المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحالة الثانية:زيادة إيمان المؤمن وتكميل إيمانه ونفي - عوامل النصر والتمكين في دعوات المرسلين

[أحمد بن حمدان الشهري]

فهرس الكتاب

- ‌دلالة التمكين

- ‌دلالة التمكين في اللغة

- ‌وعد الرسل بالتمكين ومزاياه:

- ‌وعد المؤمنين بالتمكين ومزاياه:

- ‌نتيجة تمايز الوعدين:

- ‌ لم يقتل نبي من الأنبياء الذين أمروا بالقتال أبدًا:

- ‌ الانتصار من قتلة الأنبياء:

- ‌ قتل النبي ليس قتلًا لدعوته وإنما لشخصه فقط:

- ‌المرتبة الأولى: السلامة من الخسران

- ‌المرتبة الثانية: التأييد

- ‌المرتبة الثالثة: الظهور

- ‌المرتبة الرابعة: النصر

- ‌المرتبة الخامسة: الغلبة

- ‌المرتبة السادسة: الملك أو الولاية

- ‌المرتبة السابعة: الخلافة

- ‌عوامل التمكين لدعوات المرسلين

- ‌توطئة

- ‌ الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام

- ‌ بيعة الرضوان

- ‌المبحث الثانيالجماعة المناصرة

- ‌المطلب الأول: ضرورة استصحاب الصبر

- ‌المطلب الثاني: ترتب النصر والتمكين على تحقق الصبر

- ‌المطلب الثالثالتواصي بالصبر

- ‌الحالة الأولى: مجرد إقامة الحجة

- ‌الطريق الأول: عن طريق ديمومة الإنذار ومعاودة الإبلاغ

- ‌الطريق الثاني: قيام الحجة الموجبة للعذاب عن طريق المعجزة

- ‌الحالة الأولى:قلب أقوام من الكفر إلى الإيمان

- ‌الحالة الثانية:زيادة إيمان المؤمن وتكميل إيمانه ونفي

- ‌المطلب الأول: تعبئة الجيش وتجنيد الجند ودور ذلك في التمكين

- ‌خاتمة البحث

- ‌فهرس المراجع

الفصل: ‌الحالة الثانية:زيادة إيمان المؤمن وتكميل إيمانه ونفي

‌الحالة الثانية:

زيادة إيمان المؤمن وتكميل إيمانه ونفي

الارتياب ودخائل الشكوك عنه فيبلغ بمعاينة المعجزة ومعايشتها درجة اليقين، وهذا من جنس قوله - تعالى -:{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} (1) .

وهو كذلك من جنس قوله - تعالى - في إبراهيم - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام -: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}

الآية (2) .

(1) المدثر: 31.

(2)

البقرة: 226

ص: 106

الحالة الثالثة:

التي تنتج بعد حصول المعجزة فهي حالة زيادة الكفر والجحود والغطرسة - رغم قيام الحجة بالمعجزة - من الكفار الذين لم يؤمنوا واتبعوا أهواءهم، رغم أنهم قد علموا أنها حق وازدادوا يقينًا في دواخل أنفسهم؛ لأنها صدق لا ريب فيه تشهد على صدق النبي وأنه مرسل من الله، ولكن استكبارًا وجحودًا وبغيًا بغير الحق، فيؤدي وقوع المعجزة ووقوع هذا الحال منهم تجاهها إلى قيام الحجة الموجب لحلول العذاب المباشر، كما قال سبحانه وتعالى على لسان نبي الله موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهو يرد على جحود فرعون:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} (1) .

ولقد استقر الحال على سنة من الله ثابتة لا تتغير وهي أن المعجزة حين تحدث ثم يكفر ويكذب بها فإن العذاب ينزل مباشرة بالمكذبين ولا يمهلون.

(1) الإسراء: 102

ص: 107

العامل السابع

مسايرة الوضع الملائم في حدود مرضاة الله

(الحكمة في الدعوة)

مسايرة الوضع الملائم في حدود مرضاة الله سبحانه وتعالى تلك قضية بارزة نراها بجلاء في دعوات الأنبياء التي ذكر الله في كتابه أطوار تمكينها ومراحل انتقالها من الضعف إلى القوة، مثل دعوة نبي الله موسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومسايرة الوضع الأنسب والملائم والموافق لرضا الله سبحانه وتعالى تبرز في تلك الدعوات من خلال ما كان يربها به الرب - سبحانه - من أوامر وتوجيهات.

كانت تأتي تلك الأوامر والتوجيهات لجماعة أهل الإيمان بما يجعلها في أمان من الصدام والذي ينسفها أو يخضد شوكتها وهي لا زالت في حالة من ضعف، مما يجعلنا نرى تلك العناية والرعاية الربانية جلية واضحة مسايرة وملائمة لبقاء الدعوة وأفرادها من الاجتياح الكاسر الغاشم، وخير مثال لذلك ما كان عليه الصلاة والسلام من الاستسرار بالدعوة وعرضها على من يثق به ويطمئن إليه حتى جاءه بعد ثلاث سنوات من تلك الحال قوله - تعالى -:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (1) .

(1) الحجر: 94.

ص: 109

قال أبو عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيًا حتى نزلت {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} فخرج هو وأصحابه)(1) .

وهذه رعاية إلهية ظاهرٌ دورها في خدمة الدعوة ورجالاتها بالاستسرار حتى يبلغوا من الحال والعدد ما يطيقون بعده الجهد وتحمل تبعاته.

وأحيانًا تأتي التوجيهات الربانية للدعوة بالإحجام في ساعة يرى الكل أنها ساعة الإقدام، وأحيانًا يأتي الأمر بالإقدام في ساعة العسرة، وتطلع النفوس إلى الراحة أو إلى خيار آخر مثل ما وقع في غزوة بدر، وكان الخيار الذي اختاره الله لهم غير ما تطلعت إليه النفوس، ووصف ذلك ربنا في كتابه، فقال - سبحانه -:{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} (2) .

وكذلك كان الأمر من الله في غزوة تبوك، في ساعة العسرة، وشدة القيظ، وبعد الشقة، وطيب المقام في المدينة، إذ طابت ثمارها، ومالت ظلالها، فكان الأمر من الله بالغزو، حتى كادت بعض القلوب تزيغ.

(1) تفسير ابن كثير (2 / 579) .

(2)

الأنفال: 7.

ص: 110

إن مثل هذا الوضع وصفه الكثير - من أهل العلم والفضل - بأنه ابتلاء للمؤمنين، وتمحيص لهم كذلك، وتربية لهم على الشدائد، ولكنه كذلك يتطرق إلى جانب آخر هام. وهو ما نحن بصدده؛ فالله سبحانه وتعالى يرسم بهذا الوضع لأهل طاعته ونصرته وضعًا أنسب وأنفع لتمكينهم ونيل الظفر على عدوهم، ويربيهم - سبحانه - على القيام على كره وبغض في ساعات من العسرة، ليروا بعد تنفيذ أوامر ربهم كيف أن السعادة كانت في ما اختار لهم الله، وقاموا إليه على ثقل وكره، ويروا بعين البصيرة كيف أن الله سبحانه وتعالى إنما سلك بهم هذا الوضع ليعصمهم من حوادث كانت ستحدق بهم؛ لولا أنهم فعلوا ما أمروا به، ولعل هذه الحوادث كانت غير خافية عليهم، ولكنهم لم ينظروا إليها بثاقب النظر وبعده، ولم يزنوها في ميزانها، فيتعلمون بذلك بعد النظر ومسايرة الحال الملائم التي لا تخرج بهم عن طاعته - سبحانه -، ويتعلمون كيف يقيسون المصالح والمفاسد قياسًا دقيقًا، وهم في خضم مواجهة الأحداث، وحث الخطى للسير قدمًا على درب دعوة الحق.

ص: 112

ولا أدل على ذلك من الأمر بالإحجام في ساعة كان الكل يراها ساعة الإقدام، ولا يخطر بالبال التردد في ذلك: الأمر بالإحجام بالصلح في صلح الحديبية ولم يبق عن مكة إلا مرحلة واحدة، والكل متوجه ليعتمر، في زي الإحرام، قد ساقوا الهدي وقلدوها، وتطلعت النفوس إلى دخول مكة، وبايعوا على الموت أكثر من ألف رجل، عندها يأتي أمر الله بالصلح والرجوع دون عمرة، وفيهم أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم، ويسمي الله ذلك فتحًا، ويرتب عليه سبحانه وتعالى هداية وتمام نعمه ونصرًا عزيزًا.

قال سبحانه وتعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} (1) .

نعم هذا هو الحال الأنسب والوضع الملائم الذي لم يخرج عن مرضاة الله، وإن كان قد أرجع المؤمنين من رتبة عليا من الأعمال الصالحات - من عمرة ورغبة في القتال - إلى ما هو دونها وهو الرجوع وقبول الصلح مما هو كذلك من رضا الله - سبحانه -.

(1) الفتح: 1 - 3

ص: 113

وعلى هذا الحال الذي أمر الله به؛ رتب الله عليه بشائر متعددة ونصرًا عزيزًا، ما كان ليتم شيئًا منها لو سلك المؤمنون ما يرونه من إقدام، وسمى الله سبحانه وتعالى هذا الصلح بالفتح (1) ، إذ ترتب عليه فتوح ومنافع ودخول ألوف في الإسلام.

قال الزهري: "فما فُتِح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضًا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئًا إلا دخل فيه، ولقد دخل تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر"(2) .

قال ابن هشام: "والدليل على قول الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة، في قول جابر بن عبد الله، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف"(3) .

(1) راجع تفسير ابن كثير لترى أن الفتح المقصود في السورة هو الصلح، وعلى ذلك آثار وأخبار صحاح (4 / 196 - 197) .

(2)

سيرة ابن هشام (3 / 268) .

(3)

المصدر السابق (3 / 269) .

ص: 114

وكان هذا الصلح فتحًا حقًا، فقد توافدت قبائل العرب إلى المدينة تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلن دخولها في الإسلام، وكذلك أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على استئصال بقايا اليهود من جزيرة العرب، وفتح خيبر، وقسم خيراتها فيمن كان معه على الصلح، وكذلك عظمت قيمة الإسلام والمسلمين في عيون قريش وقبلوا المفاوضة، ومهد هذا الصلح للفتح الأكبر (فتح مكة) .

ومن هنا نأخذ مدى دور مسايرة الوضع الملائم في حدود رضا الله، ونعرف مدى ذلك في فلوج النصر وحميد العاقبة، وتحقق العز والرفعة، ولقد كان ذلك واضحًا جليًا في هذا الصلح وفي غزوة تبوك، وغزوة بدر.

وكان ذلك كله خير ورفعة وعاقبة حميدة للمسلمين، وهنا نرى ضرورة مسايرة الحال الملائم للوصول إلى مصلحة أعظم ودفع مفسدة أخطر.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في الفوائد الفقهية لصلح الحديبية: "إن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة، ودفع ما هو شر منه، ففيه دفع أعلى المفسدتين، باحتمال أدناهما"(1) .

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد صلى الله عليه وسلم (3 / 86) .

ص: 115

العامل الثامن

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أوسع نطاقًا من التواصي بالحق والذي سبق الحديث عنه، فالتواصي بالحق وإن كان لفظه يحتمل العموم وقد يتفق ويتحد مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حيث المنطلق والغاية، إلا أن التواصي يكون في نطاق أهل الإيمان الطائعين.

بينما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يغطي هذا النطاق - نطاق التواصي - ويزيد ويتسع إلى نطاق أهل العصيان من أهل الإيمان، وأهل الفسق، وعامة شرائح المجتمع.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له دور فاعل في بقاء التمكين ودوامه وتحققه كذلك، ويمكن معرفة أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تمكين دعوة الحق بوضوح وجلاء في حالتين بارزتين:-

الحالة الأولى:-

وهي حالة تمكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومعرفة قيمته وتأثيره في المجتمع، تقويمًا وردعًا وتوجيهًا وإصلاحًا كما قال - تعالى -:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (1) .

(1) الحج: 41

ص: 116

فهذه الحالة كفيلة بإسعاد المجتمع وإبقاء تعاليم الدين وإظهارها وصلاح العيش وتحقق الأمن، ولذا انتدب الله الأمة المسلمة لتخصص طائفة منهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فيكونون عنوان سعادة المجتمع.

قال - تعالى -: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) .

وعند تحقق هذه الحالة لا يمكن خفاء ما فيها من ظهور تعاليم الدين وبقاء التمكين لأتباعه والمحافظة على شعائره وصلاح كل شئون المجتمع.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "

صلاح العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن صلاح المعاش والعباد في طاعة الله ورسوله، ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس. قال الله - تعالى -:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) الآية " (3) .

الحالة الثانية:-

(1) آل عمران: 104

(2)

آل عمران: 110.

(3)

مجموع الفتاوى (306 / ج28) .

ص: 117

في هذه الحالة يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير ممكن له كما كان في الحالة السابقة، ولكنه موجود بارز بيد أنه ضعيف الجدوى والتأثير في المأمورين والمنهيين، لا لضعفه، وإنما لشدة تعنت أولئك المدعوين وإقبالهم على المعاصي والسيئات دونما هوادة وبكل بجاحة، وهنا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عصمة لأهله من عقاب الله وعذابه الذي قد يحل بأولئك بين فينة وأخرى. والذين يحتكون بهم ويتعايشون معهم لارتباط شؤون الحياة ومصالح العيش بالتعامل مع أولئك العصاة، فعند مواصلة المعايشة مع أولئك العصاة فلا خوف ولا وجل على أولئك المؤمنين الذين يخالطونهم لظروف الحياة ما داموا قائمين على شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجاههم.

وفي أخبار الهالكين في القرآن بعقوبة الاستئصال العاجل، يؤكد الله سبحانه وتعالى هذه السنة ويبين أنها سنة ثابتة في القرون، فأهل النهي عن السوء هم أهل النجاة، ولا يمكن أن يمسهم من العقاب مس، وكفى بذلك تمكينًا وسعادة ورفعة.

ص: 118

والله سبحانه وتعالى لم يذكر في كتابه قومًا أهلكهم إلا ويؤكد نجاة أهل الإنكار بلطف منه ورحمة رغم قوة العذاب، وقسوته وفجأته، وهذا هو القرآن يذكر لنا كيف أنجى الله - سبحانه - الذين كانوا ينهون أهل السبت من عقوبته، والعذاب البئيس.

قال سبحانه وتعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} {عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (1) . والآيات جزمت هنا بنجاة الناهين عن السوء المنكرين للمنكر.

(1) الأعراف: 163 - 166

ص: 119

ولقد بين الله سبحانه وتعالى أن هذه سنته فيمن نهى عن السوء وأنكر في سائر القرون وشتى الأمم؛ قال سبحانه وتعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} (1) .

أي وجد في تلك القرون بقايا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، أنجاهم الله - سبحانه - من بين تلك القرون، لأمرهم بالمعروف ونهيهم عن السوء (2) .

أما من سكت عن المنكر ورضي فإن عقوبة الاستئصال شاملة له، وإن كان مؤمنًا أو كان بمكان عند المؤمنين مع إيمانه قال - تعالى - في امرأة لوط التي كانت راضية بما يعمله قومه:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} (3) .

(1) هود: 116.

(2)

انظر: تفسير ابن كثير (2 / 481) .

(3)

الأعراف: 83.

ص: 120

وهنا نرى كيف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى ولو قلَّت جدواه أو انعدمت فهو عصمة ونجاة من عذاب الله، وعليه فعلى أهل الإيمان وجماعته وأصحاب دعوة الحق أن يتبنوه ويحيوه ولو انعدمت جدواه ليمكنوا أنفسهم من النجاة من عقاب الله الذي قد ينزل بمن حولهم من أهل العصيان، وبالتالي يتم تمكينهم في الأرض.

ص: 121

العامل التاسع

الهجرة في سبيل الله

الهجرة في سبيل الله من أولويات عوامل التمكين لدعوة الحق، والانتقال بها إلى أماكن الأمن والسعة لتنشأ حتى تستوي على سوقها، وتؤتي ثمارها بإذن ربها، وهي قبل ذلك فريضة واجبة على كل فرد مسلم تعذر عليه إقامة دينه في أي بقعة كان ووجد حيلة أو وسيلة للهجرة من ذلك المكان الذي لا يقوم فيه أمر الدين إلا على عوج أو مضض أو لعلة لا يقوم ألبتة، أو وُجِد ذلك الفرد بين ظهراني الكافرين والمشركين فإن الهجرة واجبة عليه، ومتى ارتفعت هذه الحالات المذكورة ارتفع وجوب الهجرة، ومتى وجدت تأكد وجوب الهجرة وأصبح تركها يعني براءة من الإسلام، ولعله قد يصل بذلك التارك إلى الخروج من الملة.

ص: 122

قال - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (1) .

قال ابن عباس رضي الله عنه: "كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم وقتل بعض، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} .. الآية، قال: وكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين هذه الآية لا عذر لهم قال: فخرجوا"(2) .

(1) النساء: 97 - 99

(2)

هذه رواية ابن جرير أخرجها بسنده في التفسير (5 / 233 - 234) وصححها الوادعي في كتابه «الصحيح المسند من أسباب النزول» .

ص: 123

وفي هذه الآية وفي سبب نزولها نرى كيف أن تارك الهجرة الذي وجد الحيلة ولم يهاجر لا عذر له، وأنه إذا مات على ذلك فهو متوعد بدخول نار جهنم - والعياذ بالله -.

قال ابن كثير رحمه الله: " نزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنًا من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حرامًا بالإجماع"(1) .

وقال الإمام الشوكاني: "وقد استدل بهذه الآية على أن الهجرة واجبة على كل من كان بدار الشرك أو بدار يعمل فيها بمعاصي الله جهارًا إذا كان قادرًا على الهجرة ولم يكن من المستضعفين لما في هذه الآية الكريمة من العموم وإن كان السبب خاصًّا"(2) .

(1) تفسير ابن كثير (1 / 555) .

(2)

فتح القدير (1 / 505) .

ص: 124

ولقد جاء استثناء من استثنوا في الآية في مدلول يجسد شدة الأمر، ويلاحق كل المعاذير التي لا تجد لها من الحقيقة ما يشد صلبها، فالاستثناء ليس إلا لطائفة من الناس وهم المستضعفون الذين لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين؛ ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق، والتعبير بـ" حيلة " في {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} يدل على العجز عن أنواع أسباب التخلص جميعها، والمجيء كذلك بـ" الولدان " في طائفة أهل الأعذار من المستضعفين من الرجال والنساء مع عدم التكليف لهم إنما هو لقصد التشديد البالغ في أمر الهجرة، وبيان أنها تجب لو استطاعها غير المكلف (1) ، وبهذا فالاستثناء يأتي في الآية في مدلول يدل على شدة أمر الهجرة في تلك الحالة التي ذكرتها الآية.

ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى فائدة الهجرة وأنها نقلة للفرد المسلم والجماعة المؤمنة تؤدي إلى التخلص من إذلال المشركين إلى الاعتزاز عليهم وسعة الرزق وإقامة الدين. قال - تعالى -: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} الآية (2) .

(1) انظر: فتح القدير (1 / 505) .

(2)

النساء: 99.

ص: 125

والمراغم: التحول من أرض إلى أرض بها منع يتخلص به ويراغم به الأعداء. أما السعة: فهي السعة في الرزق (1) .

وحث سبحانه وتعالى عباده في موضع آخر من كتابه للهجرة في سبيله وبيَّن لهم أن الأرض أرضه وهي واسعة وهم أولى بها، فعليهم التنقل فيها حتى يجدوا بها موضعًا يتمكنوا فيه من توحيده وحده وتحقيق العبودية الكاملة له. قال - تعالى -:{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (2) .

عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله فحيثما أصبت خيرًا فأقم» (3) .

فالهجرة عامل هام وأولي من عوامل تمكين دعوات المرسلين، فها هو نبي الله إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ارتحل عن قومه حين آذوه، وذهب مهاجرًا ليعبد الله آمنًا، ويتمكن من القيام بشعائر الدين.

قال - تعالى - يحكي قوله عليه السلام: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (4) .

(1) انظر تفسير ابن كثير (1 / 556) .

(2)

العنكبوت: 56.

(3)

مسند أحمد (3 / 15) .

(4)

العنكبوت: 26.

ص: 126

والهجرة كانت كذلك من أعظم عوامل تمكين دعوة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، إذ انتقلت الجماعة المؤمنة حين هاجرت إلى المدينة إلى مرحلة الظهور والتجمع ونزول الشرائع والأحكام عليها وبالتالي الجهاد وقوة الشوكة والتمكين.

والهجرة هي طريقة للتخلص من أذى الأعداء وكيدهم في الأصل، بيد أنها كذلك عامل الظهور والاستقرار والانطلاق لكل دعوة حق، فهي ثابتة في الأمة لا تنقطع أبدًا، كما أنها عريقة في اقترانها بدعوة الحق منذ القدم، وأحيانًا لا تعدو أن تكون الهجرة مجرد النجاء، النجاء بالمؤمنين والفرار بدينهم من فتنة وعذاب الأعداء الحاقدين، وكان هذا جليًا في قصة أصحاب الكهف، وخروج موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ببني إسرائيل من كيد فرعون.

ص: 127

وبيَّن سبحانه وتعالى في موضع آخر من السورة فرار هؤلاء الفتية بدينهم، وأنهم كانوا على إيذاء بالغ من قومهم وتعذيب، وكانوا يجتهدون في ردهم وفتنتهم عن دينهم. قال - تعالى - عن كلامهم وهم في الكهف وهم يذكرون ما سيفعله قومهم بهم لو ظهروا عليهم:{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} (1) .

ولقد فرَّ بنو إسرائيل بدينهم من كيد فرعون، وخرج بهم موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام بأمر من الله. قال - تعالى -:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} (2) .

وقال سبحانه وتعالى في سورة الدخان: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} ثم قال بعد ذكر إنجائهم من فرعون وإغراقه: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} {مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} (3) .

(1) الكهف: 20

(2)

الشعراء: 52

(3)

الدخان: 30 - 31

ص: 129

فالهجرة أحيانًا يكون كل الغرض منها، الفرار بالدين والنجاة بأهله المؤمنين، وأحيانًا نراها في دعوة الرسل يُرتب لها ويحدد لها الوقت، وتتجاوز غرضها السابق إلى التهيئة لإعداد مستقر لجماعة المؤمنين، وإعدادهم ومزاولتهم لشعائر الدين وبالتالي ظهورهم ونصرهم والتمكين لهم في الأرض، وكلا النوعين من الهجرة كان ماثلًا أتم المثول، واضحًا كل الوضوح في دعوة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، فالهجرة إلى الحبشة بأمر منه إنما كانت من النوع الأول وهو الفرار بالدين والبعد عن فتنة وإيذاء الكافرين فقط، ولم تتجاوز هذا الغرض إلى غيره في أصل الأمر.

قال ابن إسحاق: "فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه» فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام"(1) .

(1) السيرة النبوية لابن هشام (1 / 349) .

ص: 130

أما هجرته صلى الله عليه وسلم فكانت من النوع الثاني الذي تجاوز قصد الفرار بالدين إلى إعداد مستقر للدعوة ومجتمع للمؤمنين يقيمون فيه الدين، وينضوي إليه كل مؤمن من أطراف الجزيرة حتى تظهر كلمة الله، ويقوى أهل الحق، ويمكن لهم الله في الأرض، ولهذا نرى كيف تم الإعداد لذلك - أي لهجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة - بواسطة بيعتي العقبة الأولى والثانية، وإرسال مصعب بن عمير قبل قدومه صلى الله عليه وسلم وغيره من الصحابة لينشروا الإسلام في المدينة ويفقهوا من آمن منهم.

ص: 131

ولو كانت هجرته عليه الصلاة والسلام فرارًا بالدين والنفس فقط، لكان الأولى أن يهاجر مع أصحابه إلى الحبشة، حيث حماية ملك اعتنق الإسلام، وآوى المسلمين، ولكن هجرته عليه الصلاة والسلام إلى دار الهجرة كانت نشدانًا لتكوين جماعة الإيمان ومستقرًا لمن آمن ويوضح ذلك كلام عمه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه لنقباء بيعة العقبة الثانية، وهو يبين لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يهاجر إليهم فرارًا وامتناعًا من الإيذاء:"يا معشر الخزرج - وكانت العرب تسمي الحي من الأنصار: الخزرج، أوسها وخزرجها -: إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزٍ من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه له، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما حملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عزٍ ومنعة من قومه وبلده"(1) .

(1) سيرة ابن هشام (2 / 89) .

ص: 132

والمتأمل في أحداث الهجرة النبوية إلى المدينة؛ يرى أنها بجميع أدوارها كانت لحث الخطى إلى تكوين الجماعة وتمكين الدعوة، فلقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا إلى المدينة قبله، وقال لهم:«إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانًا ودارًا تأمنون بها» فخرجوا أرسالًا - أي جماعة تلو جماعة -، ثم بقي النبي صلى الله عليه وسلم بعدهم، ينتظر أن يأذن له ربه - تعالى - في الهجرة حتى جاءه الإذن من ربه فهاجر هو وصاحبه الصديق رضي الله عنه (1) .

(1) انظر: سيرة ابن هشام (2 / 109) .

ص: 133

كل تلك الأحداث والأدوار التي سبقت الهجرة من بيعتي العقبة وإرسال مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة، ثم الإذن للصحابة رضي الله عنهم، بل وأمرهم بالخروج إلى المدينة قبله عليه الصلاة والسلام، ثم انتظاره عليه الصلاة والسلام، وقتًا محددًا ولحظة مؤقتة من الله سبحانه وتعالى ليأذن له بالهجرة. كل تلك الأحداث تشخص لنا أن الهجرة إنما كانت إعدادًا لتمكين الدعوة وإيذانًا بظهور أهلها، وأن تلك الأحداث مجتمعة لم تجعل من الهجرة مجرد هجرة للفرار بالدين فقط، وإنما جعلت من الهجرة مبدأ لإعزاز الدين، ونصر المؤمنين، وإقامة خلافة الله في الأرض، ولذلك فلا غرو أن يؤرخ بها تاريخ الإسلام، وأن يأتي الإذن من الله فور حصولها بالقتال، ورد كيد الكافرين.

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر، أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكن، فأنزل الله عز وجل:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (1) . وهي أول آية نزلت في القتال (2) .

(1) الحج: 39

(2)

سنن النسائي (6 / 2) في كتاب الجهاد، باب وجوب الجهاد.

ص: 134

وها هو النبي صلى الله عليه وسلم ما إن يستقر قراره في مهاجره حتى يعقد الألوية لأصحابه في تلك السنة ويبعث السرايا وينشئ الغزوات تلو الغزوات يقودها مرة بنفسه ويعقد لواءها لمن شاء من صحابته مرة أخرى؛ حتى كانت غزوة بدر الكبرى فاصلة الإسلام في السنة الثانية من تلك الهجرة الميمونة.

وهكذا نرى هجرته صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانت مرحلة من مراحل التمكين وعاملًا هامًا من عوامل تحققه، يجب على المسلمين أن يجعلوه درسًا يستفيدوا منه وينهجوا عليه، خصوصًا إذا ضاقت بدعوتهم الضوائق، وزلزلت بهم المكائد، فلهم أن يهاجروا إلى مواضع من أرض ربهم الواسعة، يقيمون فيها دينهم ويراغمون بها أعداءهم، وتتقوى بها شوكتهم.

أما ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» (1) فلا يدل على انتهاء الهجرة، وإنما على انقطاعها في ذاك الأوان من مكة إلى المدينة وذلك أن مكة تحولت بالفتح من دار كفر إلى دار إسلام فانقطعت الهجرة منها بذلك.

وعلى مثل هذه الحال يُنَزَّل هذا الحديث في كل بلد كان حاله مثل حال مكة ثم فتحه المسلمون (2) .

(1) صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب لا هجرة بعد الفتح (4 / 172) .

(2)

انظر فتح الباري (6 / 190) .

ص: 135

ولقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوضح أن الهجرة مرحلة من مراحل دعوة الحق لا تنقطع ما دامت الدعوة قائمة ينضوي تحت لوائها الداخلون والتائبون، فعن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة، حتى تطلع الشمس من مغربها» (1) .

فالهجرة إذن من تمام توبة التائبين، ومن لوازم إقامة الدين، ولا تكاد دعوة من دعوات الحق تقوم إلا بها.

(1) سنن أبي داود في البيعة، باب ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة (3 / 3) .

ص: 136