الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرق بين التأويل الباطني الفاسد والتفسير الإشاري:
التفسير الإشاري هو تأويل القرآن بغير ظاهره؛ لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك والفيض ويمكن الجمع بينها وبين الظاهر المراد. وهذا هو عين مراد الشاطبي من" التفسير الباطني الصحيح" الذي سبق ذكره.
غير أن بعض الناس قد يخلط لدى النظرة العجلى بين التأويل الباطني الفاسد وبين ما اصطلح على تسميته بالتفسير الإشاري، مع ما بينهما من فرق نبّه عليه المحققون من أهل الفقه في كتاب الله.
يقول الشيخ الجليل محمد الخضر حسين:" إن" أصحاب الإشارات" غير من يسمونهم" الباطنية". فالباطنية يصرفون الآية عن معناها المنقول أو المعقول إلى ما يوافق بغيتهم، بدعوى أن هذا هو مراد الله دون ما سواه. وأما أصحاب الإشارات؛ فإنهم كما قال أبو بكر بن العربي في كتابه" العواصم والقواصم" جاءوا بألفاظ الشريعة من بابها، وأقروها على نصابها .. لكنهم زعموا أن وراءها معاني غامضة خفية وقعت الإشارة إليها من ظواهر هذه الألفاظ، فعبروا إليها بالفكر، واعتبروا منها في سبيل الذكر.
فأصحاب الإشارات لا ينفون- كما ينفي الباطنية وأذنابهم- المعنى الذي يدل عليه اللفظ العربي من نحو الأحكام، والقصص، والمعجزات .. وإنما يقولون:
إنهم يستفيدون من وراء تلك المعاني، وعلى طريق الاعتبار، معاني فيها موعظة وذكرى.
وعلى ما بين مذهبهم ومذهب الباطنية من فرق واضح ترى في أهل العلم من نازعهم في إلصاق تلك المعاني بألفاظ القرآن، وقال: إن ما جاء في صريح القرآن والسنة من مواعظ وحكم يغني عن ارتكاب هذه الطرق البعيدة، التي هي
في الأصل نزعة قوم شأنهم الصّدّ عن هدى الله، وتعطيل أحكام شريعته الغرّاء" (1).
وأيّا ما كان .. فإن الميزان المحكّم في تفسير القرآن الكريم يقتضي التزام قواعد اللغة العربية، وأصول الشريعة الإسلامية. فتفسير النص القرآني بما تتخيله الأوهام وسمادير الأحلام- بأي اسم كان- دون الانضباط بأصول اللغة والشريعة .. باطل من القول وزور.
ومن ثمّ .. فإننا سنحكّم هذا الميزان فيما نقله الشاطبي من تأويلات عن بعض أهل العلم؛ إذ القرآن الكريم ليس خاضعا لتأييد ما تصبو إليه الآراء والأهواء.
من ذلك .. ما نقل عن سهل بن عبد الله في قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً [سورة البقرة: 22] .. أي أضدادا، وأكبر الأنداد: النفس الأمارة بالسوء. وكذلك تأويله قوله: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ [سورة البقرة: 35] بأنه لم يرد معنى الأكل حقيقة، وإنما أراد معنى مساكنة الهمة لشيء هو غير الله عز وجل.
فهذه المعاني الإشارية التي ذكرت في هاتين الآيتين صحيحة في ذاتها؛ إذ دلت عليها أدلة من القرآن والسنة. لكنّ الآية التي ذكر تحتها ذلك المعنى لا تدل عليه بظاهر لفظها.
وأما تأويله قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران:
96] بأن:" باطن البيت: قلب محمد صلى الله عليه وسلم .. يؤمن به من أثبت لله في قلبه التوحيد، واقتدى بهدايته" فقد قال عنه الشاطبي:" هذا التفسير يحتاج إلى بيان .. فإن
(1) بلاغة القرآن، محمد الخضر حسين، ص 131، 132.
هذا المعنى لا تعرفه العرب، ولا فيه من جهتها وضع مجازيّ مناسب، ولا يلائمه مساق بحال" (1).
وكذلك ما نقل عنه في تفسير قوله تعالى: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ [سورة النساء: 36]. فقد فسّر" الجار ذا القربى" على أن المراد به: القلب، و" الجار الجنب": النفس الطبيعية، و" الصاحب بالجنب": العقل المقتدي بعمل الشرع، و" ابن السبيل": الجوارح المطيعة لله. وهذا طراز من التفسير الباطني الفاسد، المردود عند أهل الحق. قال الشاطبي:" وذلك لأن الجاري على مفهوم كلام العرب في هذا الخطاب ما هو الظاهر من أن المراد ب" الجار ذي القربى" وما ذكر معه ما يفهم منه ابتداء، وغير ذلك لا يعرفه العرب
…
" .. " وليس- أيضا- ثمّ دليل يدل على صحة هذا التفسير، لا من مساق الآية- بل إنه ينافيه- ولا من خارج- إذ لا دليل عليه كذلك-. بل مثل هذا أقرب إلى ما ثبت ردّه ونفيه عن القرآن من كلام الباطنية" (2).
وقال في قوله: صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ [سورة النمل: 44] الصرح: نفس الطبع. والممرّد: الهوى، إذا كان غالبا؛ ستر أنوار الهدى.
وحمل بعضهم قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [سورة البقرة: 114] على أن المساجد: القلوب .. تمنع بالمعاصي من ذكر الله.
(1) الموافقات، 3/ 401.
(2)
الموافقات، 2/ 402.
ونقل في قوله تعالى: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [سورة طه: 12] أن باطن النعلين هو الكونان: الدنيا والآخرة. وذكر عن الشّبلي أن المعنى: اخلع الكلّ منك؛ تصل إلينا بالكلية.
ثم قال الشاطبي:" وهذا كله- إن صح نقله- خارج عما تفهمه العرب، ودعوى ما لا دليل عليه في مراد الله بكلامه"(1).
(1) الموافقات، 3/ 403.