الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما المفسّر؛ فإنه يتكلم بلهجة المبيّن لمعنى الكلام على حسب فهمه، فكأنه يقول للناس: هذا ما أفهمه من الآية. أما المترجم؛ فإنه يتكلم بلهجة من أحاط بمعنى الكلام، وصبّه في ألفاظ لغة أخرى.
والعمل الذي يصان به القرآن من تحريف أو وهم يتسرب إليه من طريق الترجمة أن يترجم تفسيره" (1).
شبهتان وردّهما:
إنه على الرغم من اتفاق العلماء المعتبرين على الالتزام بفهم القرآن الكريم من خلال معهود العرب في الخطاب .. فإن ثمّة مغالطتين تثاران حول هذه القاعدة:
المغالطة الأولى، مؤداها: إذا كان القرآن قد ورد على معهود العرب في الخطاب؛ فلم كانت الحاجة إلى التفسير؟
والجواب: صحيح أن القرآن كله نزل على معهود العرب بلا ريب؛ لكنّ دلالات الألفاظ على معانيها تتعدد وجوهها ومناحيها في لغة العرب، فهناك الحقيقة والمجاز والمشترك. فليس كل نص تكون دلالته بعبارته .. بل قد تكون بالمنطوق والمفهوم، أو بالإشارة والاقتضاء.
وهناك الدلالات التي تتفاوت درجاتها من حيث القوة والضعف: كالمحكم والمفسّر، والنص، والظاهر والخفي، والمشكل والمجمل.
وهناك الدلالات التي ينقسم اللفظ فيها إلى: خاص وعام، ومطلق ومقيد، وغير ذلك مما هو من معهود العرب في الخطاب، ومن ثمّ تكون منافذ الاجتهاد منفتحة أمام المفسر.
(1) انظر: بلاغة القرآن، للخضر حسين، 68، 69.
ويجيب كذلك عن هذه المغالطة السيوطي- رحمه الله بقوله:" إنّ القرآن إنما نزل بلسان عربي، في زمن أفصح العرب، وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه.
أما دقائق باطنه؛ فإنما كان يظهر لهم بعد البحث والنظر، مع سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم في الأكثر، كسؤالهم لمّا نزل قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [سورة الأنعام: 82]، فقالوا: وأيّنا لم يظلم نفسه؟! ففسره النبي صلى الله عليه وسلم بالشرك، واستدل عليه بقوله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان: 13]، وكسؤال عائشة إياه عن الحساب اليسير فقال:" ذلك العرض"، وكقصة عدي بن حاتم في الخيط الأبيض والأسود، وغير ذلك مما سأل عنه آحاد منهم. ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه، وزيادة على ذلك مما لم يحتاجوا إليه من أحكام الظواهر؛ لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم، فنحن أشد الناس احتياجا إلى التفسير" .. ثم يقول:" وأما القرآن .. فتفسيره على وجه القطع لا يعلم إلا أن يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك متعذر، إلا في آيات قلائل، فالعلم بالمراد يستنبط بأمارات ودلائل"(1).
أما المغالطة الثانية؛ فمؤداها: الدعوة إلى عزل الاستخدام اللغوي القرآني عن المعهود من لغة العرب، وعن السنّة النبوية كذلك، وتبني المعهود الغريب والحديث ونقله في فهم القرآن الكريم (2).
والجواب: لا يخفى أن القرآن الكريم بيان الله لمراده التشريعي، نزل بلسان عربي مبين- على ما سبق- ولما كانت المعاني المودعة في البيان القرآني ذات
(1) الإتقان في علوم القرآن، ط. الحلبي، 2/ 174.
(2)
انظر: العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، محمد أبو القاسم حاج حمد، 1/ 65.
دقة وغور؛ كانت الحاجة في تفسيره واستنباط الأحكام منه تحتاج إلى دقة وأناة كذلك، فليس الأمر ضربة لازب، بل له قواعد وضوابط وسبل، تستمد من حقيقة هذا الوحي وما أودع فيه من مراد الله، ومن خصائص اللسان الذي نزل به. ومن ثمّ .. قرر أهل التفسير والأصول واللغة أنه لا يجوز لأحد أن يفسر ذلك البيان من دون فقه ذلك اللسان العربي؛ لأن القرآن- كما قلنا- لم يخرج عن معهود العرب في لغتهم من حيث الألفاظ المفردة، والجمل المركبة، وقوانينها العامة.
ومن ثمّ .. فتفسير النص القرآني بما لا يكون معهودا من لغته كذب. فمثلا:
لو فسرت" النجدين" في قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [سورة البلد: 8، 9، 10] بأن النجدين- كما يقول أحد أصحاب" القراءة المعاصرة"- أعضاء بمعنى الثديين؛ فإنك تكون كذبت على لغة العرب، وبالتالي على القرآن الذي نزل على لغة العرب، ويترتب على ذلك القول بقصور أفهام العرب عن إدراك تامّ لمعاني القرآن أو عدم إدراكها بالمرة.
فتحميل النص ما لا يحتمل من الدلالة اللغوية كذب في بيان المراد الإلهي منه.
ثم إن تنزيل القرآن على غير معهود العرب سوف يجرد القرآن من الإعجاز من وجهه البياني، وهو أهم وجوه الإعجاز، إن لم يكن هو الوجه الوحيد.
ومن العجيب أن صاحب هذه الدعوة يسقط البيان النبوي للقرآن الكريم، مع أن السنّة هي بيان القرآن بنص القرآن، وهي تأخذ حجيتها من إقرار القرآن للرسول صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يأمرنا ولا ينهانا إلا بالذي يأمرنا به الله عز وجل.
ويترتب على ذلك- أعني إسقاط السّنة- التشكيك في صحة التطبيقات المبنية على المفاهيم التي استفادها الصحابة الكرام، أو المسلمون عبر القرون من القرآن الكريم، كما أن هذا القول سيجعل القرآن قاموسا لنفسه دون حاجته إلى مرجعية أخرى في فهمه- كالبيان النبوي- كما أنه سيجعل القرآن كذلك كتابا نظريّا تتحدد معانيه بمحدود طيّاته.
فإن قلت: إن لغة القرآن التي جاءت على معهود العرب خاضعة في ألفاظها واستعمالاتها لسنة التطور طالما هي متداولة في التاريخ، وهذا يعني تعرض ألفاظها للتحول إلى معان جديدة لم تكن مقصودة في زمن التنزيل.
قلت: نحن لا نغفل جوانب الاستفادة من ذلك التطور واستثماره في الفهم، شريطة أن يختزن اللفظ العربي المعنى الذي يراد أخذه من اللفظ. فإذا كان اللفظ بحسب معناه اللغوي أو العرفي يتسع لذلك؛ فلا إشكال.