الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُسْلِمِينَ، وَعَهْدُهُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالْمُسْلِمِينَ الْمُتَمَيِّزِينَ بِجَمَاعَةٍ وَوَطَنٍ وَاحِدٍ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مِنْ دَارِ الشِّرْكِ فَلَا يَتَحَمَّلُ الْمُسْلِمُونَ تَبِعَاتِهِمْ، وَلَا يَدْخُلُونَ فِيمَا جَرُّوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ عَدَاوَاتٍ وَإِحَنٍ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصْدُرُوا عَنْ رَأْيِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَا يَنْشَأُ بَيْنَ الْكُفَّارِ الْمُعَاهِدِينَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْبَاقِينَ فِي دَارِ الْكُفْرِ لَا يُعَدُّ نَكْثًا مِنَ الْكُفَّارِ لِعَهْدِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ مِنْ عُذْرِهِمْ أَنْ يَقُولُوا: لَا نَعْلَمُ حِينَ عَاهَدْنَاكُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْكُمْ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ إِلَّا بِمُعَاشَرَةٍ، وَهَؤُلَاءِ ظَاهِرُ حَالِهِمْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ يُسَاكِنُونَهُمْ وَيُعَامِلُونَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ تَحْذِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يَحْمِلَهُمُ الْعَطْفُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يُقَاتِلُوا قَوْمًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ.
وَفِي هَذَا التَّحْذِيرِ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وأنّه لَا ينفضه إِلَّا أَمْرٌ صَرِيحٌ فِي مُخَالفَته.
[73]
[سُورَة الْأَنْفَال (8) : آيَة 73]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73)
هَذَا بَيَانٌ لِحُكْمِ الْقِسْمِ الْمُقَابِلِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا [الْأَنْفَال: 72] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ. وَالْوَاوُ لِلتَّقْسِيمِ وَالْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَدْلُولِهِ الْكِنَائِيِّ: وَهُوَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَوْلِيَاءَ لِلْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ وَلَايَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا لَيْسَ صَرِيحَةً مِمَّا يُهِمُّ الْمُسْلِمِينَ لَوْلَا أَنَّ الْقَصْدَ النَّهْيُ عَنْ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ، وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ أَيْ: إِنْ لَا تَفْعَلُوا قَطْعَ الْوَلَايَةِ مَعَهُمْ، فَضَمِيرُ تَفْعَلُوهُ عَائِدٌ إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ بِتَأْوِيلِ: الْمَذْكُورَ، لِظُهُورِ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ تَكْلِيفَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يُنْفِذُوا وَلَايَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضِهِمْ بَعْضًا، لَوْلَا أَنَّ الْمَقْصُودَ لَازِمُ ذَلِكَ وَهُوَ عَدَمُ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ.
وَالْفِتْنَةُ اخْتِلَالُ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [الْبَقَرَة: 102]- وَقَوْلِهِ- وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
[191]
، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا آنِفًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَالْفِتْنَةُ تَحْصُلُ مِنْ مُخَالَطَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا قَرِيبِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ لَهُمْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ أَوَاصِرُ قَرَابَةٍ وَوَلَاءٌ وَمَوَدَّةٌ وَمُصَاهَرَةٌ وَمُخَالَطَةٌ، وَقَدْ كَانَ إِسْلَامُ مَنْ أَسْلَمَ مُثِيرًا لِحَنَقِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَنْقَطِعِ الْمُسْلِمُونَ عَنْ مُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ يُخْشَى عَلَى ضُعَفَاءِ النُّفُوسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تَجْذِبَهُمْ تِلْكَ الْأَوَاصِرُ وَتَفْتِنَهُمْ قُوَّةُ الْمُشْرِكِينَ وَعِزَّتُهُمْ، وَيَقْذِفَ بِهَا الشَّيْطَانُ فِي نُفُوسِهِمْ، فَيَحِنُّوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَيَعُودُوا إِلَى الْكُفْرِ. فَكَانَ إِيجَابُ مُقَاطَعَتِهِمْ لِقَصْدِ قَطْعِ نُفُوسِهِمْ عَنْ تَذَكُّرِ تِلْكَ الصِّلَاتِ، وَإِنْسَائِهِمْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ، بِحَيْثُ لَا يُشَاهِدُونَ إِلَّا حَالَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَشْتَغِلُوا إِلَّا بِمَا يُقَوِّيهَا، وَلِيَكُونُوا فِي مُزَاوَلَتِهِمْ أُمُورَ الْإِسْلَامِ عَنْ تَفَرُّغِ بَالٍ مِنْ تَحَسُّرٍ أَوْ تَعَطُّفٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ الْوَسَائِلَ قَدْ يَسْرِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، فَتُفْضِي وَسَائِلُ الرَّأْفَةِ وَالْقَرَابَةِ إِلَى وَسَائِلِ الْمُوَافَقَةِ فِي الرَّأْيِ، فَلِذَا كَانَ هَذَا حَسْمًا لِوَسَائِلِ الْفِتْنَةِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ لِلْعَهْدِ وَالْمُرَادُ أَرض الْمُسلمين.
و «الْفساد» ضِدُّ الصَّلَاحِ، وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَة الْبَقَرَة [30] .
و «الْكَبِير» حَقِيقَتُهُ الْعَظِيمُ الْجِسْمِ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلشَّدِيدِ الْقَوِيِّ مِنْ نَوْعِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [الْكَهْف: 5] .
وَالْمُرَادُ بِالْفَسَادِ هُنَا: ضِدُّ صَلَاحِ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا لَمْ يَظْهَرُوا يَدًا وَاحِدَةً عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ لَمْ تَظْهَرْ شَوْكَتُهُمْ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ بَيْنَهُمُ الِاخْتِلَافُ مِنْ جَرَّاءِ اخْتِلَافِهِمْ فِي مِقْدَارِ مُوَاصَلَتِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ، وَيَرْمِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْكُفْرِ أَوِ النِّفَاقِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تَفَرُّقِ جَمَاعَتِهِمْ، وَهَذَا فَسَادٌ كَبِيرٌ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِيجَادُ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ كَمَالُهَا بِالْتِفَافِ أَهْلِهَا الْتِفَافًا وَاحِدًا، وَتَجَنُّبِ مَا يُضَادُّهَا، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ ضَعُفَ شَأْنُ جَامِعَتِهِمْ فِي الْمَرْأَى وَفِي الْقُوَّةِ. وَذَلِكَ فَسَاد كَبِير.