المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من نظرية اللغويين في علم الدلالة - علم اللغة مقدمة للقارئ العربي

[محمود السعران]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌تقديم

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌تمهيد

- ‌دراسة اللغة علم

- ‌علم اللغة في الشرق الأدبي

- ‌ صعوبات في الطريق:

- ‌ علم اللغة يدرس "اللغة

- ‌ حول البحث في نشأة اللغة:

- ‌ اللغة "كلام

- ‌ عن طبيعة اللغة "الكلام" وظيفة إنسانية "غير غريزية" و"غير موزونة" الكلام وظيفة ثقافية مكتسبة:

- ‌ اللغة نظام من العلامات الاصطلاحية ذات الدلالات الاصطلاحية

- ‌ علم اللغة يستعين بعلوم أخرى:

- ‌ علم اللغة وعلم النفس:

- ‌ الفلسفة اللغوية:

- ‌علم اللغة انعكاس أو استنباطي

- ‌الباب الثاني: علم الأصوات اللغوية

- ‌مدخل

- ‌ لمحة تاريخية:

- ‌ علم الأصوات اللغوية في صورته الحاضرة:

- ‌ الدراسة الصوتية الآلية:

- ‌ الكتابة الصوتية

- ‌ حاجتنا إلى علم الأصوات اللغوية:

- ‌ من أسباب تخلف دراستنا اللغوية:

- ‌النطق

- ‌أعضاء النطق

- ‌ آلية النطق

- ‌ الصوت الكلامي

- ‌ تصنيف الأصوات:

- ‌ عن الأصوات في "الكلام

- ‌الباب الثالث: النحو

- ‌نحن نفكر بجمل

- ‌من التحليل الفونولوجي إلى التحليل النحوي

- ‌النحو الوصفي

- ‌المورفولوجيا

- ‌ منهج المورفولوجيا ومنهج النظم:

- ‌الفضائل أو الأقسام النحوية

- ‌ عن أصول النحو الصرفي:

- ‌ النحو المقارن:

- ‌الباب الرابع: علم الدلالة أو دراسة المعنى

- ‌قمة الدراسات اللغوية

- ‌ قصور المعنى "القاموسي

- ‌تحصيل المعنى

- ‌ توصيل الكلام أو المضمون المنطقي والمضمون النفسي:

- ‌تغير المعنى

- ‌التغير الانحطاطي أو "الخافض

- ‌التغيير الدلالي والاستعمال النحوي

- ‌ التغير الدلالي والتاريخ الثقافي

- ‌مناهج دراسة المعنى

- ‌نشأة علم الدلالة "ميشيل بيرييل

- ‌ دراسة تغير المعنى بعد برييل:

- ‌ كتابات غير اللغويين:

- ‌من نظرية اللغويين في علم الدلالة

- ‌الباب الخامس: تاريخ الدراسات اللغوية

- ‌العصور القديمة

- ‌ العصور الوسطى وعصر النهضة:

- ‌القرنان الثامن عشر والتاسع عشر

- ‌القرن الثامن عشر

- ‌ القرن التاسع عشر:

- ‌ القرن العشرون

- ‌معجم المصطلحات

- ‌المراجع

- ‌المراجع الإنجليزية

- ‌المراجع الفرنسية:

- ‌المراجع العربية:

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌من نظرية اللغويين في علم الدلالة

‌من نظرية اللغويين في علم الدلالة

د- من نظريات اللغويين في علم الدلالة:

آثرنا أن نتعقب التعريف بظهور الدراسة الدلالية عند ميشيل برييل بالتعريف بالدراسات الدلالية التي قام بها علماء ومفكرون غير لغويين، فهذا النسق من العرض أوضح في إبراز مشكلة المعنى، وتعدد وجوهها، وتعقدها. ونستكمل الآن التعريف بأشهر الدراسات الدلالية التي وضعها لغويون متخصصون.

1-

المدرسة الاجتماعية السويسرية الفرنسية "نظرية دي سوسير 1":

1-

يعد دي سوسير مؤسس المدرسة الاجتماعية في الدراسات اللغوية. ولقد كان له ولا يزال أثر بالغ في دارسي اللغة ولا سيما المدرسة الفرنسية السويسرية: فكتاب فندريس "اللغة" مثلا متأثر بنظريات دي سوسير، وهذا هو شأن كثير من كتب "مييه"2 ومن كتب سواهما.

2-

يبني دي سوسير نظريته الاجتماعية في اللغة على أساس نظرية دوركيم3 الاجتماعية، ودوركيم يعتبر ما يسميه "نشاط الجماعة" أو "النشاط الجماعي" مستقلا عن أي فرد من الأفراد الذين ينتمون إلى المجتمع: إن للفرد عند دوركيم وجودا خاصا به. ودوركيم يقرر أن "الظواهر الاجتماعية"4 ذات وجود خاص بها: واللغة ظاهرة من جملة الظواهر الاجتماعية. ويرى دوركيم أن لخصائص السلوك أو لـ"سماته" وجودا مستقلا، وأن الأنواع العامة للسلوك

1 Ferdinand de saussre Cours De Linguistique Generale.

2 Antoine Meillet.

3 Durkheim.

انظر الفصلين الأولين من كتابه

Regles de Le Methode de Sociologie.

4 Les Faits Sociaux.

ص: 244

الاجتماعي لا تعدو أن تكون "تعميمات". وإن ما قرره "دوركيم" عن الظاهرة الاجتماعية1 يصدق على "اللغة" في نظرية دي سوسير اللغوية.

3-

ويصطنع دي سوسير "ثالوثا" خاصا يتضمن تصورات ثلاثة متكاملة يعبر عنها بهذه المصطلحات: Le Langage و La Langue و La Parole2 وفهم هذه التصورات أمر أساسي أولي لفهم نظرية دي سوسير في اللغة.

1-

إن ما يسميه دي سوسير Le Langage "اللغة" هو اللغة في أوسع معانيها، أي اللغة باعتبارها ظاهرة إنسانية عامة.

2-

أما ما يدعوه La Langue "اللغة المعينة: أي العربية أو الإنجليزية إلخ". فهو يضم على وجه الخصوص نظام المفردات. والنحو في أي عصر من عصور تاريخ لغة معينة. و Langue أي "هذه اللغة" أو تلك"، عند دي سوسير، "جماعية"3. و"اجتماعية"4. قال دي سوسير: إن هذه المجموعة من الكلمات بمعانيها الخاصة، وهذه "الفصائل" أو "التقسيمات" النحوية متضمنة في عقل المتكلم وهي "مستقلة" عن الفرد، وغير قابلة للتغير عند الفرد5. إن La Langue أي "اللغة المعينة" "اجتماعية" في جوهرها ومستقلة عن الفرد، وهي "مستودع العلامات". إن الـ "Langue "= اللغة المعينة" هي مجموع العادات اللغوية التي تتحقق فيما يسميه دي سوسير La Parole "= الكلام"انظر ما يلي". وهي "خارجة"6 عن الفرد.

3-

أما التصور الثالث الذي يعبر عنه دي سوسير بكلمة La Parole "الكلام" فيعني به "إظهار" الفرد "للغة" La Langue و"تحقيقه إياها" عن طريق "الأصوات" الملفوظة، أو عن طريق "العلامات" المكتوبة. وما يدعوه "دي سوسير" La Parole "الكلام""فردي"7. هو واقع تحت سيطرة الفرد.

1 Le Fait Social.

2 يجب التفريق بين استعمال دي سوسير ومن يدينون بنظريته لهذه المصطلحات وبين استعمال سواهم لها في غير ما يريد دي سوسير.

3 Collective.

4 Sociale.

5 Cours De Linguistique Generale p. 37.

6 Externe.

7 Cours pp. 20-32.

والفصل الأول من

Otto Jespesen Mankind Nation And lndividual From a Linguistic Point of View London 1946.

وقد عرب هذا الكتاب زميلي وصديقي الدكتور عبد الرحمن أيوب ونشره بعنوان: "اللغة بين الفرد والمجتمع"، ملتزم الطبع والنشر مكتبة الأنجلو المصرية، مطبعة لجنة البيان العربي، القاهرة 1954.

ص: 245

ويؤثر كثير من اللغويين أن يعتبروا الـ Langue والـ Parole من وسائل وصف اللغة لا مضمونين كلاهما مستقل عن أخيه.

4-

يفرق دي سوسير بين ما يسميه "القيمة اللغوية" للكلمة وبين ما يسميه "المقصود" من الكلمة. ويكفي لدراسة القيمة اللغوية في رأيه أن ندرس عنصرين هما "الفكرة" -التي تدعو "صورة سمعية" أو "أصواتا" معينة- "والصورة السمعية" التي تدعو "الفكرة".

وإن معنى كلمة من الكلمات عند دي سوسير هو ارتباط متبادل أو "علاقة متبادلة" بين الكلمة، أو "الاسم" وهي "الصورة السمعية" وبين الفكرة.

إن الكلمة "علامة لغوية" ونحن عندما نفرق تفريقا أساسيا بين فكرتين فنحن نستعمل لذلك، "علامتين لغويتين" مختلفتين، فالتفكير، دون كلمات "عائم" ويرى دي سوسير أن "العلامة اللغوية" لا تخلق وحدة بين اسم ومسمى، ولكن بين فكرة وصورة سمعية1. و"المقصود"2 يقابل "الرمز"3 أو العلامة"، والعلامة من ناحية أخرى تقابل سائر العلامات الموجودة في اللغة موضوع الدرس، وقيمة كل رمز أو علامة تتوقف على وجود سائر الرموز. وضرب دي سوسير لذلك مثلا بقطعة من ذات الخمسة فرنكات: هذه القطعة يتأتى استبدالها بكمية معينة من شيء كالخبز مثلا، ونستطيع كذلك أن نقارنها بقيمة مماثلة من نفس نظام العملة، كقطعة ذات فرانك واحد مثلا، أو قطعة من عملة أخرى كالدولار.

5-

ومما تجدر الإشارة إليه أن "دي سوسير" صاحب فكرة تمييز "الدراسة الوصفية" للغة من "الدراسة التاريخية" بها "وقد عرفنا بهاتين الدراستين

1 انظر التفصيلات في كتاب دي سوسير:

Cours pp. 98 pp. 155-169.

وانظر تعريف الدكتور تمام حسان برأي دي سوسير هذا في "مناهج اللغة" ص243-246.

2 Signifie.

3 Singigiant.

ص: 246

ص241-245" وقد طبق هذا التمييز عند نظره في المعنى، فحرص على وجوب التفريق بين دراسة المعنى دراسة "وصفية" "ثابتة" أي في مرحلة معينة، أو "حالة" معينة تجرد من تاريخ لغة من اللغات وتدرس بغض النظر عما قبلها وعما بعدها من "مراحل" أو "حالات" وبين دراسة المعنى دراسة "تطورية".

2-

المدرسة السلوكية 1 الأمريكية؛ بلومفيلد:

1-

إن النظر في اللغة وفي دراستها على أسس من "المذهب السلوكي"2 في علم النفس ظهر وازدهر في الولايات الأمريكية بوجه خاص. وخير ممثل لهذا الاتجاه في الدراسات اللغوية هو بلومفيلد.

تأثر بلومفيلد، وأكثر من تبعه من اللغويين في اتجاهه السلوكي، بسلوكية ألبرت بول فايس كما عرضها في كتابه "الأساس النظري للسلوك الإنساني"3.

يرى السلوكيون4 أن "السلوك الإنساني"5 يوصف أكمل وصف وأدقه عن طريق اعتبار الظواهر الفسيولوجية وغيرها من الظواهر المادية التي تصحب سلوك الأفراد. ولا يتأتى عندهم دراسة "الظواهر الإنسانية"6 دراسة علمية إلا بهذا الطريق. ولما كانت اللغة "ظاهرة إنسانية" فيصدق على دراستها ما يصدق على دراسة سائر "الظواهر الإنسانية".

ولذلك ينبغي عند السلوكيين شرح مصطلحات مثل "الإرادة" و"الشعور" و"الفكرة" و"الانفعال" إلخ، وترجمتها إلى لغة تتضمن حالة فسيولوجية أو "فيزيقية" أو كلتيهما. ولذلك نجد في دراسات بلومفيلد اللغوية مصطلحات مثل

1 Behaviouristic School.

2 Behaviourism.

3 Albert Puaul Weiss A Theoretical Basis of Human Behavioour.

ليس هذا الكتاب أحدث ما كتب عن "السلوكية" ولكنه الكتاب الذي بنى عليه بلومفيلد وأكثر من تبعه اتجاههم "السلوكي" في فهم اللغة، وطرق دراستها.

4 Behaviourists.

5 Human Behaviour.

6 Human Phenomena.

ص: 247

Response "= الاستجابة" Substitut Respeonse ""الاستجابة البدلية"، و Sub stitute Stimulus "المثير البدلي".

وعندما تحدث بلومفيلد عن معنى الكلمة وعن معنى "النطق" عامة قال: إنه ينبغي أن يعرف عن طريق أحداث عملية أي فسيولوجية أو فيزيقية مرتبطة بها، فمعنى "الجوع" مثلا في قولي:"أنا جائع" يعرف بالتقلص العضلي وما يحدث في المعدة من إفرازات، وما قد يصحب ذلك من عطش

إلخ، ويرى بلومفيلد أن "الأفكار" و"التصورات" كذلك ينبغي أن يعاد وصفها بألفاظ فيزيقية، وحتى "الحب" و"الكره" وما إليهما ينبغي وصفهما بمثل هذه الطريق. ولقد قال بلومفيلد: إننا نستطيع أن نعرف كلمة مثل "الملح" عن طريق عناصره الكيمائية المكونة له.

2-

والمثال المشهور الذي أورده "بلومفيلد" هو المثال المعروف بـ"جاك"1، وجيل1، و"التفاحة". نفترض أن "جاك" و"جيل: يسيران في طريق، و"جيل" تستشعر الجوع. ترى جيل تفاحة على شجرة، فتحدث "ضجة" بحنجرتها، ولسانها، وشفتيها: فيقفز جاك من على السور، ويتسلق الشجرة، ويقتطف التفاحة، ويحضرها لجيل، ويضعها في يدها. فتأكل جيل التفاحة.

هذه الأحداث المتتابعة موضوع للدارسة من جوانب مختلفة، ولكنا نحن، دارسي اللغة، نميز، بطبيعة الحال، "الحدث الكلامي"2 من سواه من "الوقائع" التي ندعوها "الأحداث العملية"3. وإذا نظرنا إلى هذه الواقعة من هذه الوجهة اتضح أنها تتكون من ثلاثة أقسام.

1-

الأحداث العملية السابقة على الحدث الكلامي.

2-

الكلام.

3-

الأحداث العملية التي تلي الحدث الكلامي.

ونبدأ بالأحداث العملية وهي، في هذا المثال ما يسبق الكلام وما يليه:

1 Jack Jill.

انظر Blomgield Language pp 20-26.

2 Act of Speech.

3 Practical Events.

ص: 248

الأحداث رقم 1 تتعلق بـ"جيل" بصفة خاصة: لقد كانت جائعة، أي أن بعض عضلاتها كانت متقلصة و

إلخ، وربما كانت عطشى: فكان لسانها وحلقها جافين. أثرت في عينيها الموجات الضوئية المنعكسة من التفاحة الحمراء. ولقد رأت جاك إلى جوارها، وإن علاقاتها السابقة بجاك تصبح الآن ذات أثر، فلنفترض أنهما أخ وأخت، أو زوج وزوجة. كل هذه الأحداث التي تسبق كلام "جيل" وتخصها، ندعوها "مثيرا"1 "أو "منبها" للمتكلم".

أما الأحداث العملية التي تلي كلام "جيل""وهي رقم 3". فتتعلق بوجه خاص، بالسامع "جاك" وتتكون من إحضاره التفاحة وإعطائها لجيل.

هذه الأحداث ندعوها "استجابة"2 السامع. والأحداث التي تلي الكلام تهم "جيل" كذلك، إنها تأخذ التفاحة في قبضة يدها وتأكلها.

لا يتصرف كل "جاك" وكل "جيل" بهذ الأسلوب، فلو كانت جيل تعرف من تجاربها السابقة مع جاك أنه لن يستجيب لطلبها فربما آثرت الجوع على أن تطلب إليه قطف التفاحة. وهكذا. لقد قامت جيل في هذه القصة بحركات قليلة في حلقها وفمها أنتجت ضجة قليلة هي "الكلام"، فأخذ جاك يقوم بردود الأفعال3 ولقد أدى أعمالا كانت فوق طاقة جيل، وهكذا حصلت جيل آخر الأمر على التفاحة. "إن اللغة تمكن شخصا من أن يحدث رد فعل3 عندما يتوافر لدى شخص آخر "المثير".

وهكذا يرى بلومفيلد أن "تقسيم العمل""بل تنظيم المجتمع الإنساني كله" إنما تم عن طريق اللغة4.

والآن ننظر في القسم الثاني من أقسام هذه القصة وهو "الكلام"، وهذا هو الذي يعنينا نحن دارسي اللغة بصفة خاصة، فنحن لا نهتم بالقسمين الأول والثاني إلا لما لهما من علاقة بالكلام.

1 Stimulus.

2 Response.

3 Rection.

4 Bloomfield p. 24.

ص: 249

وبالاستعانة بالفسيولوجية والفيزياء نستطيع أن ندرك كيف تمت عملية "الكلام" من الناحية الصوتية "وقد فصلنا ذلك في الأصوات اللغوية".

1-

لقد قام جهاز نطق "جيل" بحركات عضلية معينة لإصدار هذه الأصوات. والحركات العضلية التي يقوم بها المتكلم تعد "رد فعل" لدافع "مثير" -وهي في قصتنا هذه رؤية جيل للتفاحة وهي جائعة- ورد الفعل في حالتنا هذه ليس رد فعلي "عملي" كأن تحاول جيل من أن تثب من على السور وتحضر التفاحة لنفسها إنه "رد فعل بدلي لغوي"1، أي أن "الكلام" حل محل العمل الذي كان من المحتمل أن يصدر عنها. 2- ثم إن "الموجات الصوتية" الخارجة من فم "جيل" قد جعلت الهواء المحيط يضطرب على شكل موجات مماثلة. 3- وأخيرا طرقت هذه الموجات الصوتية طبلتي أذني جالك، وذبذبتهما، وأثرت هذه الذبذبات على أعصابه. "لقد سمع" جاك "الكلام". ولقد أحدث هذا السماع لدى جاك دافعا أو "مثيرا" فسلك السلوك الذي ذكرناه، كما لو كان جوع جيل ورؤيتها التفاحة قد أثرا فيه ودفعاه إلى السلوك العملي الذي سلكه: إن جاك من حيث هو شخص متكلم "أي ذو قدوة على الكلام وعلى فهم الكلام" ظهر رد الفعل عنده على نوعين مختلفين من المثيرات: أحدهما "المثيرات العملية""كالجوع ورؤية الطعام" والثاني "المثيرات الكلامية" أو "البدلية" وهي ذبذبات معينة في طبلتي أذنه.

ونحن، طلبة اللغة، يعنينا، على وجه الخصوص، "الحدث الكلامي" الذي يبدو هين الشأن في ذاته، ولكنه وسيلة لغايات كبيرة. ونحن نميز اللغة، وهي موضوع دراستنا، من الأحداث "الواقعية" أو العملية"، هذه الأحداث التي ندعوها "المثيرات"2 "وردود الأفعال"3. وإن الكلام، الذي هو هين الشأن، وغير هام في ذاته. ليعد ذا أهمية لأن له "معنى": والمعنى يتكون من الأشياء الهامة التي يتعلق به الكلام أي من الأحداث العملية "التي تكون القسمين الأول والثالث من قصة جاك وجيل والتفاحة". انتهى عرض مثال بلومفيلد.

1 Linguistic Substitute Reaction.

2 Stimule.

3 Reactions.

ص: 250

نخرج من هذا بأن بلومفيلد، مع أن "السلوكية" التي طبقها على اللغة سلوكية "آلية" يدخل في اعتباره بعض العناصر غير اللغوية المتصلة بالكلام، ويعتبرها عنصرا لازما لإدراك معنى الكلام. فالمدرسة السلوكية لا تتجاهل بعض ما نسمية العناصر "الاجتماعية" ولكنها تعبر عنها بمصطلحات خاصة بها: إنها لا تتجاهل في الحقيقة شخصية المتكلم وشخصية السامع وبعض الظروف المحيطة بالكلام: بل إن هذه المدرسة بعنايتها بتحليل المظاهر الفسيولوجية والفيزيقية خاصة قد وجهت عناية اللغويين نحو ربط المعنى بمجالات غير الكلام، مجالات تستلزم التحليل على مستويات خاصة.

3-

المدرسة الاجتماعية الإنجليزية؛ ج. ر. فيرث 1:

1-

يعتمد هذه الاتجاه من اتجاهات المدرسة الإنجليزية اعتمادا كبيرا على آراء برونسلاو مالينوفسكي العالم الأنثروبولوجي البولندي الذي ترك أثرا كبيرا في كلتا المدرستين الإنجليزيتين الأنثروبولوجية واللغوية. إن دراسات مالينو فسكي قد أدت به إلى نظريات قيمة في اللغة فيما يتعلق بدراسة "الكلام الحي" بوجه خاص: لقد وصل مالينوفسكي إلى أن اللغة ليست كما يرى التعريف التقليدي وسيلة من وسائل توصيل الأفكار والانفعالات أو التعبير عنها، أو نقلها..فمثل هذا لا يعدو أن يكون وظيفة واحدة من وظائف اللغة، ورأى أن اللغة كما يمارسها المتكلمون في أي جماعة من الجماعات إنما هي نوع من السلوك، ضرب من العمل، إنها تؤدي وظائف كثيرة غير التوصيل2.

1 انظر في التعريف بنظرية الأستاذ فيرث، ولا سيما بتصوره المعروف بـ Contetext of Situation "= سياق الحال" كتاباته الآتية:

1-

Speech Benn 1930 pp 38-43.

2-

The Techneque of Semantics Transactions of the Philogical Society 1935.

3-

Linguistics and Functional Pont of View English Studies XVl 1 February 1934.

4-

The Use and Distribution of Certain English Soungs English Studies XVll 1 Febru- ary 1935.

5-

Tongues of Men Watts Co London 1937 Chapter X.

6-

Personality And Language ln Society Socillogiacl Reveew "Journal of the lnstitu- tional Socillgy Lekbury Herefordshie England Vol XLll Section Rwo 1950.

2 شرحنا هذا بالتفصيل في كتابنا: اللغة والمجتمع: رأي ومنهج ص4-10.

ص: 251

2-

واستعمل مالينوفسكي ذلك المصطلح Context of Situation "سياق الحال""= الماجريات". نعم إن كلمة Context "= السياق" كانت متداولة بين اللغويين من قبله ولا تزال متداولة بينهم، ولكن مالينوفسكي أضفى على الاصطلاح "سياق الحال"1 معنى خالصا ليس هنا مجال للتعريف به1، ثم تطور هذا المصطلح تطورا آخر باستعمال الأستاذ فيرث له في دراسته اللغوية، و"سياق الحال" عند الأستاذ فيرث نوع من التجريد من البيئة، أو الوسط الذي يقع فيه "الكلام"، وهذا التجريد يقوم به اللغويون للوفاء بدراستهم.

و"سياق الحال" يشمل أنواع النشاط اللغوي جميعا كلاما، وكتابة.

وقد رأينا أن "بلومفيلد" السلوكي النزعة يحد "سياق الحال" بظواهر يمكن تقريرها في إطار من "الأحداث العملية". إن "سياق الحال" عند بلومفيلد مادي، ولهذا فهو يتجاهل حقائق لها شأن بالكلام.

إن "سياق الحال" أو "الماجري" هو جملة العناصر المكونة للموقف الكلامي "أو للحال الكلامية"، ومن هذه العناصر المكونة للحال الكلامية:

1-

شخصية المتكلم والسامع، وتكوينهما "الثقافي" وشخصيات من يشهد الكلام غير المتكلم والسامع -إن وجدوا- وبيان ما لذلك من علاقة بالسلوك اللغوي، ودورهم أيقتصر على "الشهوة" أم يشاركون من آن لآن بالكلام، والنصوص الكلامية التي تصدر عنهم.

2-

العوامل والظواهر الاجتماعية ذات العلاقة باللغة والسلوك اللغوي لمن يشارك في الموقف الكلامي كحالة الجو إن كان لها دخل، وكالوضع السياسي، وكمكان الكلام، إلخ.

وكل ما يطرأ أثناء الكلام ممن يشهد الموقف الكلامي من انفعال أو أي ضروب من ضروب الاستجابة، وكل ما يتعلق بالموقف الكلامي أيا كانت درجة تعلقه.

3-

أثر النص الكلامي في المشتركين، كالاقتناع، أو الألم، أو الإغراء أو الضحك، إلخ.

1 بدأ المصطلح Context of Situation عند الأنثروبولوجيين، ويرجع أصل استعماله إلى مقال للأستاذ أ. م. هوكارت.

A M Hocart The British of Jorunal of Psychology 1912.

ص: 252

وهكذا يتضح أن من أهم خصائص "سياق الحال" إبراز الدور الاجتماعي الذي يقوم به "المتكلم" وسائر المشتركين في "الموقف الكلامي".

4-

وإن نظرية اللغة التي تقوم على التصور الخاص بـ"سياق الحال" تشمل جميع أنواع الوظائف الكلامية، بمعنى أنها بهذا التصور تستطيع أن تدرس وتفسر جميع أنواع الوظائف الكلامية، وليست مقصورة -كأكثر النظريات القديمة- على إبراز نوع أو أكثر ليس غير من أنواع الوظائف الكلامية.

إن المعنى عند الأستاذ فيرث كل مركب من مجموعة من الوظائف اللغوية، وأهم عناصر هذا الكل هو الوظيفة الصوتية، ثم المورفولوجية، والنحوية والقاموسية والوظيفية الدلالية لـ"سياق الحال". ولكل وظيفة من هذه الوظائف منهجه الذي يراعى عند دراستها.

والحقيقة أن هذ الطريقة من طرق دراسة المعنى ترسم "تحليلات" عملية للمعنى على مستويات مختلفة.

ومما تجدر ملاحظته أن التحليلات اللغوية كلها على المستويات المختلفة ليست المعنى ولا هي دراسة المعنى. فلا بد للوصول إلى المعنى من الربط بين النتائج التي توصل إليها هذه التحليلات جميعا ربطا يدخل في اعتباره سائر عناصر "سياق الحال".

وهكذا فالأستاذ فيرث يرى أن الوصول إلى معنى أي نص لغوي يستلزم:

1-

أن يحلل النص اللغوي على المستويات اللغوية المختلفة "الصوتية والفونولجية، والمورفولوجية، والنظمية، والمعجمية".

2-

أن يبين "سياق الحال""= الماجريات": شخصية المتكلم، شخصية السامع، جميع الظروف المحيطة بالكلام

إلخ.

3-

أن يبين نوع الوظيفة الكلامية: تمن، إغراء

إلخ.

4-

وأخيرا يذكر الأثر الذي يتركه الكلام، "ضحك، تصديق، سخرية

إلخ"1.

1 انظر تعريفنا بدراسة الوظيفة الاجتماعية للغة في "اللغة والمجتمع: رأي ومنهج" ص11-17 وانظر دكتور تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص251-279.

ص: 253

إن الدراسة الاجتماعية للدلالة تبعد بطبيعتها عن الثنائية التقليدية، ثنائية الجسد والروح، أو الكلمة والمضمون، إنها تعد الكلام نوعا من السلوك الاجتماعي ذا علاقة بعناصر أخرى غير لغوية.

ص: 254