الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 41]
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
انْتِقَالٌ لِبَيَانِ مَا أُجْمِلَ مِنْ حُكْمِ الْأَنْفَالِ، الَّذِي افْتَتَحَتْهُ السُّورَةُ، نَاسَبَ الِانْتِقَالَ إِلَيْهِ مَا جَرَى مِنَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ إِنْ عَادُوا إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الْأَنْفَال: 39] .
وافتتاحه ب فَاعْلَمُوا لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى رِعَايَةِ الْعَمَلِ بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الْأَنْفَال: 24] فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعِلْمِ تَقَرُّرُ الْجَزْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ، وَالْعَمَلُ بِذَلِكَ الْمَعْلُوم، فَيكون فَاعْلَمُوا كِنَايَةً مُرَادًا بِهِ صَرِيحُهُ وَلَازِمُهُ. وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَبِالْخُصُوصِ جَيْشُ بَدْرٍ، وَلَيْسَ هَذَا نَسْخًا لِحُكْمِ الْأَنْفَالِ الْمَذْكُورِ أَوَّلَ السُّورَةِ، بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِإِجْمَالِ قَوْلِهِ: لِلَّهِ
…
وَلِلرَّسُولِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّهَا نَاسِخَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ ابْتِدَاءً أَنَّ قِسْمَةَ الْمَغَانِمِ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، يُرِيدُ أَنَّهَا لِاجْتِهَادِ الرَّسُولِ بِدُونِ تَعْيِينٍ، ثُمَّ شَرَعَ التَّخْمِيسَ. وَذَكَرُوا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُخَمِّسْ مَغَانِمَ بَدْرٍ، ثُمَّ خَمَّسَ مَغَانِمَ أُخْرَى بَعْدَ بَدْرٍ، أَيْ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ،
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَاهُ شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ يَوْمَ بَدْرٍ
، فَاقْتَضَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَنَّ مَغَانِمَ بَدْرٍ خُمِّسَتْ.
وَقَدِ اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ قَدِيمًا فِي الْمُرَادِ مِنَ الْمَغْنَمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَمْ تَنْضَبِطْ تَقَارِيرُ أَصْحَابِ التَّفَاسِيرِ فِي طَرِيقَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ كَلَامِهِمْ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَلَطَهَا مَعَ آيَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ، فَجَعَلَ هَذِهِ نَاسِخَةً لِآيَةِ الْحَشْرِ وَالْعَكْسَ، أَوْ أَنَّ إِحْدَى الْآيَتَيْنِ مُخَصِّصَةً لِلْأُخْرَى: إِمَّا فِي السِّهَامِ، وَإِمَّا فِي أَنْوَاعِ الْمَغَانِمِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يَطُولُ. وَتَرَدَّدُوا فِي مُسَمَّى الْفَيْءِ فَصَارَتْ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ مَجَالًا لِاخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ: النَّفْلُ، وَالْغَنِيمَةُ، وَالْفَيْءُ.
وَالْوَجْهُ عِنْدِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، واتّصالها بقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [الْأَنْفَالِ: 1] أَنَّ المُرَاد بقوله: أَنَّما غَنِمْتُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَا حَصَّلْتُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ مِنْ مَتَاعِ الْجَيْشِ، وَذَلِكَ مَا سُمِّيَ بِالْأَنْفَالِ، فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، فَالنَّفْلُ وَالْغَنِيمَةُ مُتَرَادِفَانِ، وَذَلِكَ مُقْتَضَى اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَقَتَادَةَ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ:
الْأَنْفَالُ الْغَنَائِمُ. وَعَلَيْهِ فَوَجْهُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ إِذْ قَالَ تَعَالَى هُنَا غَنِمْتُمْ وَقَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَة [الْأَنْفَال: 1] : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ لِاقْتِضَاءِ الْحَالِ التَّعْبِيرَ هُنَا بِفِعْلٍ، وَلَيْسَ فِي الْعَرَبِيَّةِ فِعْلٌ مِنْ مَادَّةِ النَّفْلِ يُفِيدُ إِسْنَادَ مَعْنَاهُ إِلَى مَنْ حَصَلَ لَهُ، وَلِذَلِكَ فَآيَةُ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ سِيقَتْ هُنَا بَيَانا لآيَة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ فَإِنَّهُمَا وَرَدَتَا فِي انْتِظَامٍ مُتَّصِلٍ مِنَ الْكَلَامِ. وَنَرَى أَنَّ تَخْصِيصَ اسْمِ النَّفْلِ بِمَا يُعْطِيهِ أَمِيرُ الْجَيْشِ أَحَدَ الْمُقَاتِلِينَ زَائِدًا عَلَى سَهْمِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ سَوَاءٌ كَانَ سَلْبًا أَوْ نَحْوَهُ مِمَّا يَسَعُهُ الْخُمُسُ أَوْ مِنْ أَصْلِ مَالِ الْغَنِيمَةِ عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي، إِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحٌ شَاعَ بَيْنَ أُمَرَاءِ الْجُيُوشِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْأَنْفَالَ مَا يَصِلُ إِلَى
الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَجَعَلَهَا بِمَعْنَى الْفَيْءِ، فَمَحْمَلُهُ عَلَى بَيَانِ الِاصْطِلَاحِ الَّذِي اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ مِنْ بَعْدُ.
وَتَعْبِيرَاتُ السَّلَفِ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْغَنِيمَةِ وَالنَّفْلِ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ، وَهَذَا مِلَاكُ الْفَصْلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِتَمْيِيزِ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ الْمَأْخُوذَةِ فِي الْقِتَالِ، فَأَمَّا صُوَرُ قِسْمَتِهَا فَسَيَأْتِي بَعْضُهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ، وَيُقَالُ: لَهَا الْمَغْنَمُ، مَا يَأْخُذُهُ الْغُزَاةُ مِنْ أَمْتِعَةِ الْمُقَاتِلِينَ غَصْبًا، بِقَتْلٍ أَوْ بِأَسْرٍ، أَوْ يَقْتَحِمُونَ دِيَارَهُمْ غَازِينَ، أَوْ مَا يَتْرُكُهُ الْأَعْدَاءُ
فِي دِيَارِهِمْ، إِذَا فَرُّوا عِنْدَ هُجُومِ الْجَيْشِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ابْتِدَاءِ الْقِتَالِ. فَأَمَّا مَا يَظْفَرُ بِهِ الْجَيْشُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْغَزْوِ مِنْ مَالِ الْعَدُوِّ، وَمَا يَتْرُكُهُ الْعَدُوُّ مِنَ الْمَتَاعِ إِذَا أَخْلَوْا بِلَادَهُمْ قَبْلَ هُجُومِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، فَذَلِكَ الْفَيْءُ وَسَيَجِيءُ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ آيَة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [الْأَنْفَالِ: 1] إلَخْ. فَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ أَمْوَالِ الْعَدُوِّ الْمُقَاتِلِ حَقٌّ لِجَيْشِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا الْغَنِيمَةَ وَالْفَيْءَ. وَأَمَّا النَّفْلُ فَلَيْسَ حَقًّا مُسْتَقِلًّا بِالْحُكْمِ، وَلَكِنَّهُ مَا يُعْطِيهِ الْإِمَامُ مِنَ الْخُمُسِ لِبَعْضِ الْمُقَاتِلِينَ زَائِدًا عَلَى سَهْمِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، عَلَى مَا يَرَى مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَلَا تَعْيِينَ لِمِقْدَارِ النَّفْلِ فِي الْخُمُسِ وَلَا حَدَّ لَهُ، وَلَا يَكُونُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْخُمُسِ. هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَرِوَايَةٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَهُوَ الْجَارِي عَلَى مَا عَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الثَّلَاثَةُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: النَّفْلُ مِنَ الْخُمُسِ وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ.
وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَمَكْحُولٍ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: النَّفْلُ مَا يُعْطَى مِنَ الْغَنِيمَةِ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الْخُمُسِ.
وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: أَنَّما اسْمٌ مَوْصُولٌ وَهُوَ اسْمُ (أَنَّ) وَكُتِبَتْ هَذِهِ فِي الْمُصْحَفِ مُتَّصِلَةً بِ (أَنَّ) لِأَنَّ زَمَانَ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ كَانَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ قَوَاعِدِ الرَّسْمِ وَضَبْطِ الْفُرُوقِ فِيهِ بَيْنَ مَا يَتَشَابَهُ نُطْقُهُ وَيَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ، فَالتَّفْرِقَةُ فِي الرَّسْمِ بَيْنَ (مَا) الْكَافَّةِ وَغَيْرِهَا لَمْ يَنْضَبِطْ زَمَنَ كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ الْأُولَى، وَبَقِيَتْ كِتَابَةُ الْمَصَاحِفِ عَلَى مِثَالِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ مُبَالَغَةً فِي احْتِرَامِ الْقُرْآنِ عَنِ التَّغْيِيرِ.
ومِنْ شَيْءٍ بَيَانٌ لِعُمُومِ (مَا) لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ غَنِيمَةٌ مُعَيَّنَةٌ خَاصَّةٌ. وَالْفَاءُ فِي
قَوْلِهِ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ لِمَا فِي الْمَوْصُولِ مِنْ مَعْنَى الِاشْتِرَاطِ، وَمَا فِي الْخَبَرِ مِنْ مَعْنَى الْمُجَازَاةِ بِتَأْوِيلِ: إِنْ غَنِمْتُمْ فَحَقٌّ لِلَّهِ خُمُسُهُ إلَخْ.
وَالْمَصْدَرُ الْمُؤَوَّلُ بَعْدَ (أَنَّ) فِي قَوْلِهِ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ، أَوْ خَبَرٌ حُذِفَ مُبْتَدَؤُهُ، وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ بِمَا يُنَاسِبُ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ لَامُ الِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ فَحَقٌّ لِلَّهِ خُمُسُهُ. وَإِنَّمَا صِيغَ عَلَى هَذَا النَّظْمِ، مَعَ كَوْنِ مَعْنَى اللَّامِ كَافِيًا فِي الدَّلَالَةِ
عَلَى الْأَحَقِّيَّةِ، كَمَا قُرِئَ فِي الشَّاذِّ فَلِلَّهِ خُمُسُهُ لِمَا يُفِيدُهُ الْإِتْيَانُ بِحَرْفِ (أَنَّ) مِنَ الْإِسْنَادِ مَرَّتَيْنِ تَأْكِيدًا، وَلِأَنَّ فِي حَذْفِ أَحَدِ رُكْنَيِ الْإِسْنَادِ تَكْثِيرًا لِوُجُوهِ الِاحْتِمَالِ فِي الْمُقَدَّرِ، مِنْ نَحْوِ تَقْدِيرِ: حَقٌّ، أَوْ ثَبَاتٌ، أَوْ لَازِمٌ، أَوْ وَاجِبٌ.
وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ، أَوِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ أَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ لِلْغُزَاةِ الصَّادِقِ عَلَيْهِمْ ضَمِيرُ غَنِمْتُمْ فَثَبَتَ بِهِ أَنَّ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ عَدَا خُمُسِهَا.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ خُمُسَ الْغَنِيمَةِ حَقًّا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِمَا، وَكَانَ أَمْرُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ رُبُعَ الْغَنِيمَةِ يَكُونُ لِقَائِدِ الْجَيْشِ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ «الْمِرْبَاعَ» بِكَسْرِ الْمِيمِ.
وَفِي عُرْفِ الْإِسْلَامِ إِذَا جُعِلَ شَيْءٌ حَقًّا لِلَّهِ، مِنْ غَيْرِ مَا فِيهِ عِبَادَةٌ لَهُ: أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ لِلَّذِينَ يَأْمُرُ اللَّهُ بِتَسْدِيدِ حَاجَتِهِمْ مِنْهُ، فَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْأَمْوَالِ مُسْتَحِقُّونَ عَيَّنَهُمُ الشَّرْعُ، فَالْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْخُمُسَ حَقُّ اللَّهِ يَصْرِفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ، وَقَدْ شَاءَ فَوَكَّلَ صَرْفَهُ إِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَلِمَنْ يَخْلُفُ رَسُولَهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ الْخُمُسُ مَقْسُومًا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَشَذَّ أَبُو الْعَالِيَةِ رُفَيْعٌ (1) الرِّيَاحِيُّ وَلَاءً مِنَ التَّابِعِينَ، فَقَالَ: إِنَّ الْخُمُسَ يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ فَيُعْزَلُ مِنْهَا سَهْمٌ فَيَضْرِبُ الْأَمِيرُ بِيَدِهِ عَلَى ذَلِكَ السَّهْمِ الَّذِي عَزَلَهُ فَمَا قَبَضَتْ عَلَيْهِ يَدُهُ مِنْ ذَلِكَ جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ: أَيْ عَلَى وَجْهٍ يُشْبِهُ الْقُرْعَةَ، ثُمَّ يُقَسِّمُ بَقِيَّةَ ذَلِكَ السَّهْمِ عَلَى خَمْسَةٍ: سَهْمٍ لِلنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم، وَسَهْمٍ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَسَهْمٍ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٍ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٍ لِابْنِ السَّبِيلِ. وَنَسَبَ أَبُو الْعَالِيَةِ ذَلِكَ إِلَى فِعْلِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا الرَّسُولُ- عليه الصلاة والسلام فَلِحَقِّهِ حَالَتَانِ: حَالَةُ تَصَرُّفِهِ فِي مَالِ اللَّهِ بِمَا ائْتَمَنَهُ اللَّهُ عَلَى سَائِرِ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ، وَحَالَةِ انْتِفَاعِهِ بِمَا يُحِبُّ انْتِفَاعَهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ. فَلِذَلِكَ
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْخُذُ مِنَ الْخُمُسِ نَفَقَتَهُ وَنَفَقَةَ عِيَالِهِ، وَيَجْعَلُ الْبَاقِيَ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ.
وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى
(1) بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء توفّي سنة تسعين على الصَّحِيح.
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْفَيْء «مَالِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ»
فَيُقَاسُ عَلَيْهِ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ، وَكَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ رَسُولِ اللَّهِ فِي انْتِفَاعِهِ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْحَقِّ فِي مَالِ اللَّهِ. وَأَوْضَحُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي مُحَاوَرَتِهِ مَعَ الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ، حِينَ تَحَاكَمَا إِلَيْهِ، رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» وَرِجَال «الصَّحِيحِ» ، قَالَ عُمَرُ:«إِنَّ اللَّهَ كَانَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ فِي هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطَهُ غَيْرُهُ قَالَ مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ [الْحَشْر: 7] فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لرَسُول الله، وو اللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ قَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ» .
وَالْغَرَضُ مِنْ جَلْبِ كَلَامِ عُمَرَ قَوْلُهُ: «ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ» .
وَأَمَّا ذُو الْقُرْبى فَ (أَلْ) فِي الْقُرْبى عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [177] وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى أَيْ ذَوِي قَرَابَةِ الْمُؤْتِي الْمَالَ.
وَالْمُرَادُ هُنَا هُوَ (الرَّسُولُ) الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ، أَيْ وَلِذَوِي قُرْبَى الرَّسُولِ، وَالْمُرَادُ بِ (ذِي) الْجِنْسُ، أَيْ: ذَوِي قُرْبَى الرَّسُولِ، أَيْ: قَرَابَتَهُ، وَذَلِكَ إِكْرَامٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَعَلَ لِأَهْلِ قَرَابَتِهِ حَقًّا فِي مَالِ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَخْذَ الصَّدَقَاتِ وَالزَّكَاةِ. فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ أَغْنَاهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ. وَلِذَلِكَ كَانَ حَقُّهُمْ فِي الْخُمُسِ ثَابِتًا بِوَصْفِ الْقَرَابَةِ.
فَذُو الْقُرْبَى مُرَادٌ بِهِ كُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِقَرَابَةِ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام فَهُوَ عَامٌّ فِي الْأَشْخَاصِ، وَلَكِنْ لَفْظُ الْقُرْبى جِنْسٌ فَهُوَ مُجْمَلٌ، وَأُجْمِلَتْ رُتْبَةُ الْقَرَابَةِ إِحَالَةً عَلَى الْمَعْرُوفِ فِي قُرْبَى الرَّجُلِ، وَتِلْكَ هِيَ قُرْبَى نَسَبِ الْآبَاءِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ. ثُمَّ إِنَّ نَسَبَ الْآبَاءِ بَيْنَ الْعَرَبِ يُعَدُّ مُشْتَرَكًا إِلَى الْحَدِّ الَّذِي تَنْشَقُّ مِنْهُ الْفَصَائِلُ، وَمَحْمَلُهَا الظَّاهِرُ عَلَى عَصَبَةِ الرَّجُلِ مِنْ أَبْنَاءِ جَدِّهِ الْأَدْنَى. وَأَبْنَاءُ أَدْنَى أَجْدَادِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم هُمْ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ: هُمْ بَنُو هَاشِمٍ، لِأَنَّ هَاشِمًا لَمْ يَبْقَ لَهُ عَقِبٌ فِي زَمَنِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مِنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَالْأَرْجَحُ أَنَّ قُرْبَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم هُمْ بَنُو هَاشِمٍ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ
وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ، الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا أَصْحَابُهُ، وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ: أَنَّ الْقُرْبَى هُنَا: هُمْ بَنُو
هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ. وَمَالَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَمُتَمَسَّكُ هَؤُلَاءِ مَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَسُولَ اللَّهِ نُكَلِّمُهُ فِيمَا قَسَّمَ مِنَ الْخُمُسِ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: قَسَمْتَ لِإِخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ وَلَمْ تُعْطِنَا شَيْئًا، وَقَرَابَتُنَا وَقَرَابَتُهُمْ وَاحِدَةٌ فَقَالَ:«إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ»
. وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَلَا فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَلَكِنَّ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ فِي الْأَمْوَالِ الْمُعْطَاةِ وَيَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ لِأُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ لِلنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ سَهْمًا مِنَ الْخُمُسِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَعْطَى بَنِي الْمُطَّلِبِ عَطَاءً مِنْ سَهْمِهِ الْخَاصِّ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى وَفَائِهِمْ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَانْتِصَارِهِمْ لَهُ، وَتِلْكَ مَنْقَبَةٌ شَرِيفَةٌ أَيَّدُوا بِهَا دَعْوَةَ الدِّينِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ، فَلَمْ يُضِعْهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ بِمُوَاسَاتِهِمْ، وَذَلِكَ لَا يُكْسِبُهُمْ حَقًّا مُسْتَمِرًّا.
ثَانِيهَا: أَنَّ الْحُقُوقَ الشَّرْعِيَّةَ تَسْتَنِدُ لِلْأَوْصَافِ الْمُنْضَبِطَةِ، فَالْقُرْبَى هِيَ النَّسَبُ، وَنَسَبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِهَاشِمٍ، وَأَمَّا بَنُو الْمُطَّلِبِ فَهُمْ وَبَنُو عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنُو نَوْفَلٍ فِي رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ آبَاءَهُمْ هُمْ أَبْنَاءُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَإِخْوَةٌ لِهَاشِمٍ، فَالَّذِينَ نَصَرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَظَاهَرُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ لَهُمُ الْمَزِيَّةُ، وَهُمُ الَّذِينَ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ أَعْيَانَهُمْ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ أَعْطَى مَنْ نَشَأَ بَعْدَهُمْ مِنْ أَبْنَائِهِمُ الَّذِينَ لَمْ يَحْضُرُوا ذَلِكَ النَّصْرَ، فَمَنْ نَشَأَ بَعْدَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ يُسَاوُونَ أَبْنَاءَ نَوْفَلٍ وَأَبْنَاءَ عَبْدِ شَمْسٍ، فَلَا يَكُونُ فِي عَطَائِهِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَأْوِيلِ ذِي الْقُرْبَى فِي الْآيَةِ بِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ.
أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ الْجَصَّاصُ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي «الْجَامِعِ الصَّغِيرِ» : يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ (أَيْ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِسَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى) وَرَوَى
بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: خُمُسُ اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَاحِدٌ، وَخَمُسٌ لِذِي الْقُرْبَى فَلِكُلِّ صِنْفٍ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ خُمُسُ الْخُمُسِ قَالَ: وَإِنَّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ ذَا الْقُرْبَى لَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا بِالْفَقْرِ. قَالَ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَوِي الْقُرْبَى مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: قَرَابَةُ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةَ وَهُمْ (آلُ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسُ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَقِيلٍ وَوَلَدُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) وَقَالَ آخَرُونَ: بَنُو الْمُطَّلِبِ دَاخِلُونَ فِيهِمْ.
وَقَالَ أَصْبَغُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: ذَوُو الْقُرْبَى هُمْ عَشِيرَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأَقْرَبُونَ الَّذِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِإِنْذَارِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاء: 214] وَهُمْ آلُ قُصَيٍّ. وَعَنْهُ أَنَّهُمْ
آلُ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ، أَيْ قُرَيْشٍ، وَنُسِبَ هَذَا إِلَى بَعْضِ السَّلَفِ
وَأَخْرَجَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الْقُرْبَى بَنِي أَبِي لَهَبٍ قَالَ: لِأَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا قَرَابَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي لَهَبٍ فَإِنَّهُ آثَرَ عَلَيْنَا الْأَفْجَرِينَ» رَوَاهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ
، وَلَا يُعْرَفُ لِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَدٌ، وَبَعْدُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِأَبِي لَهَبٍ فَلَا يَشْمَلُ أَبْنَاءَهُ فِي الْإِسْلَامِ. ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْإِصَابَةِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ، وَغَيْرَهُ.
رَوَى عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَدِمَتْ دُرَّةُ بِنْتُ أَبِي لَهَبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنَّ النَّاسَ يَصِيحُونَ بِي وَيَقُولُونَ: إِنِّي بِنْتُ حَطَبِ النَّارِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ مُغْضَبٌ شَدِيدُ الْغَضَبِ، فَقَالَ:«مَا بَالُ أَقْوَامٍ يُؤْذُونَنِي فِي نَسَبِي وَذَوِي رَحِمِي أَلَا وَمَنْ آذَى نَسَبِي وَذَوِي رَحِمِي فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ»
. فَوَصَفَ دُرَّةَ بِأَنَّهَا مِنْ نَسَبِهِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى يَسْتَحِقُّونَ دُونَ اشْتِرَاطِ الْفَقْرِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّ وَصْفَ قُرْبَى النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم هُوَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْحَقِّ لَهُمْ فِي خُمُسِ الْمَغْنَمِ دُونَ تَقْيِيدٍ بِوَصْفِ فَقْرِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُعْطَوْنَ إِلَّا بِوَصْفِ الْفَقْرِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. فَفَائِدَةُ تَعْيِينِ خُمُسِ الْخُمُسِ لَهُمْ أَنْ لَا يُحَاصَّهُمْ فِيهِ مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ يَحْكِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ مُوَافَقَةَ الْجُمْهُورِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْفَقْرِ فِيهِمْ.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْخُمُسَ لِخَمْسَةِ مَصَارِفَ وَلَمْ يُعَيِّنْ مِقْدَارَ مَا لِكُلِّ مَصْرِفٍ مِنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ ذَلِكَ لِيَكُونَ صَرْفُهُ لِمَصَارِفِهِ هَذِهِ مَوْكُولًا إِلَى اجْتِهَادِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَيُقَسَّمُ بِحَسَبِ الْحَاجَاتِ وَالْمَصَالِحِ، فَيَأْخُذُ كُلُّ مَصْرِفٍ مِنْهُ مَا يَفِي بِحَاجَتِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا ضَرَّ مَعَهُ عَلَى أَهْلِ الْمَصْرِفِ الْآخَرِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي قِسْمَةِ الْخُمُسِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَعَرُّضٌ لِمِقْدَارِ الْقِسْمَةِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي السُّنَّةِ مَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ لِذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يُنَاطَ بِالْحَاجَةِ، وَبِتَقْدِيمِ الْأَحْوَجِ وَالْأَهَمِّ عِنْدَ التَّضَايُقِ، وَالْأَمْرُ فِيهِ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَقَدْ
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقَسَّمُ لِكُلِّ مَصْرَفٍ الْخُمُسُ مِنَ الْخُمُسِ، لِأَنَّهَا خَمْسَةُ مَصَارِفَ، فَجَعَلَهَا مُتَسَاوِيَةً، لِأَنَّ التَّسَاوِيَ هُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرِكَةِ الْمُجْمَلَةِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى دَلِيلِ الْمَصْلَحَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّرْجِيحِ وَإِذْ قَدْ جَعَلَ مَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ خُمُسًا وَاحِدًا تَبَعًا لِلْجُمْهُورِ فَقَدْ جَعَلَهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ارْتَفَعَ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ وَسَهْمُ قَرَابَتِهِ بِوَفَاتِهِ، وَبَقِيَ الْخُمُسُ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَخَذَ سَهْمًا فِي الْمَغْنَمِ لِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، لَا لِأَنَّهُ إِمَامٌ، فَلِذَلِكَ لَا يَخْلُفُهُ فِيهِ غَيْرُهُ.
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْلُفُهُ فِيهِ الْإِمَامُ، يَبْدَأُ بِنَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ بِلَا تَقْدِيرٍ، وَيَصْرِفُ الْبَاقِيَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَعَانِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الْبَقَرَةِ: 177] وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً- إِلَى قَوْلِهِ- وَابْنِ السَّبِيلِ [النِّسَاءِ: 36] .
وَالْيَتَامَى وَابْنُ السَّبِيلِ لَا يُعْطَوْنَ إِلَّا إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ فَفَائِدَةُ تَعْيِينِ خُمُسِ الْخُمُسِ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ لَا يُحَاصَّهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالشَّأْنُ، فِي الْيَتَامَى فِي
الْغَالِبِ أَنْ لَا تَكُونَ لَهُمْ سَعَةٌ فِي الْمَكَاسِبِ فَهُمْ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ، وَلَكِنَّهَا دُونَ الْفَقْرِ فَجُعِلَ لَهُمْ حَقٌّ فِي الْمَغْنَمِ تَوْفِيرًا عَلَيْهِمْ فِي إِقَامَة شؤونهم، فَهُمْ مِنَ الْحَاجَةِ الْمَالِيَّةِ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمَسَاكِينِ، وَهُمْ مِنْ حَالَةِ الْمَقْدِرَةِ أَضْعَفُ حَالًا مِنْهُمْ، فَلَوْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ بِأَمْوَالٍ تَرَكَهَا لَهُمْ آبَاؤُهُمْ فَلَا يُعْطَوْنَ مِنَ الْخُمُسِ شَيْئًا.
وَالْمَسَاكِين الْفُقَرَاء الشَّديد والفقر جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ خُمُسَ الْخُمُسِ كَمَا جَعَلَ لَهُمْ حَقًّا فِي الزَّكَاةِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْفُقَرَاءِ حَقًّا فِي الْخُمُسِ كَمَا لَمْ يَجْعَلْ لِلْيَتَامَى حَقًّا فِي الزَّكَاةِ.
وَابْنُ السَّبِيلِ أَيْضًا فِي حَاجَةٍ إِلَى الْإِعَانَةِ عَلَى الْبَلَاغ وتسديد شؤونه، فَهُوَ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ، فَلَوْ كَانَ ابْنُ السَّبِيلِ ذَا وَفْرٍ وَغِنًى لَمْ يُعْطَ مِنَ الْخُمُسِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَشْتَرِطْ مَالِكٌ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي الْيَتَامَى وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ الْفَقْرَ، بَلْ مُطْلَقَ الْحَاجَةِ. وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ الْفَقْرَ فِي ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَجَعَلَ ذِكْرَهُمْ دُونَ الِاكْتِفَاءِ بِالْمَسَاكِينِ لِتَقْرِيرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ شَرْطٌ يَتَعَلَّقُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِلْمِ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْعَمَلَ بِالْمَعْلُومِ وَالِامْتِثَالَ لِمُقْتَضَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ، صَحَّ تَعَلُّقُ الشَّرْطِ بِهِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا دَلِيلًا عَلَى الْجَوَابِ أَوْ هُوَ الْجَوَابُ مُقَدَّمًا عَلَى شَرْطِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَاعْلَمُوا أَنَّ مَا غَنِمْتُمْ إلَخْ. وَاعْمَلُوا بِمَا عَلِمْتُمْ
فَاقْطَعُوا أَطْمَاعَكُمْ فِي ذَلِك الْخمس واقتنعوا بِالْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ، لِأَنَّ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحَقُّقِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ مَعَ الْعَمَلِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى ذَلِكَ الْعِلْمِ.
مُطْلَقُ الْعِلْمِ بِأَنَّ الرَّسُولَ قَالَ ذَلِكَ.
وَالشَّرْطُ هُنَا مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ إِذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ مُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَحَقُّقُ الْمَشْرُوطِ، وَهُوَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ إِلَى آخِرِهَا. وَجِيءَ فِي الشَّرْطِ بِحِرَفِ (إِنِ) الَّتِي شَأْنُ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ مَشْكُوكًا فِي وُقُوعِهِ زِيَادَةً فِي حَثِّهِمْ عَلَى الطَّاعَةِ حَيْثُ يَفْرِضُ حَالُهُمْ فِي صُورَةِ الْمَشْكُوكِ فِي حُصُولِ شَرْطِهِ إِلْهَابًا لَهُمْ لِيَبْعَثَهُمْ عَلَى إِظْهَارِ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ فِيهِمْ، فَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَالْإِيمَانُ يُرْشِدُ إِلَى الْيَقِينِ بِتَمَامِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ لَهُ وَآمَنْتُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَرَأَيْتُمْ ذَلِكَ رَأْيَ الْعَيْنِ وَارْتَقَى إِيمَانُكُمْ مِنْ مَرْتَبَةِ حَقِّ الْيَقِينِ إِلَى مَرْتَبَةِ
عَيْنِ الْيَقِينِ فَعَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِنَفْعِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إِذْ يَعِدُكُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ، فَكَانَ مَا دَفَعَكُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ أَحْفَظَ لِمَصْلَحَتِكُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا لِقُوَّةِ دِينِكُمْ. فَمَنْ رَأَوْا ذَلِكَ وَتَحَقَّقُوهُ فَهُمْ أَحْرِيَاءُ بِأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَا شَرَعَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ هُوَ الْمصلحَة، وَلم يعبأوا بِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ نَقْصٍ فِي حُظُوظِهِمُ الْعَاجِلَةِ، عِلْمًا بِأَنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ مَصَالِحَ جَمَّةً آجِلَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَما أَنْزَلْنا عَطْفٌ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَالْمَعْنَى: وَآمَنْتُمْ بِمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ، وَهَذَا تَخَلُّصٌ لِلتَّذْكِيرِ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِقَادَ الْجَازِمَ بِحُصُولِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمَ بِهِ، فَيَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ، أَوْ مِنْ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ.
وَتَخْصِيصُ مَا أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ جُمْلَةِ الْمَعْلُومَاتِ الرَّاجِعَةِ لِلِاعْتِقَادِ، لِأَنَّ لِذَلِكَ الْمَنْزِلِ مَزِيدَ تَعَلُّقٍ بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْعَمَلِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْأَمْرِ بِالْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا.
وَالْإِنْزَالُ: هُوَ إِيصَالُ شَيْءٍ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى إِبْلَاغِ أَمْرٍ مِنَ اللَّهِ، وَمِنَ النِّعَمِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُنَزَّلُ مِنْ قَبِيلِ الْوَحْيِ، أَيْ وَالْوَحْيُ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ بَدْرٍ، لَكِنَّهُ الْوَحْيُ الْمُتَضَمِّنُ شَيْئًا يُؤْمِنُونَ بِهِ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [الْأَنْفَال: 7] .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَالْأَلْطَافِ الْعَجِيبَةِ، مِثْلَ إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ
لِلنَّصْرِ، وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ عِنْدَ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ، لِتَعْبِيدِ الطَّرِيقِ، وَتَثْبِيتِ الْأَقْدَامِ، وَالِاسْتِقَاءِ.
وَإِطْلَاقُ الْإِنْزَالِ عَلَى حُصُولِهِ اسْتِعَارَةٌ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْوَاصِلِ إِلَيْهِمْ مِنْ عُلُوٍّ تَشْرِيفًا لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الْفَتْح: 26] . وَالتَّطَهُّرِ وَلَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ الْجَمِيعِ لِأَنَّ غَرَضَ ذَلِكَ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ مَعْنَاهُ مِمَّا نعلمهُ أَو لما علمناه.
ويَوْمَ الْفُرْقانِ هُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَهُوَ الْيَوْمُ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ سُمِّيَ يَوْمَ الْفُرْقَانِ لِأَنَّ الْفُرْقَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: