الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الداء، فتمنع حصوله، وإذا حصل فتمنع تزايده وانتشاره»
(1)
.
(ج) الكمية
وهي غاية في الأهمية، سواء ما يتعلق بصحة الإنسان أو غير ذلك
(2)
.
وقد جاء الشرع بوضع قاعدة من عمل بها، سلم من أكثر الأمراض، وقد تتابع عليها الأطباء ونصحوا بتطبيقها سواء منهم المؤمنون برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أم غيرهم.
روى الترمذي في سننه من حديث مقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا مَلأ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِن بَطْنٍ، حَسْبُكَ يَا ابْنَ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَكَ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَ فَثُلُثٌ طَعَامٌ، وَثُلُثٌ شَرَابٌ وَثُلُثٌ نَفَسٌ»
(3)
.
(4)
. أهـ
(1)
زاد المعاد (4/ 147 - 148) بتصرف.
(2)
ونقصد المضار الدينية والمالية.
(3)
برقم 2380، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وابن حبان في صحيحه برقم 5213 واللفظ له، وحسنه الحافظ في الفتح (9/ 528).
(4)
جامع العلوم والحكم، ص 503.
(1)
.
هذا الحديث الشريف اشتمل على فوائد كثيرة:
أولاً: أن في تقليل الطعام منافع كثيرة للجسم، فمن ذلك: رقة القلب، وقوة الفهم، وانكسار النفس، وكثرة الأكل توجب ضد ذلك.
(2)
.
ثانيًا: أن كثرة الأكل تسبب أمراضًا للبدن، قال ابن القيم رحمه الله: «الأمراض نوعان: أمراض مادية تكون عن زيادة مادة أفرطت في البدن حتى أضرت بأفعاله الطبيعية وهي أكثر
(1)
جامع العلوم والحكم ص 503؛ وفتح الباري (9/ 528).
(2)
جامع العلوم والحكم ص 504 - 506.
الأمراض، وسببها إدخال الطعام على البدن قبل هضم الأول، والزيادة في القدر الذي يحتاج إليه البدن، وتناول الأغذية القليلة النفع، البطيئة الهضم، والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة؛ فإذا ملأ الآدمي بطنه من هذه الأغذية واعتاد ذلك، أورثته أمراضًا متنوعة، منها بطيء الزوال أو سريعه، فإذا توسط في الغذاء، وتناول منه قدر الحاجة، وكان معتدلاً في كميته وكيفيته: كان انتفاع البدن به أكثر من انتفاعه بالغذاء الكثير.
ومراتب الغذاء ثلاثة: أحدها: مرتبة الحاجة، الثانية: مرتبة الكفاية، الثالثة: مرتبة الفضلة.
قال ابن الرومي:
فَإِنَّ الدَّاءَ أَكْثَرُ مَا تَرَاهُ
…
يَكُونُ مِنَ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ
ثالثًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن اللقيمات تكفي لحاجة الجسم فلا تسقط قوته ولا تضعف معها، فإن تجاوزها فليأكل في ثلث بطنه، ويدع الثلث الآخر للماء، والثالث للنفس، وهذا أنفع ما للبدن وللقلب، فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب، فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النفس، وعرض له الكرب والتعب، بمنزلة حامل الحمل الثقيل، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب، وكسل الجوارح عن الطاعات، وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع، فامتلاء البطن من الطعام
مضر للقلب والبدن»
(1)
.
ويلاحظ هذا في رمضان، فإن من يكثر من تناول الطعام في فطوره، فإن صلاة العشاء والتراويح تكون ثقيلة عليه.
رابعاً: الحث على التقليل من الأكل؛ ففي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ»
(2)
، والمراد أن المؤمن يأكل بأدب الشرع فيأكل في معي واحد، والكافر يأكل بمقتضى الشهوة والشره والنهم، فيأكل في سبعة أمعاء؛ وندب صلى الله عليه وسلم مع التقلل من الأكل والاكتفاء ببعض الطعام إلى الإيثار بالباقي منه، روى البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الاثْنَيْنِ، وَطَعَامُ الاثْنَيْنِ يَكْفِي الأَرْبَعَة، وَطَعَامُ الأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ»
(3)
.
خامسًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما حث على التقليل من الطعام فإنه كان يفعل ذلك هو وأصحابه وهذا في الغالب، وإن كان ذلك لعدم وجود الطعام فإن اللَّه لا يختار لرسوله إلا أكمل الأحوال وأفضلها
(4)
؛ روى الترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال:
(1)
انظر: زاد المعاد (4/ 21 - 22)
(2)
صحيح مسلم برقم 2062، وصحيح البخاري برقم 5393.
(3)
صحيح مسلم برقم 2059، وصحيح البخاري برقم 5392 واللفظ لمسلم.
(4)
جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 428 بتصرف.
تجشأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ القِيَامَةِ»
(1)
.
سادسًا: أن هذا الحديث فيه الحث على الاقتصاد وعدم الإسراف، قال تعالى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} [الأعراف: 31]. قال ابن القيم رحمه الله: «فأرشد عباده إلى إدخال ما يقيم البدن من الطعام والشراب عوض ما تحلل منه، وأن يكون بقدر ما ينتفع به البدن في الكمية والكيفية، فمتى جاوز ذلك كان إسرافًا، وكلاهما مانع من الصحة جالب للمرض، أعني عدم الأكل والشرب أو الإسراف فيه، فحفظ الصحة كله في هاتين الكلمتين الإلهيتين»
(2)
.
سابعًا: أن هذا الحديث فيه تعويد على الصبر والتحمل والانتصار على النفس الشهوانية، ولذلك يسمى رمضان شهر الصبر.
«فأما المطعم والمشرب، فلم يكن من عادته صلى الله عليه وسلم حبس النفس على نوع واحد من الأغذية، لا يتعداه إلى ما سواه، فإن ذلك يضر بالطبيعة جدًّا، وقد يتعذر عليها أحيانًا، فإن لم
(1)
برقم 2478، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
(2)
زاد المعاد (4/ 305).
يتناول غيره ضعف أو هلك، وإن تناول غيره لم تقبله الطبيعة واستضر به، فقصرها على نوع واحد دائمًا، ولو أنه أفضل الأغذية خطرٌ مضر.
بل كان يأكل ما جرت عادة أهل بلده بأكله من اللحم والفاكهة والخبز والتمر وغيره
…
وإذا كان في أحد الطعامين كيفية تحتاج إلى كسر وتعديل كسرها وعدلها بضدها إن أمكن، كتعديله حرارة الرطب بالبطيخ، وإن لم يجد ذلك تناوله على حاجة وداعية من النفس من غير إسراف، فلا تتضرر به الطبيعة.
وكان إذا عافت نفسه الطعام لم يأكله، ولم يحملها إياه على كره، وهذا أصل عظيم في حفظ الصحة، فمتى أكل الإنسان ما تعافه نفسه ولا تشتهيه كان تضرره به أكثر من انتفاعه.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: «مَا عَابَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا قَطُّ، إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِلَّا تَرَكَهُ»
(1)
.
ولما قُدم إليه الضب المشوي لم يأكل منه، فقيل له: هو حرام؟ قال: لا، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه. فراعى عادته وشهوته، فلما لم يكن يعتاد أكله بأرضه وكانت نفسه لا تشتهيه أمسك عنه، ولم يمنع من أكله من يشتهيه، ومن
(1)
أخرجه البخاري برقم 3563، ومسلم برقم 2064.
عادته أكله.
وكان أحب اللحم إليه الذراع، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ
(1)
.
وذكر أبو عبيد
(2)
وغيره عن ضُباعة بنت الزبير رضي الله عنها أنها ذبحت في بيتها شاة فأرسل إليها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «أَنْ أَطْعِمِينَا مِنْ شَاتِكُمْ» ، فقالت للرسول: ما بقي عندنا إلا الرقبة، وإني لأستحيي أن أرسل بها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فرجع الرسول فأخبره، فقال:«ارْجِعْ إِلَيْهَا فَقُلْ لَهَا: أَرْسِلِي بِهَا فَإِنَّهَا هَادِيَةُ الشَّاةِ، وَأَقْرَبُ الشَّاةِ إِلَى الْخَيْرِ، وَأَبْعَدُهَا مِنَ الأَذَى» .
ولا ريب أن أخف لحم الشاة: لحم الرقبة، ولحم الذراع والعضد، وهو أخف على المعدة، وأسرع انهضامًا، وفي هذا مراعاة الأغذية التي تجمع ثلاثة أوصاف: كثرة نفعها وتأثيرها في القوى. الثاني: خفتها على المعدة وعدم ثقلها عليها. الثالث: سرعة هضمها. وهذا أفضل ما يكون من الغذاء، والتغذي باليسير من هذا أنفع من الكثير من غيره.
(1)
البخاري 3340، ومسلم 194.
(2)
قال محققو الزاد (4/ 312): في غريب الحديث (1/ 315)، وأخرجه أيضًا النسائي في الكبرى 6624، وأحمد 27031، والطبراني في الكبير (24/ 337)، وفي الأوسط 6040، قال ابن مفلح في الآداب الشرعية (2/ 365):«فيه الفضل بن الفضل، قال بعضهم: تفرد عنه أسامة بن زيد الليثي» .
وكان يحب الحلواء والعسل، وهذه الثلاثة - أعني اللحم والعسل والحلواء- من أفضل الأغذية وأنفعها للبدن والكبد والأعضاء، وللاغتذاء بها نفعٌ عظيم في حفظ الصحة والقوة»
(1)
.
تنبيه:
اعلم أنه لا يتم الانتفاع بهذه الأغذية الثلاثة وغيرها إلا بأن تكون سليمة مما دخل على الأغذية في هذا الزمان من التعديلات الوراثية والمواد الكيمائية والمواد الحافظة ومحسنات الألوان والطعوم وغيرها من التراكيب التي تجعلها إلى الضرر أقرب منها إلى النفع، فاللحوم النافعة هي التي تتغذى مصادرها من البهائم والطيور بالمراعي والأعلاف البرية والطبيعية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«عَلَيْكُمْ بِأَلْبَانِ الْبَقَرِ، فَإِنَّهَا تقَمُّ مِنْ كُلِّ الشَّجَرِ»
(2)
.
والعسل بأن يكون نحله يرعى الأشجار البرية، كما قال اللَّه تعالى في سورة النحل:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)} [النحل: 68]
أما الحلوى فلا تكون مفيدة ونافعة وغير ضارة إلا بأن تكون مصادرها ومركباتها عضوية طبيعية من منشأها إلى مأكلها.
(1)
زاد المعاد (4/ 310 - 313) بتصرف.
(2)
سيأتي تخريجه.