الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ، فأثبت فيه متشابهات. وما هو راجع لغلط الناظر لا ينسب إلى الكتاب حقيقة، وإن نسب إليه؛ فبالمجاز" (1).
5 - تأويل المتشابه:
المتشابهات تجمع ألوانا مختلفة، وذلك بناء على التعريفات المختلفة لكلّ من المحكم والمتشابه. ونزيدك هنا إيضاحا وتمثيلا أن من بينهما لونين كثر الكلام فيهما ..
أولهما: فواتح السور، وقد اختار الشاطبي أنها من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، وقد أفضنا القول فيها بمبحث الظاهر والباطن في القرآن الكريم، مرجّحين أنها مما يعلم ويفسر، وذلك بناء على ما اخترناه من أن المحكم ما كانت دلالته راجحة، وهو النص والظاهر والمتشابه ما كانت دلالته غير راجحة، وهو المجمل والمؤول، وعلى هذا يؤول المتشابه على ما ترتضيه قوانين اللغة من المعاني كي يخرج من الخفاء إلى الوضوح.
وثانيهما: متشابه الصفات. وحاصل خلاف المختلفين في هذا النموذج على الجملة أنهم بعد الاتفاق على صرف ما جاء من تلك الألفاظ عن ظاهرها المستحيل الموهم للنقص، المتمثل في قيام الحوادث وصفات الجوارح به تعالى إلا ما كان من دعوى ابن تيمية وابن القيم ومن لفّ لفّهما من كون الظاهر في هذه الألفاظ غير مستحيل لكونه ليس صفات الجوارح، بل ظاهر كل شيء بحسبه اللائق به ..
(1) الموافقات، 3/ 97، 98.
أقول: بعد صرفهم الألفاظ الموهمة عن ظاهرها الموهم للنقص، اختلفوا ما بين مفوّض المعنى المراد إليه تعالى- وهم من يسمون ب" المفوّضة"، أو أهل التفويض، وبين باذل جهده في التعرف على المعنى المراد، مستعينا باللغة والسياق ويسمى هذا الفريق" المؤولة"، أو أهل التأويل.
ومن الفريق الأول الشاطبي. غير أنه قسم المتشابه إلى: حقيقي وإضافي، وأراد من الحقيقي: ما لا سبيل إلى فهم المراد منه، وأراد من الإضافي: ما اشتبه معناه لاحتياجه إلى مراعاة دليل آخر .. قال:" فإذا تقصّى المجتهد أدلة الشريعة؛ وجد فيها ما يبين معناه. والتشابه بالمعنى الحقيقي قليل جدّا، وبالمعنى الإضافي كثير"(1).
ثم حكى المذهبين السابقين فقال:" وتسليط التأويل على المتشابه الحقيقي لا يلزم؛ إذ قد تبين أنه لا يتعلق به تكليف سوى مجرد الإيمان به؛ لأنه لم يقع بيانه بالقرآن الصريح، أو بالحديث الصحيح، أو الإجماع القاطع. فالكلام في مراد الله من غير هذه الوجوه تسوّر، على ما لا يعلم وهو غير جائز. وأيضا .. فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المقتدين بهم لم يعرضوا لهذه الأشياء ولا تكلموا فيها بما تقتضي تعيين تأويل من غير دليل .. وهم الأسوة والقدوة، والآية تشير إلى ذلك" .. وهي فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، ثم قال: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.
(1) الموافقات، 3/ 91.
وذهب جماعة من متأخري الأمة إلى تسليط التأويل عليها رجوعا إلى ما يفهم من اتساع العرب في كلامها، من جهة الكناية والاستعارة والتمثيل وغيرها من أنواع الاتساع، تأنيسا للطالبين، وبناء على استبعاد الخطاب بما لا يفهم، مع إمكان الوقوف على قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وهو أحد القولين للمفسرين.
وهي على كلّ مسألة اجتهادية، لكن الصواب من ذلك ما كان عليه السلف" (1).
والتحقيق أنه لا خلاف في الحقيقة وواقع الأمر بين الطريقتين: طريقة التفويض وطريقة التأويل.
فطريقة التفويض التي ثبتت فيها آثار عديدة عن السلف- رضوان الله عليهم- لا تقتضي بحال أن أهلها كانوا يرون رجحان التفويض بإطلاق على التأويل، ولا أنهم كانوا يجهلون المعاني التي ينبغي أن تحمل عليها هذه الظواهر بعد الصرف عن ظواهرها، ولا أنهم كانوا لا يرون صحة طريقة التأويل مطلقا.
كيف .. وهم الراسخون في العلم؟! بل كيف .. وقد سمعوا الله ورسوله أنفسهما يؤوّلان؟! على ما أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم .. مرضت فلم تعدني. قال: يا ربّ .. كيف أعودك وأنت ربّ العالمين؟! قال: أما علمت أنّ عبدي فلانا مرض فلم تعده؟! أما علمت أنّك لو عدته لوجدتني عنده؟! يا ابن آدم ..
استطعمتك فلم تطعمني. قال: يا ربّ .. كيف أطعمك وأنت ربّ العالمين؟!
(1) المرجع السابق، 3/ 98، 99.
قال: أما علمت أنّه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟! أما علمت أنّك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟! يا ابن آدم .. استسقيتك فلم تسقني. قال: يا ربّ .. كيف أسقيك وأنت ربّ العالمين؟! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه .. أما إنّك لو سقيته؛ وجدت ذلك عندي!» (1) .. حيث وقع التأويل في النسبة الإسنادية كما هو ظاهر (مرضت، استطعمتك، استسقيتك) بالإسناد إلى العبد، كما وقع في النسبة الإيقاعية" تعدني، تطعمني، تسقني" بالإيقاع على ضمير العبد. وحاصل هذا وذاك أن المراد هو المجاز، وليس الحقيقة حسبما فهم ابن آدم فأخطأ في فهمه.
فكيف يستنكفون بعد هذا عما لم يستنكف عنه الله ورسوله؟! بل كيف وقد ثبت عنهم التأويل التفصيلي في غير ما موضع، كالذي جاء في" دفع شبه التشبيه" لابن الجوزي بسند صحيح- كما ذكر- عن الإمام أحمد من تأويل المجيء في قوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ [سورة الفجر: 22]، والإتيان في قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [سورة البقرة: 210]، من أن المراد إتيان أمره، على ما في الآية الأخرى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [سورة الأنعام: 158]. كما أجمعوا كلهم على تأويل قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [سورة البقرة: 115]، وقوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [سورة ق: 16] .. إلى غير ذلك من آي الذكر الحكيم. كما ثبت عن الإمام مالك والأوزاعي تأويل النزول في حديثه- على ما بين النووي في شرح هذا الحديث من صحيح مسلم- وإجماعهم كذلك على تأويل الأحاديث
(1) انظر: صحيح مسلم، كتاب البر، باب عيادة المريض، حديث رقم 4661.
الثلاثة المشهورة «قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن» ، «الحجر الأسود يمين الله في الأرض» ، «إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن» .
وإنما الوجه في نكولهم في أكثر الأحيان عن التأويل أنهم كانوا يسدّون بابا يخشون أن يلج منه على قلوب العامة أهل الزيغ والضلالة. فأما بعد إذ فتح ذلك الباب على
مصراعيه وماضت شبهات المجسّمة والجاحدين على ما لا يحل من الظاهر في قلوب كثير من الدهماء؛ فإنه لم يبق معدل لعاقل يجل الله ورسوله ويرحم عباده أن يرتكسوا في حمأة الضلالة فيه ..
نقول: لم يبق معدل لمثل هذا العاقل عن مكايدة الزائغين بتأويل ما تشبثوا به من هذه الظواهر. فلعمر الحق لقد علم ذو نصفة وبصيرة أنه لا يفلّ حد الزائغ ويجتث شبهته من جذورها أعظم من بيان التأويل لما يشكك به! ولو قدّر أن الأكابر ممن أثرت عنهم هذه الآثار في التفويض قد ابتلوا بما ابتلي به المؤولة من سورة شبهات التجسيم والتشبيه؛ لكانوا أحفى خلق الله بالتأويل وأسبقهم إليه! ألم تر إلى هذا الفحل من أعلام علماء السنة- رواية ودراية- أبي سليمان الخطابي .. كيف يقول في حديث وضعه تعالى قدمه أو رجله في النار:" فيشبه أن يكون من ذكر القدم والرجل أو ترك الإضافة، إنما تركها تهيّبا لها طالبا للسلامة من خطأ التأويل فيها. وكان أبو عبيدة- وهو أحد أئمة أهل العلم- يقول:
" نحن نروي هذه الأحاديث ولا نريغ لها المعاني". قال أبو سليمان:" ونحن أحرى بألّا نتقدم فيما تأخر عنه من هو أكثر علما وأقدم زمانا وسنّا، ولكن الزمان الذي نحن فيه قد صار أهله حزبين: منكر لما يروى من نوع هذه الأحاديث رأسا، ومكذب به أصلا! وفي ذلك تكذيب العلماء الذين رووا هذه الأحاديث وهم أئمة الدين، ونقلة السنن، والواسطة بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. والطائفة
الأخرى مسلّمة للرواية فيها، ذاهبة في تحقيق الظاهر منها مذهبا يكاد يفضي بهم إلى القول بالتشبيه. ونحن نرغب عن الأمرين معا، ولا نرضى بواحد منهما مذهبا، فيحق علينا أن نطلب لما يرد من هذه الأحاديث- إذا صحت من طريق النقل والسند- تأويلا يخرّج على معاني أصول الدين ومذاهب العلماء، ولا تبطل الرواية فيها أصلا إذا كانت طرقها مرضيّة ونقلتها عدولا. قال أبو سليمان:
ذكر القدم هنا يحتمل أن يكون المراد به قدّمهم الله للنار من أهلها، فيقع بهم استيفاء عدد أهل النار، وكل شيء قدمته فهو قدم، كما قيل لما هدّمته: هدم، ولما قبضته: قبض، ومن هذا قوله عز وجل: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سورة يونس:
2]، أي ما قدموه من الأعمال الصالحة، ويؤيده قوله في الحديث:«وأما الجنة؛ فإن الله ينشئ لها خلقا» .. فاتفق المعنيان: أن كل واحدة من الجنة والنار تمدّ بزيادة عدد يستوفى بها عدة أهلها، فتمتلئ عند ذلك" (1).
وقال الحافظ ابن حجر:" أكثر السلف- لعدم ظهور أهل البدع في أزمنتهم- يفوضون علمها إلى الله تعالى، مع تنزيهه- سبحانه وتعالى عن ظاهرها الذي لا يليق بجلال ذاته. وأكثر الخلف يؤولونها، بحملها على محامل تليق بذلك الجلال الأقدس والكمال الأنفس؛ لاضطرارهم إلى ذلك، لكثرة أهل الزيغ والبدع في أزمنتهم، ومن ثمّ .. قال إمام الحرمين: لو بقي الناس على ما كانوا عليه؛ لم نؤمر بالاشتغال بعلم الكلام، وأما الآن؛ فقد كثرت البدع، فلا سبيل إلى ترك أمواج الفتن تلتطم" .. إلى أن قال:" والحاصل أن السلف والخلف مؤولون؛ لإجماعهم على صرف اللفظ عن ظاهره. ولكن تأويل السلف إجمالي؛
(1) معالم السنن، الخطّابي، 5/ 95.