الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وغير ذلك كثير مما هو مسطّر في كتاب" الموافقات" و" فضائح الباطنية" للإمام الغزالي.
تفاسير مشكلة مترددة بين الباطن الصحيح والفاسد:
تقرر سابقا أن المقصود ب" باطن القرآن" عند أهل الحق: ما كان من المعاني راجعا إلى تحقيق العبد لوصف العبودية، والإقرار لله بحق الربوبية.
وقد حاد أقوام عن هذا النهج، ففسّروا القرآن- كما زعموا- تفسيرا باطنا لا تتسع له قواعد اللغة، ولا أصول الشرع، وهو" التفسير الباطني" المردود عند أهل الحق وسبقت له أمثلة آنفا.
وهنا .. يسوق الشاطبي تفاسير مشكلة، يمكن أن تكون من قبيل الباطن الفاسد، أو من قبيل الباطن الصحيح.
" فمن ذلك: فواتح السور، نحو:" الم" و" المص" و" حم" .. ونحوها. فسّرت بأشياء: منها ما يظهر جريانه على مفهوم صحيح، ومنها ما ليس كذلك"(1).
وبداية، وقبل أن ننقل الأقوال التي ذكرها في تفسير الحروف المقطعة أوائل السور .. فإننا نقول: لم يختلف أحد من أهل الفقه بالقرآن في أن جميع الألفاظ التي يتهجّى بها- والتي منها الحروف المقطعة أوائل السور- أسماء، مسمّياتها الحروف التي ركّبت منها الكلم، بحيث إذا أطلق أيّ لفظ من هذه الألفاظ دون قرينة صارفة له عن مدلوله الأصلي لم يفهم منه غير ذلك المدلول. ثم إن المناسبة بين المعنى المتبادر الواضح لهذه الأسماء- الذي هو مسمياتها" حروف المعجم"- وبين المعاني التي تليها، بل بين القرآن عامة، هي أنه لمّا كانت هذه
(1) الموافقات، 3/ 396.
المسمّيات عنصر الكلام وبسائطه التي يتركب منها؛ افتتح الله تسعا وعشرين سورة من سور القرآن، تمثل عدد الحروف العربية كلها، بطائفة من أسماء الحروف .. تسجيلا لعجزهم، وإظهارا لتعنتهم في عدم إيمانهم. فإن الله عز وجل يقول لهم بلسان هذه الحروف:" إن هذا القرآن الذي عجزتم عن الإتيان بما يدانيه- فضلا عما يساويه- لم يأتكم بلغة غير لغتكم، وإنما أتاكم بنظم عربي اللّحمة والسّدى، لا تتركب كلماته إلا من نفس حروفكم العربية التي تنطقون بها، فعجزكم عن الإتيان بمثله وأنتم أساطين البيان ليس إلا لكونه صادرا عن قدرة إلهية،
هي- وحدها- القادرة على تركيب هذا النظم العجيب الذي لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه!
وهذا القدر لا خلاف فيه.
أما الاختلاف الكثير والمتشعب في كتب التفسير وعلوم القرآن؛ فليس اختلافا في أصل المعنى الوضعي لهذه الحروف المقطعة، وإنما هو خلاف في المعنى المراد منها في مستهل السور .. أهو ذلك المعنى الوضعي نفسه؟ أم أنها نقلت فوضعت، بإزاء معنى آخر هو مراد الله منها؟
ومن هنا .. تعددت الأقوال التي ذكرها الشاطبي وغيره.
من ذلك: ما نقل عن ابن عباس في الم (1):" الألف: الله، واللام:
جبريل، والميم: محمد صلى الله عليه وسلم". والمعنى: أن الله أنزل جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم. قال
الشاطبي:" وهذا إن صح في النقل؛ فمشكل؛ لأن هذا النمط من التصرف لم يثبت في كلام العرب هكذا مطلقا"(1).
وتكلف بعض الناس؛ فجعلها دالة على مدة بقاء هذه الأمة. قال الشاطبي:" وهو قول يفتقر إلى إثبات أن العرب كانت تعهد في استعمالها الحروف المقطعة أن تدل بها على أعدادها، وربما لا يوجد مثل هذا لها البتة؛ وإنما كان أصله في اليهود"(2).
كما زعم البعض أنها دالة على أمور وأحوال الدنيا والآخرة، وأنها مجمل كلّ مفصّل، وعنصر كلّ موجود. وهذا القول محال على دعوى الكشف والاطلاع. ويعقب الشاطبي على ذلك بأن:" دعوى الكشف ليس بدليل في الشريعة على حال، كما أنه لا يعدّ دليلا في غيرها"(3).
وأظهر الأقوال عند الشاطبي في الأحرف المقطعة أنها أسرار لا يعلمها إلا الله.
قلت: زعمه أنها أسرار غير صحيح؛ إذ لا يجوز أن يكون في كتاب الله- بل في شرعه جميعا- ما لا يعرف مدلوله فلا يعقل إذن أن تكون هذه الحروف مما استأثر الله بعلم مدلوله- على ما طنطن به الكثيرون- فليست من المتشابه كما ذهب؛ إذ معناها- كما سبق- عين مسمياتها المعروفة؛ وأنها مسوقة لغرض التحدي، وأنها محكمة لاستعمالها فيما هي راجحة الدلالة عليه على ما هو التحقيق- كما ذكره الإمام الرازي- في أمر المحكم والمتشابه، من أن المحكم هو
(1) الموافقات، 3/ 396.
(2)
المرجع السابق، 3/ 396، 397.
(3)
الموافقات، 3/ 367.
ما كان راجح الدلالة على معناه بنفسه .. احتمل مرجوحا" كالظاهر"، أو لم يحتمل" كالنص". وأن المتشابه ما ليس كذلك، أي ما كان غير راجح الدلالة بنفسه .. مرجوحا كان" كالمؤوّل"، أو مستوي الدلالة" كالمجمل"(1).
وكأني بك الآن قد علمت من مجرى الحديث عن هذه الحروف أن أقربها هو ما ذكرناه أولا؛ إذ الأصل في الألفاظ استعمالها فيما وضعت له، ولا يجوز أن تخرج عن هذا الأصل إلا إذا صرفت عنه أدلة أو قرائن معتبرة. على أنه ليس في لغة العرب شاهد قوي يؤيد هذه الأقوال التي
ذكرها الشاطبي وغيره، وليس في سياق القرآن قرينة تسندها. ولا تقولنّ إنها مروية عن السلف؛ إذ قد روي عنهم السكوت أيضا والتوقف، على أن من المقرر في أصول الحديث أنه لا تلازم بين السند والمتن .. فليس كل ما روي بسند صحيح؛ يكون صحيح الدلالة على معناه.
ولله درّ الأستاذ الجليل الدكتور محمد عبد الله دراز حيث يقول:" وإذا ثبت الاختلاف في المسألة عنه- أي ابن عباس- بل عن كلّ منهم؛ فقد أصبحت مسألة اجتهادية، وجب على الناظر أن يتخير أقواها مدركا، وأقربها إلى ذوق العربية"(2).
(1) انظر: التفسير الكبير، 7/ 179:182.
(2)
حصاد قلم، د. محمد عبد الله دراز، ص 44.