الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(3) المحكم والمتشابه
1 - إطلاقات المحكم والمتشابه:
قال الشاطبي:" يطلق المحكم بإطلاقين: عام، وسيأتي بيانه. وخاص، ويراد به خلاف المنسوخ، وهي عبارة علماء الناسخ والمنسوخ، سواء علينا أكان ذلك الحكم ناسخا أم لا، فيقولون: هذه الآية محكمة، وهذه الآية منسوخة"(1).
ويطلق المتشابه ويراد منه خصوص ما يرد من القصة الواحدة في سور شتى وفواصل مختلفة.
قال الزركشي:" ويكثر في إيراد القصص والأنباء. وحكمته: التصرف في الكلام، وإتيانه على ضرب ليعلمهم عجزهم عن جميع طرق ذلك مبتدا به ومتكررا"(2).
ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى في قصة بني إسرائيل: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [سورة البقرة: 58، 59].
ويقول في القصة عينها في موضع آخر: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي
(1) الموافقات، 3/ 85.
(2)
البرهان، 1/ 112.
قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ [سورة الأعراف: 161، 162].
كما يطلق المتشابه- مقابلا للإطلاق الخاص عند الشاطبي- على المنسوخ. فهذا أحد إطلاقاته، وهو في غير القرآن.
أما في القرآن؛ فيطلق كل منهما بإطلاقين:
أحدهما: يطلق كلّ منهما وصفا لجميع القرآن، قال تعالى في بيانه الإلهي:
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [سورة هود: 1]، وقال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [سورة الزمر: 23].
فكلّ من وصفي الإحكام والتشابه في هاتين الآيتين صفة مدح لجميع القرآن، لا دلالة في أحدهما على ما يضاد الآخر. فمعنى كون القرآن كله محكما- كما في قوله:
أُحْكِمَتْ آياتُهُ: الإتقان، والمنع من الفساد، وجعله تعالى آيات كتابه حكيمة.
وهذه الأوجه الثلاثة التي ذكرها المفسرون كلها سائغة من حيث اللغة، ومن حيث صحة الإرادة كذلك. غير أن الوجه الثالث هو خيرها جميعا على ما حققه أستاذنا الجليل الدكتور إبراهيم خليفة، حيث يقول:" إن فعل" أحكمت" بمعنى جعلت حكيمة، بوصفه مطلقا عن القيد، تذهب النفس- الفاقهة لمقام إيراده وصف مدح لآيات الكتاب العزيز- في اجتلاء عظمة كنهه كلّ مذهب، فلا تلبث أن تصرفه إلى الفرد الكامل، وذلك يعني أن الآيات وضعت كل شيء في أحسن مواضعه السليمة اللائقة. ولا يتم هذا إلا إذا كان كلّ من نظمها ومعناها وغايتها
موضوعا في أسلم المواضع وأحسنها بحيث تكون من بلاغة النظم وشرف المعنى وسموّ الغاية" (1).
وأما معنى كون القرآن كله متشابها؛ فإن من الجلي أن صوغ مادة التشابه به في قوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً [سورة الزمر: 23]، على صورة التفاعل يقضي بأن الكتاب الكريم ذو أجزاء كلها يشبه بعضها بعضا، على ما هو الكثير الغالب في صورة التفاعل.
وقد بين المفسرون الكمالات التي تتشابه فيه أبعاض الكتاب العزيز.
قال الزمخشري:" و" متشابها" مطلق في مشابهة بعضه بعضا. فكان متناولا لتشابه معانيه في الصحة، والإحكام، والبناء على الحق والصدق، ومنفعته الخلق، وتناسب ألفاظه، وتناسقها في التخير والإصابة، وتجاوب نظمه وتأليفه في الإعجاز والتبكيت"(2).
وبهذا يتبين أن كلا من الإحكام في آية هود والتشابه في آية الزمر نعت كمال للقرآن جميعا، وأنه ليس بينهما أدنى قدر من التضاد، بحيث يقتضي الاتصاف بأحدهما التجرد من الآخر. بل في اجتماعهما شاهد حقية القرآن وكماله، وآية: لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192).
(1) انظر: رسالة المحكم والمتشابه، د. إبراهيم خليفة، 1/ 3.
(2)
انظر: الكشاف، 4/ 95.