الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5-
حاجتنا إلى علم الأصوات اللغوية:
أ- هذا العلم، علم الأصوات اللغوية، ما موضعه من سائر الدراسات اللغوية؟ إن بعض المحدثين من دارسي العربية في الشرق العربي ممن لم يتصلوا به، وممن اتصلوا به عن بعد، يعدونه ترفا علميا قاصدين بذلك أنه يقدم إلينا معلومات عن أصوات اللغات لا بأس على اللغوي إن هو لم يعرفها، ولا ضرر على الدراسة اللغوية إذا هي أهملتها، أما التخصص في هذا العلم فهو، في رأيهم، كالانصراف إلى جمع التحف الغريبة والطرف النادرة انصرافا لا يقصد من ورائه إلا إشباع لذلة التملك، وإلا المباهاة والمفاخرة.
والحق أن هذه نظرة غير سليمة إلى علم هو حجر الأساس لأي دراسة لغوية، إنها نظرة تفصح عن إدراك غير سليم لحقيقة "اللغة"، ثم هي نظرة لا تحسن تقويم تراثنا العربي في الدراسات اللغوية: فقد بينت في صدر هذا الباب أن أوائل الباحثين في العربية كانوا يعرفون لهذه الدراسة قدرها، وأنهم عليها بنوا آراءهم، أو الكثير من آرائهم، في إصلاح الكتابة العربية، وفي وضع العروض والنحو، والصرف، والمعاجم وفي تدوين القراءات القرآنية.
ب- وهذا بيان موجز لقيمة هذا العلم، وما يمكن أن يؤديه من خدمات.
1-
لا يمكن الأخذ في دراسة لغة ما، أو لهجة ما، دراسة علمية ما لم تكن هذه الدراسة مبنية على وصف أصواتها، وأنظمتها الصوتية. فالكلام أولا، وقبل كل شيء سلسلة من الأصوات، فلا بد من البدء بالوصف الصوتي للقطع الصغيرة، أو للعناصر الصغيرة، أقصد أصغر وحدات الكلمة، هذه الوحدات التي تتألف منها "المقاطع"1 على أنظمة معينة تختلف باختلاف اللغات، المقاطع التي قد يكون بعضها، دون ائتلاف مع غيره، كلمات، والتي تتكون أكثر الكلمات من ائتلاف عدد منها. ما المقاطع التي يأتلف بعضها مع بعض؟ وعلى أي أنظمة صوتية يجري هذا الائتلاف؟ وما الذي يطرأ على بعض الأصوات عندما تأتلف المقاطع في الكلمات؟ ثم ما الذي يحدث عندما تلي الكلمة الكلمة في الكلام
1 Syllables.
المتصل؟ هذا كله، وكثير غيره لا بد من إدراكه قبل الشروع في وصف أية لغة من اللغات. من المحال إذا دراسة بنية الكلمة دون التحقيق الصوتي للعناصر المكونة للكلمات، كما أن دراسة "نظم"1 الكلام قاصرة ما لم يراع فيها دراسة الصور التنغيمية2 مثلا. والدراسة الدلالية3، أي دراسة المعاني لا يمكن أن تثمر ما لم ترتكز على دراسة الصور الصوتية والتنغيمية.
2-
ولأفصِّل شيئا ما في بيان كيف أن الدراسة الصوتية جزء أصيل من دراسة المعنى. قد تكون "الفونيمات" المكونة لكلمة مطابقة للفونيمات المكونة لأخرى، أي قد تتطابق كلمتان من حيث الوحدات الصوتية الصغرى المكونة لكل منهما، ولكنا نجد أن موضع "الارتكاز"4 في هذه الكلمة غير موضع الارتكاز في تلك، أو أن إحداهما تنطق بارتكاز في موضع والثانية بلا ارتكاز واضح، ومعنى هذه غير معنى تلك، ومن ذلك في الإنجليزية كلمتا Re،cord و Record: ففونيمات الأولى هي فونيمات الثانية ولكن بينهما خلافا في موضع الارتكاز، فالارتكاز في إحداهما على المقطع الأول، وفي الثانية على المقطع الثاني، وإحدى الكلمتين اسم والثانية فعل. ومعنى هذا أن الارتكاز قد يستعمل استعمالا وظيفيا للتفريق بين المعاني.
والأمثلة كثيرة على أن الكلمة الواحدة تدل على أكثر من معنى دون تغيير يلحق بفونيماتها، ولكن بسبب الاختلاف في التنغيم5. وقد يضاف إلى الاختلاف في التنغيم أحيانا الاختلاف في موضع الارتكاز، أو تغيير طول الأصوات الصائتة، أو هذان معا، أو غير ذلك. من هذا كلمة "الله" في العامية المصرية: فهي تنطق بصور كثيرة لكل منها معناها، فأنا عندما أستعملها مريدا إظهار الإعجاب أنطق بها بصورة تختلف عن نطقي إياها عندما أريد التعبير بها عن المعبود الواحد، وأنطقها بصورة مخالفة لهاتين عندما أريدها مرادفا لـ"أيصح هذا؟ أنفعل هذا؟ " فهذه كلمة واحدة من الناحية الفونيمية، ولكن كلا من هذه الصور
1 Syntax.
2 lntonational Forms.
3 Semantic Study.
4 Stress.
5 lntonation.
الثلاث كلمة من حيث المعنى. وكثيرا ما نجد أن العبارة الواحدة تدل على التقرير، وباختلاف نغماتها تدل على الاستفهام، وبنطقها على نغمات أخرى تدل على التعجب وهكذا. وثمة لغات كاليابانية والصينية وبعض لغات أواسط إفريقيا يكثر استعمال التنغيم فيها استعمالا وظيفيا للتفريق بين المعاني. "انظر فيما يلي شيئا من التعريف بـ"الفونيم" تحت الفصل المسمى "الفونولوجيا".
3-
وعلم الأصوات اللغوية لا يقتصر على خدمة الدراسة اللغوية "الوصفية" أي لا يقتصر على وصف الأصوات والأنظمة الصوتية الخاصة بلغة ما في فترة معينة من تاريخها. بل يخدم الدراسة اللغوية "التاريخية"1 والدراسة اللغوية "المقارنة"2 كذلك، فهو يقارن بين أصوات لغة معينة في فترة معينة وبين أصوات نفس اللغة في فترة أخرى من فترات تطورها بعد دراستها في هذه الفترة دراسة وصفية، أو بينها وبين أصوات لغة أخرى في عصر خاص من عصور تطورها. إنه لا سبيل إلى قيام "فقه اللغة المقارن"، أو "النحو المقارن"3 دون الاعتماد على الأساس الصوتي، فهذا الجانب من الدراسة اللغوية يظهرنا على التغيرات التي تطرأ على أصوات معينة في لغات متقاربة، ويصل من ذلك إلى شبه "قوانين" تعرف "بالقوانين الصوتية" وإن لم تتصف هذه "القوانين" بما تتصف به القوانين الخاصة بالعلوم التطبيقية من حتمية وجبرية.
4-
وإذا كان علم الأصوات اللغوية ضروريا للشروع في تقرير الحقائق اللغوية للغة من اللغات كما قدمنا، فإنه يعين كذلك في وضع أبجديات دقيقة للغات التي ليس لها كتابات حتى الآن، ويعين في إصلاح الأبجديات التقليدية لتكون أدق تمثيلا للنطق.
ولا غنى للمعاجم عن الاستعانة بالثقافة الصوتية اللغوية، فالمفروض أن واجب المعاجم لا يقتصر على تبيان معاني "المفردات"، وتطور هذه المعاني، بل يتعداه إلى تمثيل نطق هذه المفردات، وهذا لا يكون إلا باصطناع نظام من الرموز الكتابية يكون أدق تمثيلا للنطق من الأبجدية التقليدية.
1 Historical.
2 Comparative.
3 Comparative Grammar.
6-
ثم إن علم الأصوات اللغوية يقدم عونا كبيرا في إجادة نطق اللغة الأصلية وفي تعلم نطق اللغات الأجنبية. بل لقد كان ينظر إلى هذا العلم في أوروبا في العصور الوسطى على أنه الذي يعلم نطق الكلام، الذي يعلم الإلقاء والإنشاء والخطابة، ولكن هذا لا يدخل فيما يدل عليه هذا العلم في صورته الحاضرة. فعلم الأصوات اللغوية باعتباره فرعا من علم اللغة يقدم جملة من الوسائل الصالحة والضرورية لتقرير الحقائق اللغوية، ولكن لا شك أن نتائج هذا العلم يستعان بها في إجادة نطق اللغات، وفي تعلم نطق اللغات الأجنبية، أي أنه يستخدم لتأدية هذه الوظيفة دون أن يكون هذا هو القصد الأساسي منه، أو غرضا من أغراضه من حيث هو علم.
من الثابت أن الإنسان إذا تعلم لغة أجنبية فهو يميل، غير واع في معظم الأحيان، إلى أن ينطق أصوات اللغة الأجنبية من خلال أصوات لغته هو، وإلى أن يفرض الأنظمة الصوتية الخاصة بلغته على الأنظمة الصوتية الخاصة باللغة الجديدة. وعلم الأصوات اللغوية يقدم خير عون لإصلاح هذا الخلل. فهو إذ يصل إلى وصف أصوات اللغتين ووصف أنظمتها الصوتية، يمكنه أن يصف لنا طرق العلاج، أو هو يمكن معلمي اللغة الأجنبية من ذلك. وإن علاج النطق في حالة "الصوامت" سهل ميسور إذا قورن بعلاج النطق في حالة الصوائت. قد يظن متعلمو الإنجليزية من العرب أن "التاء" العربية مطابقة "للتاء" الإنجليزية، ولكن الدراسة الصوتية تظهرنا على أن التاء العربية تتميز بأنها "سنية"1، أي أن طرف اللسان في نطقها يعتمد على الأسنان العليا أو على أصولها، وعلى أن "التاء" الإنجليزية تتميز بأنها "لثوية"2، أي أن اللسان في نطقها يعتمد على اللثة لا على الأسنان.
و"الراء" العربية كذلك تختلف عن الراء الإنجليزية: فنحن إذا حاولنا أن ننطق التاء في كلمة مثل "take" فنحن ننطق في الأغلب التاء العربية. عن طريق علم الأصوات اللغوية نعلم ما بين تكوين هذين الصوتين من فرق حتى يمكننا بطول المران أن نتحلل من عاداتنا الصوتية فننطق الصوت الأجنبي النطق الصحيح.
1 Dental.
2 Aveolar.
ويلاحظ أنه إذا تيسر لمتعلم لغة أجنبية أن يجيد في وقت قصير نطق "الصوامت" فإنه يجد صعوبة كبيرة في إيجاد نطق "الصوائت"؛ ذلك لأن أي اختلاف يصير في وضع اللسان أو في كل شكل الشفتين ينتج صوتا صائتا.
على أن أكبر صعوبة يجدها الآخذ في تعلم نطق لغة غير لغته الأصلية هي محاولته في نطق خصائص الأصوات عندما تأتلف في كلمات، وفي كلام متصل، وذلك كالارتكاز والتنغيم.
إن التركيب المقطعي1 في لغة غير التركيب المقطعي في لغة أخرى، ومواضع وقوع الارتكاز في هذه اللغة غير مواضع وقعه في تلك، "وتنغيم" كلمات هذه اللغة وجملها غير تنغيم كلمات تلك وجملها. علم الأصوات اللغوية يصف لنا التركيب المقطعي لكلتا اللغتين، ويبين لنا المواضع التي يقع عليها الارتكاز في كل منهما ودرجات الارتكاز في كل موضع، كما أنه يحدد لنا المواضع التي لا يقع عليها ارتكاز البتة، وهكذا يمهد لنا السبيل إلى التخلي تدريجيا عن فرض "عاداتنا الصوتية"2 على نطق اللغة الجديدة.
إن إتقان كلمات لغة أجنبية وجملها أمر شاق. ومن هنا كان الإنجليز أو الفرنسيون عندما يسمعون كثيرا من الألمان يخاطبون بالإنجليزية أو الفرنسية يتوهمون أنهم يعنفونهم أو يهاجمونهم؛ وذلك لأن تتابع المقاطع في الألمانية يخالف ما يجري عليه تتابعها في الإنجليزية أو الفرنسية، كما أن النغمات الدالة على الاستفهام مثلا تختلف في الألمانية عن النغمات الدالة على الاستفهام في الإنجليزية أو الفرنسية، فربما ينطق الألماني الجملة البسيطة؟ How do you do? فيرى الإنجليز فيها شيئا من الإثارة موجها إليه3.
1 Syllabic Structure.
2 Phonetics Habits.
3 انظر فيما يلي تفصيل الكلام عن "الارتكاز" وعن سواه من خصائص الأصوات.