الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المرتبة الأولى: السلامة من الخسران
هذه المرتبة هي الدرجة الأولى في سلم مراتب التمكين للفئة أو الجماعة المؤمنة، وهي لازمة حتمية، لا يمكن أن تبدأ للتمكين بداية دون البداية بها، ولقد بينها الله - جل وعلا - في كتابه وجزم بها، وأقسم عليها.
فقال سبحانه وتعالى: {وَالْعَصْرِ} {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (1) .
وهذه السورة كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: (لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم)(2) ، وهي بحق في صميم موضوعنا وهو "التمكين" إذ لا ينبغي لعاقل أن يسأل عن وسائل التمكين وأسباب النصر قبل أن يرفع عن نفسه ومن معه دخائل الخسارة، وموجبات النقص، والسورة هنا جزمت بقسم عظيم بالخسران لجنس بني الإنسان عمومًا ما لم تتوافر فيه ست خصال وهي:
1.
الإيمان
2.
العمل الصالح.
3.
أن يكون في جماعة، وهذا واضح من مجيء التعبير بـ"الإنسان" مفردًا ثم مجيء الاستثناء بصيغة الجمع "إلا الذين".
4.
وجود مبدأ التواصي ومثوله.
5.
التواصي بالحق: وهو شرائع الدين.
6.
التواصي بالصبر.
(1) العصر.
(2)
تفسير ابن كثير (4 / 585) .
إن هذه الخصال الست حين تتوافر في جماعة من الجماعات أيًا كانت فهي كفيلة بأن تجعلها في ضمان وأمان من كل خسارة أخروية أو دنيوية، والباحث المتحري لعوامل النصر، والناظر الفاحص لأحداث الأمم في التاريخ؛ يجد أن السورة لخصت الصفات المطلوبة في من يؤهل لبلوغ النصر ويمكن له في الأرض، خصوصًا من الأمة الإسلامية.
والسورة وإن كان أكثر من تصدى لتفسيرها يتعرض عند ذكر الخسارة لانتفاء الخسارة الأخروية، إلا أن السورة نصٌ في انتفاء الخسارة مطلقًا في الدنيا والآخرة، وقد جاء التعبير فيها على العموم، فينبغي إبقاؤه على عمومه، بل إنه يحق لقائل أن يقول إن السورة قاعدة محكمة في مدى حلول الخسارة بالإنسان في الدارين جميعًا، فالإنسان يحل به من الخسارة في الدارين بحسب ما أهدر من الخصال الست هذه، ويرتفع عنه من مقدار الخسارة في الدارين بحسب ما توافر فيه من الخصال الست التي استثنى الله - سبحانه -، وعند تمام تحقق هذه الخصال، فإن له تمام السلامة من الخسران في الدارين جميعًا.
بل إن الكفار والفجار حين يتواصون بشيءٍ من الحق أو الصبر، ويعملون به يرتفع عنهم في الدنيا بحسبه من الخسران، وينالون الثمرة، وخيرُ مثال لذلك ما رواه أبو بكرة رضي الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم: (
…
(1) الحديث رواه الطبراني في الكبير، وابن حبان في صحيحه - على ما قال المنذري في الترغيب - وصححه الألباني في جامع السيوطي الصغير برقم (5705)(2 / 995) .
فقد تواصى الفجرة هنا بشيءٍ من الحق وهو صلة الرحم، وعملوا به فنالوا الثمرة، وسلموا الخسارة في الدنيا، وعلى هذا فالسورة قاعدة محكمة في لحوق الخسارة بالإنسان، أو ارتفاعها عنه في كلتا الدارين، بل إن كل ما لحق بالأمة الإسلامية أو بالجماعة المؤمنة في أي حقبة من التاريخ سواء كانت مع نبي أو ملك أو قائد من الخسائر والهزائم، فهو بسبب عدم توافر شيء من الخصال الست المذكورة، أو بسبب نقصٍ وعدم إتمام لها وحين نرى الجماعة الباغية أو الدولة الكافرة تنتصر وهي تواجه جماعة مؤمنة أو دولة مسلمة؛ فذلك راجع إلى أن هذه الجماعة أو الدولة قد حققت من الخصال الأربع المتبقية - خلاف الإيمان والعمل الصالح - ما لم يتحقق عند تلك المنهزمة التي على الحق أو على الإيمان؛ فلا بد أن يكون قد توفر لديها من الاتفاق على الجماعة، أو من مبدأ التواصي أو العدل والحق فيما بينهم أو التحمل والصبر ما لم يتوافر هناك. أي لدى الجماعة المؤمنة أو لعلها لم تقم به أصلًا.
ولقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أثرًا يشهد لذلك فقال بعد كلام عن أهل الكتاب وما معهم من إيمان: (
…
ولهذا يروى "الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة") (1) .
أما عند توافر عوامل النصر وموانع الخسران عند الجماعة المؤمنة وتوافر موانع الخسران الأربعة كذلك عند عدوهم من جماعة باغية أو دولة كافرة فإن الجماعة هنا تزيد عليهم وتفضلهم بالإيمان والعمل الصالح، وكفى بذلك نصرًا وقوة:{إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} الآية، (2) وكما قال - تعالى -:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) .
تلك هي مرتبة السلامة من الخسران التي حددتها السورة، ومتى توافرت موانع الخسران المذكورة في جماعة ما فقد بلغت مبلغ التأهيل للتمكين إذا قامت بمطالبه والسعي تجاهه، وهي مرتبة ضرورية تُبنى عليها المراتب والمراحل الأخرى، فما بعد السلامة من الخسارة إلا نيل الظفر والفوز والظهور.
(1) مجموع الفتاوى (63 / 28) .
(2)
النساء: 104.
(3)
آل عمران: 139.