الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث
التواصي بالصبر
لقد أوصى الله سبحانه وتعالى بالصبر وأمر به وأوجبه في مواطن عدة، وبين أن جزاءه أعظم الجزاء فقال:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1) ، وامتدح سبحانه وتعالى المؤمنين بالصبر وعدَّ ذلك الفعل منهم مانعهم من الخسران، كما قال - تعالى -:{وَالْعَصْرِ} {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (2)، وقال - تعالى -:{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (3) ، إن التواصي بالصبر أمر ضروري لا يقل عن التواصي بالحق والتذكير به، بل هو شطيره في هذا الشأن.
وجماعة المؤمنين وهي ترجو تمكين الله لها لا بد من تواصي أفرادها بالصبر ومتى قل التواصي بالصبر فيهم أو تبرموا منه أو تذمروا ممن يذكر به ويحض عليه فهم أبعد الناس عن نيل النصر، والقرب من مواطنه.
(1) الزمر: 10.
(2)
سورة العصر.
(3)
البلد: 17.
ولقد كان التواصي بالصبر في فجر دولة الإسلام حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه يرتقون مراتب التمكين رتبة رتبة، ويسيرون إلى عليائه مرحلة مرحلة، حينها كان التواصي بالصبر ماثلًا أتم المثول، حتى لقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو متربع على كرسي الخلافة الراشدة، حين بلغت دولة الإسلام أعلى مراتب التمكين:"خير عيش أدركناه بالصبر"(1) .
(1) زاد المعاد (4 / 333) .
العامل الرابع
التواصي بالحق
إن وجود مبدأ التواصي فقط في جماعة أو أمة أمر كفيل باتزان ما يصدر من تلك الجماعة وانضباطه والسير الآمن المتقدم إلى غاية تلك الجماعة سواءً كانت تسعى لتمكين نفسها أو تسعى لأمور اقتصادية أو اجتماعية.
فما بالك بالجماعة المؤمنة حين تنتهج مبدأ التواصي، والتواصي بماذا؟ بالحق وهو الدين الذي ارتضاه لهم ربهم.
إن الانضباط والاتزان وروعة الأداء وتحقق الفلاح والنجاح سيكون أكثر بكثير مما يخطر ببال من اشتغل بالتفكير في تلكم الأمور، كيف وهي تتجه إلى نور من ربها وتتهادى إليه وتتحاضَّ إلى زيادة الإقبال عليه.
(1) التوبة: 71.
ومن أعظم التواصي بالحق تعلم العلم - علم شرائع الدين - وتعلمه ومن هنا جاءت الأحاديث العظام في فضل العالم وفضل طالب العلم من وضع أجنحة الملائكة واستغفار الحيتان والدواب لمعلم الخير وطالب العلم، وما ذلك إلا لما لتعلم العلم وتعليمه من أثر عظيم في بقاء شعائر الدين على دوام العصور في نفوس المسلمين وعدم انطماس نور الوحي في نفوسهم وسلوكهم وبقائه فيهم وكفى بذلك تمكينًا للدين ينقله من جيل إلى جيل عبر العصور وكر الدهور.
وكذلك فإن تواصي أهل الإيمان فيما بينهم - بعضهم لبعض - لإنجاح أمورهم وتحقيق رضا ربهم كفيل بأن ينظر الله لهم على ذلك الحال ويرى حرصهم على "الحق" ابتغاء وجهه، حتى جعلوه وصيتهم فيما بينهم فيرحمهم ويكلأهم.
والتواصي بالحق كما جاء في سورة العصر مانع من موانع الخسران (1) ، والآية هنا - آية التوبة هذه - توضح كذلك أنه سبب لشمول رحمة الله - سبحانه - وتنزلها على من فعلوه فيما بينهم.
(1) انظر: بيان ذلك في مبحث «السلامة من الخسران» من هذا البحث.
إن التواصي بالحق - والوصية لا تكون إلا لمن يتوقع من الامتثال - قضية خاصة بتلك الجماعة المؤمنة الذين يمتثلون وصية بعضهم لبعض ويعدونها وصية أخٍ مؤمن صادق ناصح لأخيه المؤمن، فكما أن أهل الإيمان ينصحون غيرهم ويبلغونهم دعوة الحق فهم كذلك لا يقلون حاجة في أن يتواصوا بها ويقوِّم بعضهم البعض الآخر على مناهجها.
وحين يعتنون بهذا الجانب ويحيونه فيما بينهم يبلغون به من الثبات والتقدم والرفعة والتمكين مبلغًا عظيمًا.
قال - تعالى -: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} (1) .
وفي هذا الجو الجميل الرائع من التواصي والتراحم ينشأ جو الشورى وانحزام الرأي، وتبادله للخروج إلى أحسن المخارج وأحسن السبل.
الشورى:-
(1) البلد: 7 - 8.
والشورى كما سلف لا تنمو إلا في جوٍ قد تشبع بالقناعة بالتواصي بالحق وأقره مبدأ وتعارف عليه وتآلف إليه، والشورى وهي عرض الآراء وتبادلها للاهتداء إلى أحسنها وهي لا تكاد تخطئ أبدًا، ومن أجل ذلك وتعليمًا للأمة بفضل الشورى أمر الله سبحانه وتعالى رسوله بمشاورة أصحابه، رغم أنه كان في غنىً عن ذلك لما يصل إليه من وحي الله وتوجيهاته.
قال سبحانه وتعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (1) .
وفي ذلك إشارة إلى أن الشورى قضية هامة تستقبل بها أهوال الحروب، وتُدارُ بها خطط المعارك، وتحل عن طريقها معضلات الأمة وأزماتها.
قال ابن كثير عند قوله - تعالى -: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (2) : "أي لا يبرمون أمرًا حتى يتشاوروا فيه ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها"(3) .
ومما لا شك فيه أن انعدام الشورى في جماعة أو أمة تسعى للتمكين وتواجه الحوادث والحروب كفيل بحلول الهزيمة وتمزق تلك الجماعة مهما توافر فيها من قوة واجتماع على قيادة وإيمان وغير ذلك من أسباب النصر.
(1) آل عمران: 159.
(2)
الشورى: 38.
(3)
تفسير ابن كثير (4 / 127) .
وذلك أنه في حالة انعدام الشورى ستنطلق تلك الجماعة المسكينة بحدها وحديدها في مواجهة أمر من الأمور سالكة طريقًا تظن أنه الأولى، ولعله الأردى الذي فيه هلاكها، وما كان ينقصهم ليتلافوا ذلك إلا جلسة يسيرة يتبادلوا فيها الآراء فيصيبون الرشد، وإن أخطأوه لم يبعدوا عنه كثيرًا.
فالشورى لا تكاد تخطئ الصواب وإن أخطأته فلا يمكن أن تقع في أردى الأحوال أبدًا، وإنما تتجه إلى الصواب غالبًا، أو قريبًا منه نادرًا، وهنا نرى مدى أهمية الشورى في تمكين الدعوة واستقبالها للنصر، والنجاء بها من رديء الرأي وغبش التصور ولهذا جعلها الله من صفات أوليائه المؤمنين المنقادين لربهم وأثنى عليهم بها وجعلها صفة لأمرهم الذي يهمهم.
قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (1) .
(1) الشورى: 38.