المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌شيخنا الأستاذ الدكتور محمد سالم أبو عاصي

- ‌مقدمة

- ‌ترجمة أبي إسحاق الشاطبي

- ‌تمهيد:

- ‌1 - أولا: اسمه ونسبه:

- ‌2 - مكان وزمان ولادته:

- ‌3 - نشأته:

- ‌4 - أخلاقه:

- ‌5 - وفاته:

- ‌6 - عصره وبيئته:

- ‌شيوخ الشاطبي

- ‌تلاميذه

- ‌مؤلفات أبي إسحاق الشاطبي

- ‌الأصل الأول فيما يعوّل عليه من اللغة في علوم القرآن

- ‌مقدمة

- ‌(1) عربية القرآن

- ‌(2) اتباع معهود العرب في فهم الخطاب

- ‌خطاب العامة وخطاب الخاصة:

- ‌إقناع العقل وإمتاع العاطفة:

- ‌(3) أنواع معاني العربية ومراتبها

- ‌شبهتان وردّهما:

- ‌(4) مناسبات النزول

- ‌(5) معرفة الظاهر والباطن من معاني القرآن الكريم

- ‌الشاطبي يستنكر المنازع البعيدة عن مدلول لغة العرب ومقاصد الشرع:

- ‌تفاسير مشكلة مترددة بين الباطن الصحيح والفاسد:

- ‌الفرق بين التأويل الباطني الفاسد والتفسير الإشاري:

- ‌الأصل الثاني فيما يعوّل عليه من الشرع في علوم القرآن

- ‌(1) العلوم المضافة للقرآن

- ‌(2) المكي والمدني

- ‌(3) المحكم والمتشابه

- ‌1 - إطلاقات المحكم والمتشابه:

- ‌2 - تقسيم القرآن إلى محكم ومتشابه وتعريف كلّ منهما:

- ‌3 - التشابه في الأدلة قليل:

- ‌4 - لا يدخل التشابه قواعد الشرع الكلية:

- ‌5 - تأويل المتشابه:

- ‌6 - شروط التأويل (صحة المعنى .. وقبول اللفظ):

- ‌7 - حكمة ورود المتشابه:

- ‌(4) الإحكام والنسخ

- ‌ مدلول النسخ

- ‌النسخ لا يكون في الكليات وقوعا:

- ‌(5) بيان القرآن لما تحته من أحكام

- ‌(6) القرآن فيه بيان كل شيء ولو بنوعه أو بجنسه

- ‌(7) وقوع الحكايات في القرآن الكريم

- ‌(8) التناسب بين بعض القرآن وبعض

- ‌(9) التفسير بالرأي

- ‌الرأي المذموم:

- ‌أولا: على المفسر بالرأي أن يفعل ما يأتي:

- ‌ثانيا: ما يجب على المفسر بالرأي اجتنابه:

- ‌(10) الشاطبي والتفسير العلمي للقرآن

- ‌خاتمة وخلاصة

- ‌ثبت المراجع

- ‌من اصداراتنا

الفصل: ‌ مدلول النسخ

(4) الإحكام والنسخ

بادئ ذي بدء .. فإن قضية النسخ في كتب علوم القرآن وأصول الفقه، قضية متشعبة كثيرة المسائل والذيول، مما نحا بعلماء الأصول والقرآن أن يؤلفوا فيها المؤلفات الكثيرة والواسعة. ومن البداهة أننا لن نعرض في بحثنا هذا لقضية النسخ برمتها، بل سنجتزئ من ذلك بقضيتين ذكرهما الشاطبي:

‌ مدلول النسخ

عند الصحابة والتابعين، وأن النسخ لا يدخل القواعد الكلية وقوعا.

مدلول النسخ:

ذهب الصحابة والتابعون ومن بعدهم إلى أن النسخ هو مطلق التغير الذي يطرأ على بعض الأحكام فيرفعها ليحل محلها أو يخصص ما فيها من عموم، أو يقيد ما فيها من إطلاق. سواء أكان النص الناسخ عندهم متصلا بالنص المنسوخ، كما في الاستثناء والتقييد، أم كان منفصلا عنه متأخرا في النزول، كما في رفع الحكم عن بعض ما يشمله العام إذا تأخر نزول المخصّص (وهو النسخ الجزئي عند الحنفية). وفي بيان ذلك يقول الشاطبي:" الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين. فقد كانوا يطلقون على تقييد المطلق نسخا، وعلى تخصيص العموم بدليل- متصل أو منفصل- نسخا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا .. كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخا؛ لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد، وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف، وإنما المراد ما جيء به آخرا .. فالأول غير معمول به، والثاني معمول به.

ص: 124

وهذا المعنى جار في تقييد المطلق. فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيّده، فلا إعمال له في إطلاقه، بل المعمل هو المقيّد .. فكأن المطلق لم يفد مع مقيّده شيئا، فصار مثل الناسخ والمنسوخ. وكذلك العام مع الخاص؛ إذ كان ظاهر العام يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ، فلما جاء الخاص؛ أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار، فأشبه الناسخ والمنسوخ، إلا أن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة، وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص، وبقي السائر على الحكم الأول .. فلما كان كذلك؛ استسهل إطلاق لفظ النسخ في جملة هذه المعاني لرجوعها إلى شيء واحد" (1).

ثم يورد الشاطبي بضعا وعشرين قضية نسخ، رويت عن الصحابة والتابعين، ليستدل بها على أن مدلول النسخ عند الصحابة كان أوسع منه عند الأصوليين. ونحن نجتزئ بعض هذه القضايا، معقبين على كل منها برأي جمهور الأصوليين فيها ..

1 -

أولى هذه القضايا ما روي عن ابن عباس- رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [سورة الإسراء:

18] إنه ناسخ لقوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [سورة الشورى: 20]. وهو على هذا التحقيق تقييد لمطلق؛ إذ كان قوله: نُؤْتِهِ مِنْها مطلقا، ومعناه مقيد بالمشيئة (وهو قوله في الأخرى: ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ).

وإلا .. فهو إخبار، والأخبار لا يدخلها النسخ (2).

(1) الموافقات، 3/ 108، 109.

(2)

الموافقات، 3/ 109.

ص: 125

ويرى الأصوليون كذلك أن الآيتين لا تعارض بينهما، وأن ما في الآية المدعى أنها ناسخة من قيد (المشيئة إنما هو تقييد لما في الآية الأخرى من إطلاق.

على أنه قيد يجب أن يفهم ضرورة، ولو لم يذكر؛ إذ لا يؤتي الله أحدا من حرث الدنيا ما لم يرد ذلك، ضرورة ما هو مقرر من أنه لا يقع في ملك الله عز وجل إلا ما يشاء.

2 -

والقضية الثانية (وهي أيضا مروية عن ابن عباس) هي أن قوله تعالى:

وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ [سورة الشعراء: 224 - 226] منسوخ بقوله تعالى بعد ذلك:

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا [سورة الشعراء: 227].

ويرى الأصوليون أن العلاقة بين الآيتين هي علاقة المستثنى بالمستثنى منه، ولكلّ منهما حكمه الذي يقتضيه عموم المستثنى منه وخصوص المستثنى، وهو شمول الحكم الأول لمن عدا المستثنى أو تخصيص عمومه بطريق الاستثناء، وليس هذا من النسخ في شيء.

3 -

والقضية الثالثة (وهي مروية أيضا عن ابن عباس) هي أن قوله تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [سورة الأنفال: 1] منسوخ بقوله تعالى في السورة نفسها:

وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [سورة الأنفال: 41].

والأصوليون يرون أن العلاقة بين الآيتين هي علاقة البيان بعد الإجمال، وذلك بناء على تفسير" الأنفال" بالغنائم. أما إن فسّرت" الأنفال" بما يجعله

ص: 126

الإمام لبعض المقاتلين من سلب قتلاهم؛ فالآيتان لا تعارض بينهما؛ إذ إنهما في موضوعين مختلفين. وعلى كلا التفسيرين ليس بين الآيتين تعارض يسوغ القول بالنسخ.

4 -

والقضية الرابعة هي ما روي عن ابن عباس وابن مسعود- رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ [سورة البقرة: 284] أنه منسوخ بقوله تعالى بعدها: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [سورة البقرة: 286]. وهو ليس بمنسوخ، بدليل أن ابن عباس فسر الآية بكتمان الشهادة؛ إذ تقدم قوله: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ [سورة البقرة: 283] ثم قال: وَإِنْ تُبْدُوا .. الآية.

ويعلق الشيخ دراز بأن معنى الآية على كلام ابن عباس:" إن تبدوا ما في أنفسكم وما تعلمونه في موضوع الشهادة، بأن تقولوا لصاحب الحق نعلم الشيء ولكنا لا نشهد به عند الحكام، أو تخفوه، بألا تطلعوا صاحب الحق على ما تعلمونه؛ يحاسبكم به الله على كل حال؛ لأنه كتمان للشهادة ومضيع للحق". فيكون قوله: وَإِنْ تُبْدُوا من باب بيان المجمل لقوله: وَلا تَكْتُمُوا .. فقد كان يحتمل الأمرين، كما يحتمل أحدهما فقط.

وعليه .. لا تكون آية لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها مرتبطة بهذه الآية.

وأما إذا جرينا على رواية جثوّ الصحابة على الرّكب لما نزلت وَإِنْ تُبْدُوا وقولهم: ليس في وسعنا تنزيه النفس عن الهواجس والخواطر السيئة، فأنزل الله لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها .. إذا جرينا على هذا؛ فتكون

ص: 127

آية لا يُكَلِّفُ مخصصة أو مبينة لإجمال آية وَإِنْ تُبْدُوا التي بظاهرها تشمل الهواجس والخواطر، فنزلت الآية مخرجة لما عدا العزم الذي في الوسع اجتنابه (1).

5 -

القضية الخامسة (وهي مروية عن عبد الملك بن حبيب) أن قوله تعالى:

اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [سورة فصلت: 40]، وقوله: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [سورة التكوير: 28] منسوخان بقوله: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [سورة التكوير: 29].

ويرى الأصوليون أن الآيات الثلاث إنما جاءت في معرض الوعيد والتهديد، وهو معنى لا يقبل النسخ؛ إذ ليس فيه حكم تكليفي، وفي نسخه تكذيب للقواعد .. تعالى الله أن يوصف بالكذب.

وبهذا يتبين إسراف بعض العلماء في ادعاء النسخ- بمعناه المتأخر- في كتاب الله، وذلك بسبب اشتباه اصطلاح المتقدمين باصطلاح المتأخرين. ومن المعلوم في علوم القرآن وأصول الفقه أن النسخ لا يلجأ إليه إلا عند التعارض التام بين الآيتين بحيث يستحيل الجمع بينهما.

وبناء على ذلك .. فإن علاقة الإجمال والتفصيل، والإبهام والتفسير، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، ليست من النسخ في شيء عند الأصوليين.

وهذا لا يعني بأي حال رفض ما صحت روايته عن الصحابة والتابعين من قضايا النسخ، وإنما يعني أنه لا يحق لأحد الاستدلال بهذه القضايا- وفيها تقرير النسخ بمدلوله الواسع عندهم- على دعاوى النسخ بمدلوله المصطلح عليه عند

(1) انظر تعليق الشيخ عبد الله دراز على الموافقات: 3/ 112.

ص: 128

الأصوليين والفقهاء؛ إذ إن هذا يناقض الحقيقة البدهية الواجبة مراعاتها في مناهج البحث، وهي تحرير المراد (أو تحرير محل النزاع). ومن ثمّ .. فليس من أمانة البحث

العلمي أن نورد خبرا عن ابن عباس- أو غيره- يقرر فيه نسخ آية لأخرى، مع أنه ليس بين الآيتين إلا علاقة المستثنى بالمستثنى منه، لنستدل بهذا الخبر على أن إحدى الآيتين منسوخة بالأخرى على ما اصطلحنا نحن عليه في تحديد مدلول النسخ أخيرا بأنه رفع تعلق حكم شرعي بدليل شرعي آخر متأخر عنه.

وبوسعك أن ترى هذه الحقيقة التي أوضحتها لك في هذه العبارة التي وردت على لسان الشيخ ولي الله الدهلوي:" من المواضع الصعبة في فن التفسير (التي ساحتها واسعة جدّا، والاختلاف فيها كثير) معرفة الناسخ والمنسوخ.

وأقوى الوجوه الصعبة اختلاف اصطلاح المتقدمين والمتأخرين. وما علم في هذا الباب، من استقراء كلام الصحابة والتابعين، أنهم كانوا يستعملون النسخ بإزاء المعنى اللغوي الذي هو إزالة شيء بشيء، لا بإزاء مصطلح الأصوليين. فمعنى النسخ عندهم إزالة بعض الأوصاف من الآية بآية أخرى .. إما بانتهاء مدة العمل، أو بصرف الكلام عن المعنى المتبادر إلى غير المتبادر، أو بيان كون قيد من القيود اتفاقيّا، أو تخصيص عام، أو بيان الفارق بين النصوص وما قيس عليه ظاهرا، أو إزالة عادة الجاهلية، أو الشريعة السابقة. فاتسع باب النسخ عندهم، وكثر جولان العقل هنالك، واتسعت دائرة الاختلاف. ولهذا بلغ عدد الآيات المنسوخة خمسمائة.

ص: 129