الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 - عصره وبيئته:
عاش الإمام أبو إسحاق الشاطبي في غرناطة من أرض الأندلس، ولم يذكر أنه فارقها حتى للحج، بله طلب العلم.
وكان القرن الذي عاش فيه هو الثامن الهجري بين ثلاثينياته وتسعينياته.
فما بيئة غرناطة ووقتذاك؟ وما أحوالها المعاصرة لحياة الإمام أبي إسحاق؟
بيئة إقامة الشاطبي غرناطة، التي كانت في بداية عهد المسلمين في الأندلس واقعة ضمن إقليم البيرة التي صرف إليها عبد الرحمن الداخل الأموي جل اهتمامه، ثم حين سقطت الدولة الأموية في الأندلس وأحرقت البيرة انعكس الأمر وخرج أهلها منها وجعلوا قبلة فرارهم وهجرتهم إلى غرناطة، وأصبحت هي عاصمة الإقليم، بينما غدت البيرة تابعة لها، واتخذها المرابطون قاعدة لهم بعد أن افتكّوها من بربر صنهاجة- كما يذكر- ثم دالت الدولة فأخذها منهم الموحّدون، ثم استولى عليها ابن هود أحد ملوك الطوائف، إلى أن نزعها منه مؤسس الدولة النصرية دولة بني الأحمر، عام 635 هـ، وظل بنو الأحمر يحكمون غرناطة قرابة قرنين ونصف من الزمان، وفي أوج دولتهم هذه عاش الإمام أبو إسحاق الشاطبي، وعاصر من ملوكها مزيجا .. منهم القوي الحكيم، ومنهم الضعيف غير المجرّب فتستقر الأحوال حينا فيعمل الناس وينتجون، وتضطرب أحيانا متجهة إلى الحركة، أو تضعف. وقد يخرج منها البعض مهاجرا.
كانت ولادة الشاطبي في هذا العهد، وعلى الذي اخترناه من تاريخ ولادته، يكون ذلك مترددا بين عهد اثنين من ملوك بني الأحمر هما محمد بن إسماعيل
(تولى 725 هـ، وقتل 733 هـ)، وأخوه أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل (تولى 733 هـ، وقتل 755 هـ)، وكان أبو الحجاج مهتمّا بالعلم والأدب، وقد استوزر ذا الوزارتين لسان الدين ابن الخطيب، وعلى عهده كان في غرناطة علماء كبار منهم ابن الفخار البيري شيخ الشاطبي، ففي عهد أبي الحجاج يكون الشاطبي يشق طريق تكوينه العلمي على يد أعلام قرطبة.
ثم ولي بعد أبي الحجاج ولده الغني بالله محمد بن يوسف بن إسماعيل (ولي 755 هـ، ومات 793 هـ)، أي أن حكمه استمر إلى ما بعد وفاة الشاطبي، وكانت فترة طويلة تميزت بأمن واستقرار نوعا ما، تخللها ذلك الاضطراب الذي خرج فيه الغني بالله إلى المغرب، وتولى مكانه أخوه إسماعيل، ثم قتله زوج أخته" البرميخو" وتولى مكانه، وكان" البرميخو" فاسدا.
ولما كانت الرعايا على دين الملوك فقد انتقل هذا الفساد إلى الحياة اليومية، لا سيما انتشار الحشيشة واستحلالها كما كان يصنع البرميخو، وفي هذه السنوات الثلاث لجأ معظم الفقهاء إلى بلاط بني مرين بفاس. كما ساعد في نقل الفساد إلى الحياة اليومية كون غرناطة قبلة كل شارد فأصبحت ملتقى للانحرافات الدينية والخلقية في سائر الحياة العامة- كما يعبر البعض- وهكذا ما كان يجري في سراديب السياسة بين الطبقات الحاكمة من كلب شديد قائم على السلطة.
وحسبك أن تعلم من ذلك أن ابني إسماعيل اللذين ذكرناهما وأباهما أبا اليد إسماعيل، كل هؤلاء قتل في سبيل السيطرة، وما حدث للغني بالله كان وراءه أخوه إسماعيل وهلك إسماعيل على يد البرميخو. وما دون الأمراء كان كذلك حال الوزراء كالفتنة التي وقعت للسان الدين ابن الخطيب، وضاعفها أن كان وراءها تلميذه ابن زمرك الذي أرضعه ابن الخطيب الأدب وانتهت بقتل ابن الخطيب عام 776 هـ،
ودارت الأيام على ابن زمرك فقتل هو الآخر عام 797 هـ، وكان ابن زمرك صديقا ندّا للشاطبي، كما سبق ذكره.
هكذا كانت بيئة غرناطة وعصر الشاطبي، فعلى ما فيها من ازدهار في العلوم والآداب بحيث كان ذلك الوقت عصرا لكبار الفقهاء كابن عرفة، وابن مرزوق الجد، والعقباني، والأدباء كلسان الدين ابن الخطيب، وابن خلدون
…
وغيرهم ممن عرفت .. على هذا الازدهار كان ما رأيت من سريان الداء إلى جسد الحياة اليومية، وما سمعت من تهتك أديم نظام السلطة والكلب على الحكم.
وعلى كل ذلك لم يكن هناك صدى فيما كتبه الشاطبي لهذه الأحوال، وليس له تجاهه موقف فصيح، غير أنه يمكن رد ذلك إلى أنه كان يكتفي بموقفه الفكري المميز الذي يردّ فيه كل أسباب الفساد الخلقي والاضطراب الاجتماعي إلى البعد عن النهج السويّ والسنة السمحاء، وإيثار البدعة وارتضائها، وهذا ميدانه الذي بقي فيه سيفه مصلتا وتحمل في سبيل غايته كل عنت ومشقة.
ولعل سائلا يسأل لم لم يترك الشاطبي غرناطة والأندلس إلى غيرها؟
ونقول: لو فعل؛ لكان كالمستجير من الرمضاء بالنار ففي تلك المرحلة العصيبة لم تكن أرض للمسلمين إلا وهي تنعي صحة الإسلام إلى أهله الغيورين، فبنو مرين في فاس تتراجع دولتهم بعد وفاة أبي الحسن المريني 752 هـ، ومصر فيها الأحوال مضطربة في دولة المماليك البحرية ثم الجركسية وهم يواجهون خطر التتار من جهة