الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 47]
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَاّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِجُمْلَةِ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التَّوْبَة: 46] لِبَيَانِ الْحِكْمَةِ مِنْ كَرَاهِيَةِ اللَّهِ انْبِعَاثَهُمْ، وَهِيَ إِرَادَةُ اللَّهِ سَلَامَةَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَضْرَارِ وُجُودِ هَؤُلَاءِ بَيْنَهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُضْمِرُونَ الْمَكْرَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَخْرُجُونَ مُرْغَمِينَ، وَلَا فَائِدَةَ فِي جَيْشٍ يَغْزُو بِدُونِ اعْتِقَادِ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (الْخُرُوجِ) بِفِي شَائِعَةٌ فِي الْخُرُوجِ مَعَ الْجَيْشِ.
وَالزِّيَادَةُ: التَّوْفِيرُ.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ زادُوكُمْ لِدَلَالَةِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ، أَيْ مَا زَادُوكُمْ قُوَّةً أَوْ شَيْئًا مِمَّا تُفِيدُ زِيَادَتُهُ فِي الْغَزْوِ نَصْرًا عَلَى الْعَدُوِّ، ثُمَّ اسْتُثْنِيَ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ الْخَبَالُ عَلَى طَرِيقَةِ
التَّهَكُّمِ بِتَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ فَإِنَّ الْخَبَالَ فِي الْحَرْبِ بَعْضٌ مِنْ عَدَمِ الزِّيَادَةِ فِي قُوَّةِ الْجَيْشِ، بَلْ هُوَ أَشَدُّ عَدَمًا لِلزِّيَادَةِ، وَلَكِنَّهُ ادُّعِيَ أَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الزِّيَادَةِ فِي فَوَائِدِ الْحَرْبِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ ذَلِكَ النَّفْيِ، عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ.
وَالْخَبَالُ: الْفَسَادُ، وَتَفَكُّكُ الشَّيْءِ الْمُلْتَحِمِ الْمُلْتَئِمِ، فَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى اضْطِرَابِ الْجَيْشِ وَاخْتِلَالِ نظامه.
وَحَقِيقَة لَأَوْضَعُوا أَسْرَعُوا سَيْرَ الرِّكَابِ. يُقَالُ: وَضَعَ الْبَعِيرُ وَضْعًا، إِذَا أَسْرَعَ وَيُقَالُ: أَوْضَعْتُ بَعِيرِي، أَيْ سَيَّرْتُهُ سَيْرًا سَرِيعًا. وَهَذَا الْفِعْلُ مُخْتَصٌّ بِسَيْرِ الْإِبِلِ فَلِذَلِكَ يُنَزَّلُ فِعْلُ أَوْضَعَ مَنْزِلَةَ الْقَاصِرِ لِأَنَّ مَفْعُولَهُ مَعْلُومٌ مِنْ مَادَّةِ فِعْلِهِ. وَهُوَ هُنَا تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ الْمُنَافِقِينَ حِينَ يَبْذُلُونَ جُهْدَهُمْ لِإِيقَاعِ التَّخَاذُلِ وَالْخَوْفِ بَيْنَ رِجَالِ الْجَيْشِ، وَإِلْقَاءِ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ عَنْ قُوَّةِ الْعَدُوِّ، بِحَالِ مَنْ يُجْهِدُ بَعِيرَهُ بِالسَّيْرِ لِإِبْلَاغِ خَبَرٍ مُهِمٍّ أَوْ إِيصَالِ تِجَارَةٍ لِسُوقٍ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ [الْإِسْرَاء: 5] وَقَوْلُهُ:
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [الْمَائِدَة: 62] . وَأَصْلُهُ قَوْلُهُمْ: يَسْعَى لِكَذَا، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا شَاعَ إِطْلَاقُ السَّعْيِ فِي الْحِرْصِ عَلَى الشَّيْءِ خَفِيَتْ مُلَاحَظَةُ تَمْثِيلِ الْحَالَةِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَلِذَلِكَ اخْتِيرَ هُنَا ذِكْرُ الْإِيضَاعِ لِعِزَّةِ هَذَا الْمَعْنَى، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الصَّلَاحِيَةِ لِتَفْكِيكِ الْهَيْئَةِ بِأَنْ يُشَبَّهَ الْفَاتِنُونَ بِالرَّكْبِ، وَوَسَائِلُ الْفِتْنَةِ بِالرَّوَاحِلِ.
وَفِي ذِكْرِ خِلالَكُمْ مَا يَصْلُحُ لِتَشْبِيهِ اسْتِقْرَائِهِمُ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَفْرَادَ بِتَغَلْغُلِ الرَّوَاحِلِ فِي خِلَالِ الطُّرُقِ وَالشِّعَابِ.
وَالْخِلَالُ: جَمْعُ خَلَلٍ بِالتَّحْرِيكِ. وَهُوَ الْفُرْجَةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِمَعْنَى بَيْنَكُمْ تَشْبِيهًا لِجَمَاعَاتِ الْجَيْشِ بِالْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ.
وَكتب كلمة ولَأَوْضَعُوا فِي الْمُصْحَفِ- بِأَلِفٍ بَعْدَ هَمْزَةِ أَوْضَعُوا- الَّتِي فِي اللَّامْ أَلِفْ بِحَيْثُ وَقَعَ بَعْدَ اللَّامِ أَلِفَانِ فَأَشْبَهَتِ اللَّامْ أَلِفْ لَا النَّافِيَةَ لِفِعْلِ أَوْضَعُوا وَلَا يُنْطَقُ بِالْأَلِفِ الثَّانِيَةِ فِي الْقِرَاءَةِ فَلَا يَقَعُ الْتِبَاسٌ فِي أَلْفَاظِ الْآيَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَإِنَّمَا وَقَعُوا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْفَتْحَةَ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْأَلْسِنَةِ تُكْتَبُ أَلِفًا. وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «يُحْتَمَلُ أَنْ تُمْطَلَ حَرَكَةُ اللَّامِ فَتَحْدُثُ أَلِفٌ بَيْنَ اللَّامِ وَالْهَمْزَةِ الَّتِي مِنْ أَوْضَعَ، وَقِيلَ:
ذَلِكَ لِخُشُونَةِ هِجَاءِ الْأَوَّلِينَ» ، يَعْنِي لِعَدَمِ تَهْذِيبِ الرَّسْمِ عِنْدَ الْأَقْدَمِينَ مِنَ الْعَرَبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِثْلُ ذَلِكَ كَتَبُوا لَأَذْبَحَنَّهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [21] قُلْتُ: وَكَتَبُوا لَأُعَذِّبَنَّهُ [النَّمْل: 21] بِلَامْ أَلِفْ لَا غَيْرَ وَهِيَ بِلَصْقِ كَلِمَةِ أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ [النَّمْل: 21] ، وَلَا فِي نَحْو
وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا [الْإِسْرَاء: 73] فَلَا أَرَاهُمْ كَتَبُوا أَلِفًا بَعْدَ اللَّامْ أَلِفْ فِيمَا كَتَبُوهَا فِيهِ إِلَّا لِمَقْصِدٍ، وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ مَفْتُوحَةٌ وَعَلَى أَنَّهَا هَمْزَةُ قَطْعٍ.
وَجُمْلَةُ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ [التَّوْبَة:
46] الْعَائِدِ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَة: 45] الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُنَافِقُونَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَبَغَى يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى طَلَبَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [83] . وَعُدِّيَ يَبْغُونَكُمُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ هُنَا عَلَى طَرِيقَةِ نَزْعِ الْخَافِضِ، وَأَصْلُهُ يَبْغُونَ لَكُمُ الْفِتْنَةَ. وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ فِي فِعْلِ بَغَى بِمَعْنَى طَلَبَ.
وَالْفِتْنَةُ: اخْتِلَالُ الْأُمُورِ وَفَسَادُ الرَّأْيِ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْله: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ
وَقَوْلُهُ: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أَيْ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ مِنْ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ سَمَّاعُونَ لَهُمْ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ السَّمَّاعُونَ مُسْلِمِينَ يُصَدِّقُونَ مَا يَسْمَعُونَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّمَّاعُونَ مُنَافِقِينَ مَبْثُوثِينَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ بَغْيَهُمُ الْفِتْنَةَ أَشَدُّ خَطَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ فِي الْمُسْلِمِينَ فَرِيقًا تَنْطَلِي عَلَيْهِمْ حِيَلُهُمْ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ سُذَّجُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَعْجَبُونَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَيَتَأَثَّرُونَ وَلَا يَبْلُغُونَ إِلَى تَمْيِيزِ التَّمْوِيهَاتِ وَالْمَكَائِدِ عَنِ الصِّدْقِ وَالْحَقِّ.
وَجَاءَ سَمَّاعُونَ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اسْتِمَاعَهُمْ تَامٌّ وَهُوَ الِاسْتِمَاعُ الَّذِي يُقَارِنُهُ اعْتِقَادُ مَا يُسْمَعُ كَقَوْلِهِ: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ [الْمَائِدَة: 41] وَعَنِ الْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ زَيْدٍ: مَعْنَى سَمَّاعُونَ لَهُمْ، أَيْ جَوَاسِيسُ يَسْتَمِعُونَ الْأَخْبَارَ وَيَنْقُلُونَهَا إِلَيْهِمْ، وَقَالَ قَتَادَة وجهور الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ وَفِيكُمْ مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُمْ قَوْلَهُمْ وَيُطِيعُهُمْ، قَالَ النَّحَّاسُ الْأَغْلَبُ أَنَّ مَعْنَى سَمَّاعٍ يَسْمَعُ الْكَلَامَ وَمِثْلُهُ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ [الْمَائِدَة: 41] .
وَأَمَّا مَنْ يَقْبَلُ مَا يَسْمَعُهُ فَلَا يَكَادُ يُقَالُ فِيهِ إِلَّا سَامِعٌ مِثْلُ قَائِلٍ.
وَجِيءَ بِحَرْفِ (فِي) مِنْ قَوْلِهِ: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ الدَّالِّ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ دُونَ حَرْفِ (مِنْ) فَلَمْ يَقُلْ وَمِنْكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أَوْ وَمِنْهُمْ سَمَّاعُونَ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ تَخْصِيصُ السَّمَّاعِينَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ السَّمَّاعِينَ لَهُمْ فَرِيقَانِ فَرِيقٌ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَفَرِيقٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَنْفُسِهِمْ مَبْثُوثُونَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لِإِلْقَاءِ الْأَرَاجِيفِ وَالْفِتْنَةِ وَهُمُ الْأَكْثَرُ فَكَانَ اجْتِلَابُ حَرْفِ (فِي) إِيفَاءً بِحَقِّ هَذَا الْإِيجَازِ الْبَدِيعِ وَلِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُلَائِمُ لِمَحْمَلَيْ لَفَظِ سَمَّاعُونَ فَقَدْ حَصَلَتْ بِهِ فَائِدَتَانِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ قُصِدَ مِنْهُ إِعْلَامُ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَحْوَالَ الْمُنَافِقِينَ الظَّالِمِينَ لِيَكُونُوا مِنْهُمْ عَلَى حَذَرٍ، وَلِيَتَوَسَّمُوا فِيهِمْ مَا وَسَمَهُمُ الْقُرْآنُ بِهِ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ الِاسْتِمَاعَ لَهُمْ هُوَ ضَرْبٌ مِنَ الظُّلْمِ.
وَالظُّلْمُ هُنَا الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] .