الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(4) مناسبات النزول
القرآن الكريم هو الكلام العربي الذي سما- كما قلنا آنفا- إلى أعلى درجات البلاغة. والبلاغة: هي مطابقة الكلام لمقتضيات الأحوال. فلا بد لمعرفة معاني القرآن على الحقيقة من معرفة هذه المقتضيات والمناسبات التي اقترن نزول الآيات بها.
فمناسبات النزول، بما أنها مقتضيات الأحوال التي نزل بعض آيات القرآن الكريم استجابة لها، تلقي ضوءا على وجوه الإعجاز البياني. فضلا عن أنها من عناصر الاسترشاد والاستيضاح التي تعين على فهم المراد من الآية الكريمة. ومن ثمّ .. قرر الشاطبي أن معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل على ذلك أمران:
أحدهما: أن علم المعاني والبيان (الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن، فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب) إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال حال الخطاب، من جهة نفس الخطاب أو المخاطب أو المخاطب أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين .. وغير ذلك، فلفظ الاستفهام- مثلا- واحد، ولكنه يختلف إلى: حقيقي، وإنكاري، وتوبيخي، وتعجبي. ولفظ الأمر واحد، ولكنه يختلف معناه إلى ما هو: للطلب، أو للتهديد، أو للإباحة.
وليست القرائن الدالة على هذا كلها في القرآن، بل أكثرها قرائن خارجية مستوحاة من أسباب النزول، ومقتضيات الأحوال (1).
وتوضيح هذا الذي يقوله الشاطبي يتجلى في أن كلا من علم المعاني والبيان موضوعة مسائلهما للاقتدار على معرفة معاني القرآن، والاستشراف على مقاصده، فضلا عن معرفة كلام العرب، والوقوف على أغراضها في مخاطباتها.
وإنما كان علم المعاني والبيان بهذه المثابة؛ لأن فقه مسائلهما يدل على الأسباب التي تجعل الكلام مطابقا لمقتضى الحال.
ومطابقة الكلام لمقتضى الحال هو" البلاغة". ومن ثمّ .. فلا يفهم الكلام الذي يجيء على نهج البلاغة إلا بمعرفة الحال التي صدر كلام البليغ قاصدا لمطابقتها، وذلك .. أن الكلام يكون واحدا، ثم يختلف باختلاف الخطاب المستعمل فيه، وباختلاف المتكلم، وباختلاف السامع كذلك.
فمعرفة مقتضيات الأحوال أمر لا بدّ منه في معرفة معاني القرآن العظيم المعجز، وإدراك مقاصده البعيدة. وما أسباب النزول إلا إعلام بالحال والمناسبة التي نزلت فيها الآيات الكريمة، فهي كاشفة لمعاني القرآن، معينة على بيان مقاصده، وصحة دلالته، وتفهّم أسرار بلاغته.
الأمر الثاني- وهو مبني على الأول: أن الجهل بأسباب النزول موقع في الجهل بمعاني القرآن، ومؤدّ إلى الشّبه والخلاف في معناه (2).
(1) الموافقات، 3/ 347.
(2)
الموافقات، 3/ 348.
ويدل على ذلك جملة وقائع ظهرت أثناء نظر الصحابة للقرآن، وإرادة فهمهم مجرى خطابه. ومن ذلك ما نقله الشاطبي أن مروان بن الحكم أشكل عليه قوله تعالى:
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا [سورة آل عمران:
188]، فأرسل إلى ابن عباس يقول له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي ويحب أن يحمد بما لم يفعل معذّبا؛ لنعذّبن أجمعون! فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية؟! إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود، فسألهم عن شيء من التوراة فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، وفرحوا بما فعلوا، وأحبوا أن يحمدهم الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الأخبار الكاذبة .. ثم قرأ قول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ [سورة آل عمران: 187].
فهذا السبب يظهر أن المقصود من الآية تعذيب المنافقين الكاتمين لأحكام الله، لا ما فهمه مروان بن الحكم.
ومن ذلك: ما روي أن عمر بن الخطاب استعمل قدامة بن مظعون على البحرين، فقدم الجارود يخبر عمر أن قدامة شرب فسكر، فقال له عمر: ومن يشهد على ذلك؟ فقال: أبو هريرة. فقال عمر: يا قدامة .. إني جالدك. فقال:
والله .. لو شربت- كما يقولون- لما كان لك أن تجلدني. قال عمر: ولم؟!
قال: لأن الله يقول: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة المائدة: 93] .. قال قدامة: فأنا من الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا .. شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها. فقال عمر: ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين، وحجة على
الباقين .. فعذر الماضين: أن الله أنزل هذه الآيات قبل أن تحرّم عليهم الخمر، وحجة على الباقين: لأن الله يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة المائدة: 90] .. ثم قرأ إلى آخر الآية. قال ابن عباس: فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا؛ فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر. فقال عمر: صدقت.
وسر الغلط- كما يقولون- أن قدامة بن مظعون غفل عن موضع نزول الآية الأولى، وأنها كانت فيمن مات من الصحابة قبل نزول الآية في تحريم الخمر.
هكذا يقول الشاطبي في" الموافقات" في هذا الموضع، وسلمه له شارحه العالم الجليل الشيخ عبد الله دراز، وكذلك غيرهما من الكاتبين في علوم القرآن، قديما وحديثا.
غير أن الأستاذ الجليل الدكتور محمد سعاد جلال تعقبهم بأن" هذه المسألة ليست من قبيل الجهل بمعرفة السبب؛ لأن المراد بالسبب (الذي تنزل بعض الآيات جوابا عليه) إنما هو سبب محدد. أما هذه الواقعة؛ فلا يعدو الحال أن تكون الآية الأولى نزلت في تاريخ سابق عامة في جميع المؤمنين، وفي جميع أجزاء الزمان الذي كانوا فيه، بحيث لو لم تنزل الآية الثانية لما أمكن القول بأن الآية الأولى جاءت موضوعة على سبب خاص. وإنما هذه الواقعة ترد إلى قاعدة العام، وتخصيص العام. ذلك .. أن كلمة" فيما طعموا" تنحلّ إلى كلمتين:" ما" الموصولة، وهي تفيد العموم. و" طعموا" صلتها المفسّرة لمعناه. ومعنى" طعموا":
تناولوا. والمعنى الكلي للجملة: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح في أي شيء تناولوه، ولو كان هو الخمر، لمن كان متصفا بالإيمان والتقوى
والإحسان. فهذه قضية عموم الآية الذي استشهد قدامة به، وأجابه ابن عباس بأن هذا العموم ليس جاريا على إطلاقه، ولكنه عموم دخله التخصيص بالآية الثانية، فكأنه قال: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ..
إلا إن كان خمرا؛ فاجتنبوه" (1).
هذا .. ومن فوائد معرفة أسباب النزول: معرفة مقاصد الأحكام التي اشتملت عليها الآيات التي نزلت على أسبابها، ووجه الحكمة فيها. وبذلك يدفع المفسر الشّبه عن القرآن الكريم، ويستطيع المجتهد استنباط علل الأحكام كما في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [سورة النساء: 43] .. فإن سبب النزول يبين أن الحكمة هي المنع من حصول التخليط في الصلاة، والتغيير في القرآن.
وأخيرا .. فإن مما ينبغي التنبه له أن سبب النزول مجرد معين على فهم الآيات القرآنية التي نزلت على أسباب، وليس السبب منشئا للآيات، ولا هو العلة في الإنزال أو التشريع.
فالوقائع مناسبات للنزول، وظرف زمان نزلت فيه الآية، فالعلاقة بين الواقعة والنص القرآني لا تعدو علاقة الاقتران، ولا تدخل أبدا في باب" العلة العقلية" التي يلزم من وجودها وجود المعلول، ومن انتفائها انتفاؤه.
أما قول بعض الحداثيين بأن: القرآن كله نزل على أسباب، وهذه الأسباب أسباب تاريخية منقضية تجاوزها الواقع والتاريخ، وهي علة الحكم. والمعلولات- أي الأحكام القرآنية- منقضية بانقضاء العلل، ومن ثمّ .. يقررون رفض إطلاق
(1) مقدمة في التعريف بعلم أصول الفقه والفقه، للدكتور محمد سعاد جلال، ص 21.
" التشريع القرآني" وخلود أحكامه، وذلك منذ طوى التاريخ صفحة أسباب النزول من الوجود ..
أقول: كل ذلك زور من القول قد استوفينا الرد عليه في كتابنا:" أسباب النزول: تحديد مفاهيم، ورد شبهات".
كما أنبّه إلى أن الأصل في الصيغ التي يفيد ظاهرها العموم" التعميم"؛ إذ ذلك هو المتبادر من الصيغة عند الإطلاق والتجرد عن القرينة، فما زلنا نعلم بالبداهة أن الصيغ العامة والمطلقة (عن قيود الزمان والمكان والأحوال والأشخاص) لا تصلح للدلالة على أكثر من المعنى الذي وضعت له، ولا سلطان للعصور أو الظروف في تغيير شيء من قانون هذه الدلالة أو تضييق شيء من عمومها.
فالأسباب- كما قلنا- تعين على حسن تفهّم الآيات التي نزلت مقترنة بها، من غير أن تكون ذات سلطان على دلالته العامة، فتحدّها وتمنع امتدادها؛ إذ وظيفة السبب- كما قلنا- وظيفة كشف وإبانة عن حركة المعنى في النظم، وهادية لمسالك الفهم، وليست مانعة طلاقة المعنى، وشمول سلطانه على ما يستحدث.
فالقول بحصر الدلالة فيما جاءت به أسباب النزول وأد لدلالة النص، وهي دعوى يتسلل منها إلى بيان أن نصوص القرآن لا تتجاوز دلالتها زمن الوحي. وهذا ما نبّه إليه الأصوليون وعلماء القرآن من أن" العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" .. فاحذر ما يقوله ملاحدة هذا العصر، عبيد يهود، من أن ارتباط الآيات بأسباب نزولها يرفع عنا التكليف بما فيها.
فإن قيل: بل الخلاف قائم في هذه القاعدة .. فإن من علماء الأصول من قال بأن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ.
وعند هذا أقول: هيا بنا نلق الضوء على هذه القاعدة مبينين وجه الحق في هذه المسألة الأصولية، وهي أن اللفظ الوارد على سبب: هل يكون حكمه على قدر ذلك السبب؟
وفي الجواب عن هذا السؤال يقول الأصوليون: إن ذلك اللفظ المذكور، إما أن يكون قضية تامة مستقلة بنفسها بحيث يمكن الابتداء بها لو لم يوجد سبب، وإما أن يكون عبارة تابعة للسبب غير مستقلة بنفسها، كنعم أو لا.
فأما غير المستقل؛ فلا خلاف في أن حكمه على وفق سببه .. إن عامّا؛ فعام، وإن خاصّا فخاص. ومثاله أن يسأل سائل: أيحل الوضوء بماء البحر؟
فيقال:" نعم". فهذا حكم يعم السائل وغيره؛ لأن السؤال كان عامّا وقد جاء على وفقه. وإن قال السائل: أيحل لي الوضوء بماء البحر؟، فقيل له:" نعم"؛ فهذا حكم خاص يخص السائل بصيغته؛ لأن السؤال كان كذلك، وإن تعداه إلى غيره من المكلفين؛ فإنما يتعدى بالقياس أو بنص آخر من النصوص الدالة على أن أحكام الشريعة أصلها العموم ما لم يقم دليل التخصيص.
وأما المستقل .. فإن كانت صيغته خاصة؛ فالحكم خاص حتى ولو كان السبب عامّا،، كأن يسأل سائل: أيحل الوضوء بماء البحر؟ فيجاب:" يحل لك الوضوء بماء البحر".
وإن كانت صيغته عامة .. فهل يعم حكمها حتى ولو كان السبب خاصّا؟
مثاله أنه- عليه الصلاة والسلام سئل عن بئر بضاعة التي كانت تلقى فيها
الخرق، فقال:" خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء"، وأنه مر بشاة ميتة فقال:
" أيما إهاب دبغ؛ فقد طهر" .. فهل العبرة في هذا وأمثاله بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟ هذا هو قطع المسألة في الأصول.
وقد فرضوا في هذا الشق الأخير خلافا بين الجمهور القائلين باعتبار عموم اللفظ، وبين الشافعي القائل- فيما زعموا- باعتبار خصوص السبب (1).
والواقع كما يقول الأستاذ المحقق الشيخ عبد الله دراز أنه لم يصح عن الشافعي، ولا عن أحد من الأئمة، القول بقصر العمومات على أشخاص أسبابها. وإن روي ذلك عن بعض أصحاب الشافعي؛ فلعله لم يثبت عنهم أيضا.
فقد نص الشافعي في" الأم" على أن السبب لا يصنع شيئا، إنما تصنعه الألفاظ ..
فهذا صريح في موافقة الشافعي للجمهور. على أننا إذا رجعنا إلى أنفسنا وسمعنا سؤالا خاصّا يقابله جواب عام، ونظرنا في حكمة هذا التفاوت بين السؤال والجواب؛ فإننا ندرك على البديهة المغزى الذي يقصده المجيب من تعبيره باللفظ العام في هذا المقام، وهو أنه أراد تعدية حكمه إلى أفراد أخرى غير شخص السبب. وإلا .. فلماذا عدل عن صيغة الخصوص، وهي تقضي ظاهر الحال ومطلوب السائل، مع قربها واختصارها، إلى هذه العبارة الكلية وإلى هذا التطويل بغير طائل؟!
(1) الإحكام للآمدي، 2/ 347، وشرح العضد، 2/ 11، وكتابنا أسباب النزول، ص 61 وما بعدها.
ولو افترضنا العبارتين سواء في كلام عامة الناس؛ فكيف يكونان سواء في البلاغة القرآنية والفصاحة النبوية؟! لست أدري كيف يختلف في هذا أحد من أهل العربية، فضلا عن إمام كالشافعي؟!
هكذا يتفق الكل على أن النص العام الوارد على سبب لا يجوز الوقوف به عند أخص الخاص- وهو شخص سببه- بل يجب تعميمه البتة إلى نوع ذلك السبب، بحيث إذا دل
دليل على إخراج بعض ذلك العام عن قصد المتكلم؛ فلا يكون ذلك البعض هو شخص السبب ولا نوعه القريب. فالشافعي وإن عمد إلى بعض العمومات الواردة على سبب، فخصصها مراعاة لأسبابها، لم يقل بحصرها في الحادثة العينية أو الشخص المعين الذي وردت فيه حتى تتوجه عليه الحجة بإجماع الأئمة على تعدية الأحكام لغير أسبابها. فهو مثلا في حديث" الماء طهور" لم يقصره على ماء تلك البئر التي سيق الحديث من أجلها، ولم يجعله قاصرا على ماء الآبار، بل جعله عامّا في كل ماء كثير، واستثنى منه الماء اليسير.
وكذلك فعل في حديث" أيما إهاب دبغ فقد طهر" .. لم يجعله خاصّا بجلد شاة ميمونة، ولا بنوع جلود الأغنام، وإنما استثنى منه جلد الكلب ونحوه.
بل نقول: إن الكل متفقون أيضا على الطرف الآخر من المسألة. إنهم متفقون على أن النص العام الوارد على سبب لا يجب الذهاب به دائما إلى أعم معانيه، حتى التي لا تشبه السبب في مناط حكمه، وهذا أبو حنيفة (وهو في مقدمة القائلين باعتبار عموم اللفظ) قد عمد إلى حديث:" الولد للفراش"، فلم يجعله عامّا كلّ فراش، بل جعله خاصّا بالزوجة وأم الولد، وما ذلك إلا أنه راعى سبب الحديث وهو وليدة زمعة- أي أم ولده- فعدى حكمه إلى كل
وليدة، وإلى الزوجة بالأولى، وأخرج عنه الأمة التي لم يثبت لها أمومة الولد؛ لضعف معنى الفراش فيها، وإذا كان بعض الأئمة ذهب إلى طهورية كل ماء لم يتغير، وطهارة كل جلد دبغ، وأنهم يوجبون حمل عمومات الشارع كلها على أوسع معانيها الوضعية من غير نظر إلى مساقاتها؛ فذلك ما لا قائل به من أهل السنة، وإنما المعنى أنهم يوجبون تعدية الحكم إلى مرتبة من مراتب العموم يظنّ قصد الشارع إليها، قريبة أو بعيدة أو متوسطة.
وهذا قدر متفق عليه في الجملة. ففيم الخلاف إذن؟! هل إذا جاء المجتهدون لتطبيق هذه القاعدة، فاختلفت أنظارهم في تحري مراتب العموم أيها أنسب بفرع فرع، يعد ذلك اختلافا في أصل القاعدة كما صوره الأصوليون؟ أكبر الظن أن غلبة شهوة الجدل هي السبب في تصويرها قاعدة خلافية!
قلنا: إن اللفظ العام الوارد على سبب خاص لا يخلو من جهة عموم قطعا.
ثم قلنا: إن لهذا العموم مراتب متفاوتة يجتهد الناظر في اختيار أيها أنسب بموضع دون موضع.
فهل هناك ضابط يضبط هذه المراتب ويبين طريقة تنزيل النصوص القرآنية عليها حسبما فهمه العرب؟
لقد وقفنا على تحقيق نفيس في هذا المقام بسطه الشاطبي- رحمه الله في فصل العموم والخصوص، ونحن نكتفي هنا بعرض خلاصته، وهي أن مراتب العموم ثلاثة:
المرتبة الأولى: مرتبة العموم الوضعي، وهو استغراق ما يدل عليه اللفظ بحسب أصله الإفرادي وحقيقته اللغوية. وهذه هي أوسع المراتب وأعمها.
المرتبة الثانية: مرتبة العموم في الاستعمال اللغوي، وهو استغراق ما يدل عليه الكلام بحسب عرف التخاطب عند العرب، وما يغلب قصدهم إليه في محاوراتهم، حتى صار فيه كأنه حقيقة عرفية عامة.
المرتبة الثالثة: مرتبة العموم في الاستعمال الشرعي، وهو استغراق ما يدل عليه الكلام بحسب ما عرف من مقاصد الشارع وقواعده، حتى صار كأنه فيه حقيقة عرفية خاصة" حقيقة شرعية".
وطريقة تنزيل النصوص على هذه المراتب ألا ينتقل بها عن مرتبة من العموم إلى مرتبة أوسع منها إلا حيث لا يوجد داع للوقوف عند تلك المرتبة الدنيا.
فينبغي في كل موضع أن ينظر إلى النص: هل للشارع فيه عرف خاص يحد من عمومه ويضيق من دائرته؟ فإن كان؛ وجب تنزيل النص على قدر تلك المرتبة، ومن جاوزها إلى ما وراءها؛ فقد زاد في الشرع ما ليس منه. وإن لم يكن للشارع عرف خاص؛ وجب أن ينظر مرة أخرى: هل جرى عرف العرب في محاوراتها بحمل ذلك النص على وجه لا يستوعب كل حقيقة؟ فإن وجد؛ فليقتصر عليه دون زيادة ولا مجاوزة. وأما إذا لم يكن عرف خاص شرعي، ولا عرف عام لغوي؛ فيفسّر النص ببعض متناولاته، فإنه يجب أن يرجع به إلى أصل وضع اللغة، فتؤخذ القضية فيه بأوسع معاني العموم التي تقبلها صيغتها. ومن وقف بالعموم حينئذ دون غايته؛ فقد نقص من الشرع ما هو فيه.
وهذا الترتيب، وإن كان متفقا عليه في الجملة، إلا أن العلماء قد يختلفون في المرتبة اللائقة بنصّ، بناء على أن بعضهم قد يفهم في الاستعمال أو الشرعي من القرائن المخصصة ما لا يفهمه غيره، فيأخذ هذا بالخصوص وذاك بالعموم.
ولنمثل لكل مرتبة من هذه المراتب بمثال يوضحها ..
- فمثال ما تأخذه العرب بالعموم الوضعي قولنا:" كل شيء ما خلا الله باطل".
- ومثال ما جرى للعرب فيه عرف عام يقصر به دون غايته الوضعية قولك:" من دخل داري أكرمته"، وقولك:" رأيت الناس .. فما رأيت أكرم من زيد". فلفظ" من" في المثال الأول يعم كل عاقل، وهو متناول- بحسب الوضع- شخص المتكلم وغيره، ولكن المتكلم لا يريد دخوله في هذا الحكم فيما عرف من استعمال العرب.
قال ابن خروف: لو حلف رجل بالطلاق والعتق ليضربن جميع من في الدار وهو معهم فيها، فضربهم ولم يضرب نفسه؛ برّ ولم يلزمه شيء. قال: فكذلك لا يدخل شيء من صفات الباري تحت الإخبار في قوله تعالى: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [سورة غافر: 62]، لأن العرب لا تقصد ذلك ولا تنويه. قال: ومثله وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة: 282]، وإن كان عالما بنفسه وصفاته، لكن الإخبار إنما وقع عن جميع المحدثات، وعلمه بنفسه وصفاته شيء آخر. قال:
وهذا معلوم من لسان العرب .. لذلك لا يصح استثناء هذه الأشياء بحسب
اللسان، فلا يقال: من دخل أكرمته إلا نفسي. وإنما ينبغي استثناء شيء يتوهم دخوله لو لم يستثن.
وكذلك نقول: إن لفظ" الناس" في المثال الثاني يعم كل من لقيت ومن لم تلق، وليس ذلك بمراد، وإنما يراد ما شأنه أن يتناوله الحكم المذكور عادة. ومن هنا كان قوله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [سورة الأحقاف: 25]، ليس مقصودا به أنها تدمر السموات والأرض والجبال، وإنما قصد ما شأنه أن تؤثر فيه الريح عادة كالحيوان والزرع، ولذلك قال بعدها: فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ [سورة الأحقاف: 25].
قال الإمام الغزالي في قوله صلى الله عليه وسلم:" أيما إهاب دبغ فقد طهر": إنه لا يبعد أن يكون التعرض للدباغ نفسه مخرجا لجلود الكلاب ونحوها، بحيث لا تخطر بذهن المتكلم ولا السامع، وقد قال طائفة من أهل الأصول: إن ما لا يخطر ببال المتكلم إلا بالإخطار لا يحمل لفظه عليه عند التعميم.
- ومثال ما جرى فيه للشارع عرف خاص يقف به دون الأوضاع والاستعمالات اللغوية: ما ورد من عمومات الوعيد على الذنوب التي هي بمفردها دون الشرك، ولكنها في الأصل من مساوئ أعمال الكفار، وقبائح صفاتهم، فلما توعّد فاعلوها؛ لم يستثن منهم أحد اتّكالا على ما عرف من كليات الشرع القطعية أن كل ذنب دون الشرك لا بأس من مغفرته، كقوله تعالى خالِدِينَ فِيها أَبَداً [سورة التغابن: 9]، ونحوها. فمن لم يعرف معهود الشارع ومقاصده حمل تلك العمومات على ظاهرها في المؤمنين وغيرهم، ومن
هنا توقف مروان بن الحكم في قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا [سورة آل عمران: 188]، حتى سأل ابن عباس فقال له: ما لكم ولهذه الآية؟! .. إلى آخر القصة. وكذلك توقف الصحابة في آية الأنعام: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [سورة الأنعام: 82] حتى فسرها لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن" الظلم" هنا" الشرك". حتى إن الشاطبي نفسه أورد على هذا الترتيب إشكالا قويّا بما عرف عن السلف الصالح من أخذ العمومات على معنى أوسع من معهود اللسان والشريعة جميعا، وهم العارفون بلسان العرب، الواقفون على قواعد الشرع ومقاصده، وضرب لذلك أمثلة ..
منها أن عمر بن الخطاب كان يتخذ الخشن من الطعام، فقيل له: لو اتخذت طعاما ألين من هذا! فقال: أخشى أن تعجل طيباتي .. يقول الله تعالى أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها [سورة الأحقاف: 20]. وقال لبعض أصحابه وقد توسع في الإنفاق شيئا: أين تذهب بكم هذه الآية أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ، إلخ. ذلك مع أن الخطاب في الآية صريح في أنه موجه للكفار، حيث يقول: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ، وختام الآية لا يليق- بحسب قواعد الشرع- إلا بالكفار، حيث يقول:
فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ.
ومنها: أن معاوية رضي الله عنه لما سمع حديث المنفق ماله رياء، والمستشهد في الجهاد رياء، ومعلم الخير رياء، وأنهم هم أول من تسعّر بهم النار يوم القيامة؛ قال: صدق الله ورسوله .. مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها [سورة هود: 15]. فحمل القضية على عمومها حتى للمسلمين، مع مخالفة ذلك للقواعد الشرعية.
ومنها: أن الصحابة لما نزل وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [سورة البقرة: 285] لم يقفوا بها عند نوع سببها من إبداء الشهادة وكتمانها، ولا عند جنسها القريب من إعلان الغرائم وإخفائها، بل حملوها على العموم (كل ما تحدثت به النفس مما يطاق، ومما لا يطاق)، ولذلك انزعجوا منها انزعاجا شديدا، مع أن من القواعد الكلية قوله تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحج: 87]. وقد أقرّهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى نزل قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [سورة البقرة: 286].
ومنها: أن عامة العلماء استدلوا بآية: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة النساء: 115] على أن الإجماع حجة وأن مخالفه عاص، مع أنها نازلة في المرتد عن دين الإسلام، وصدرها يدل على أنها في الكفار، لقوله: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى ....
والجواب عن ذلك إجمالا: أن السلف- رضوان الله عليهم- لم يأخذوا هذه المعاني مأخذ المنصوص عليه الداخل تحت العمومات، بل فهموا- فهم الراسخين في العلم- أن ما لم يذكر من الآية مشترك مع المذكور فيها في وصف ما، فأجروها فيما لم تنزل فيه ولم يقصد منها، اعتبارا للشيء بما يجامعه أو يقاربه.
ذلك .. أن الله تعالى إنما ذكر الكفار في القرآن بأسوإ أعمالهم، والمؤمنين بأحسن أعمالهم ليعتبر أولو الأبصار وليجتهدوا في الفرار من مثل أعمال المسيئين، وفي اللحاق بدرجات المحسنين، سيرا على قدمي الخوف والرجاء .. غير آمنين من مكر الله ولا يائسين من رحمته، وهذا هو معنى قول العلماء: إن كل آية وردت في حق الكفار فإنها تجرّ بذيلها على عصاة المؤمنين .. فما أدقّ هذا التعبير! حيث قالوا" تجر بذيلها" ولم يقولوا: تطبق بنصها، وذلك لأن العقوبات فيها لا تنطبق بنصها على المؤمنين كما هي، وإنما يصيب العاصي طرف منها إن لم يعف الله عنه.
وإلى هذا المعنى- والله أعلم- كان قصد ابن عباس في إجابته مروان، حيث قال له: ما لك ولهذه الآية؟!
…
إلخ. كأنه يريد أن ما فيها من القطع بالعذاب واليأس من النجاة خاص بأهلها ومن يشبههم من الذين يفترون على الله الكذب ويكذبون بآياته. وهذا لا ينافي أن غيرهم ممن ألمّ بذنوبهم قد يصيبه العذاب أيضا، لكن إلى أجل محدود،
وإلى مفازة في النهاية (1).
(1) انظر: الموافقات، وحصاد قلم، د. محمد عبد الله دراز، ص 90.