واللمس، والشم، والهضم والدورة الدموية، لا ينتج عنه أن هذ الوظائف لا تتحقق في جسمه. إن كلا منا يحمل هذه الأجهزة المنظمة في ذاتها، ثم يأتي العلماء المتخصصون فيقررون حقائق هذه النظم. ويظهرنا تاريخ العلوم على أن هذا الوصف كان قاصرا أو خاطئا في وقت من الأوقات لقصور الوسائل أو الخطأ في هذا الأساس أو ذاك، أو لغير هذا من الأسباب، صحح ودقق من بعد لما حسنت الوسائل، ودقت المناهج والأصول وهكذا. وقد تصل الدراسة العلمية مستقبلا إلى إضافة تفسيرات كثيرة إلى ما نعرفه الآن، أو إلى تغيير في بعض الأصول، وهكذا.

ص: 44