الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المرتبة السادسة: الملك أو الولاية
.
ولاية الأمر ووحدة القيادة متحتمة لازمة في كل مراحل ومراتب التمكين، ولكن حين يبلغ الحال بأتباع دعوة الحق باتحادهم واجتماعهم على رجل واحد يكون ملكًا عليهم. فهذه الحال هي حالة التمكين العليا والأكثر في الأمة الإسلامية وفي أمم الأرض جميعًا. قديمًا وحديثًا. وليس فوقها إلا الخلافة التي على منهاج النبوة. فهي أعلى حالات التمكين لدعوة الحق، ولقد امتن الله بإعطائه الملك لأقوام مؤمنين من أنبياء وغيرهم، ولأقوام كافرين. وبيَّن - سبحانه - أنه لا يعطى لأحد إلا بإذنه وتصرفه وهو بيده فهو مالك الملك.
قال سبحانه وتعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) .
وقال سبحانه وتعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} (2) .
(1) آل عمران: 26
(2)
النساء: 54.
فامتن الله بالملك هنا - سبحانه - وعده من تفضله، وقال - جل ذكره -:{إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} .. (1) ، الآية. {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} (2) الآية.
وقال سبحانه وتعالى في شأن من آتاه الملك وهو كافر: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}
…
(3) الآية.
(1) البقرة: 247.
(2)
البقرة: 251.
(3)
البقرة: 258.
وهو - أي الملك - منّةٌ من الله حتى لو كان في دولة كافرة، فهو منّةٌ منه عليهم، لما فيه من الاستقرار والعظمة والظهور والامتناع؛ قال مؤمن آل فرعون يذكر قومه بهذه النعمة في سورة غافر:{يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} .. (1) الآية، فالآية هنا تدل على أن الملك نعمة عامة، نعمة استقرار وظهور وأمن ينعم بها كل من تحققت فيه، سواء كان الملك كافرًا أو مؤمنًا أو فاجرًا، فالرعية تنال من نعمائها ما لا ينكر من أمن من عدو آخر، واستقرار فيما بينهم، وإن كان الحاكم ظالمًا لهم، فهي مرحلة ومرتبة عليا من التمكين يعز الوصول إليها، إلا بركوب الأهوال وسيول من الدماء في الغالب، ويعز كذلك الانحطاط عنها، إلا بمثل ذلك أو أعظم.
(1) غافر: 29
ولذلك حذر الإسلام من شق العصا بعد استقرار الأوضاع واجتماع الكلمة على حاكم؛ لأنها نعمة عزيزة، وفرصة لا تهدر بحال، بل حذر الإسلام وأمر بقتل من شق العصا ولو فجر الحاكم وبغى واستأثر، ما لم يترك الصلاة، أو يصل إلى الكفر البواح، ويعلن به؛ كل ذلك حفاظًا على تلك المرتبة العليا من التمكين والتي ينبغي أن لا تهدر وإذا أهدرت فإنه قلما يكون العوض خيرًا من المعاض عنه؛ قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه وأخرجه البخاري ومسلم:«وإنما الإمام جنة يقاتل من وراءه ويتقى به فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرًا، وإن قال بغيره فإن عليه منه» وفي رواية أخرى: «فإن أمر بغيره فإن عليه وزرًا» (1) .
(1) الحديث في الصحيحين والنسائي، راجع صحيح البخاري، الجهاد، باب من يقاتل من وراء الإمام (2 / 127) ومسلم في الإمارة. الإمام جنة (4 / 230) .
فالحاكم هنا وقاية ومُجْتَمعٌ يُقاتل من تحته إن ظلم وإن بر، فأما هذه الغاية الحميدة فمستفادة من ولايته، ولو مظهرًا يرتدع به الباغي، ويحسب حسابه الطامع في ديار حكومته، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:(لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة)، فقيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها؛ فما بال الفاجرة؟ فقال: (يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء)(1) .
وبهذا يمكن القول بصريح العبارة إن كل مُلْكٍ وولاية للمسلمين فهي مرتبة من التمكين عليا على أي حال كانت تلك الولاية أو الحكومة، أو ذلك الملك باستثناء حالة الكفر الظاهر أو المبطن، فهي حالة لها أثرها المعاكس، وكذلك حالة الحيف الشديد في بعض الأحيان لقوله صلى الله عليه وسلم «ثلاث أخاف على أمتي: الاستسقاء بالأنواء وحيف السلطان وتكذيب بالقدر» (2) .
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية (28 / 297) .
(2)
رواه أحمد والطبراني من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3023) .
والجدير بالذكر هنا أن أكثر الملوك من غير الصالحين، قال - تعالى -:{إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (1) فمن فحوى الآية وواقع التاريخ نرى أن الملوك أبعد ما يكونون عن الصلاح في أنفسهم في الغالب. أما من حيث سياستهم لممالكهم فحسب حال رعاياهم وموقفهم من المُلْك وحاله - وهذا في العموم الغالب كذلك - والملوك الصالحون قليل، ولكن رغم هذا فالملك جائز في شرع من قبلنا.
قال - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .. (2) الآية.
وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم تنسخه شريعتنا، كما هو مقرر في كتب الأصول (3) ، وهو جائز في شريعتنا إذا تعذر إقامة خلافة النبوة التي هي الأصل (4) .
(1) النمل: 34
(2)
البقرة: 243.
(3)
هذا ما عليه الجمهور، راجع الأحكام للآمدي (4 / 190) ، ومذكرة أصول الفقه (161) .
(4)
انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (24،25 ج35) .
وجواز الملك في شرع من قبلنا، واستساغته في شرعنا إذا تعذرت الخلافة؛ إنما هو بسبب أن الملك - رغم نقصه عن مرتبة الخلافة - يكون أحيانًا به قوام الناس وحده، ولا يقام أمر الناس وتجتمع حالتهم وتصلح إلا عليه، وذلك لنقصهم ونقصٍ في ولاية أمرهم، فيقصرون عن العلو إلى مرتبة الخلافة، فإنه كما تكون الرعية يكون الوالي عليها (1) ، وليس أدل على أن المُلْك لا تقام أمور الناس إلا به أحيانًا، ولعله غالبًا - لضعفهم عن الارتقاء إلى مرتبة الخلافة وإقامتها إلا في فترات محدودة - ليس أدل على ذلك من قصة الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى، إذ لم يدفعوا الظلم عنهم ويستقيموا للجهاد إلا بقيادة ملك، رغم وجود نبي بين ظهرانيهم وأقرهم الله على هذا وأجاب طلبتهم وابتعث لهم ملكًا كما كان الأمر فيهم من قبل.
(1) المصدر السابق (20 ج35) .