الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: إِنَّهُ لَمَّا سَقَطَ أَوَّلُهَا، أَيْ سُورَةِ بَرَاءَةٌ سَقَطَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَعَهُ. وَيُفَسِّرُ كَلَامَهُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ كَانَتْ نَحْوَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ نُسِخَ وَرُفِعَ كَثِيرٌ مِنْهَا وَفِيهِ الْبَسْمَلَةُ فَلَمْ يَرَوْا بَعْدُ أَنْ يَضَعُوهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَمَا نَسَبَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى مَالِكٍ عَزَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى ابْنِ عَجْلَانَ فَلَعَلَّ فِي «نُسْخَةِ تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» نَقْصًا.
وَالَّذِي وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ مَالِكٍ فِي تَرْكِ الْبَسْمَلَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَسُورَةِ بَرَاءَةٌ:
هُوَ مَا فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْجَامِعِ الْأَوَّلِ مِنَ «الْعُتْبُيَّةِ» «قَالَ مَالِكٌ فِي أَوَّلِ بَرَاءَةٌ إِنَّمَا تَرَكَ مَنْ مَضَى أَنْ يَكْتُبُوا فِي أَوَّلِ بَرَاءَةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كَأَنَّهُ رَآهُ مِنْ وَجْهِ الِاتِّبَاعِ فِي ذَلِكَ، كَانَتْ فِي آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَسَاقَ حَدِيثَ ابْنِ شِهَابٍ فِي سَبَبِ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَكَيْفَ أَخَذَ عُثْمَانُ الصُّحُفَ مِنْ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَرْجَعَهَا إِلَيْهَا. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ» «مَا تَأَوَّلَهُ مَالِكٌ مِنْ أَنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَ مَنْ مَضَى أَنْ يَكْتُبُوا فِي أَوَّلِ بَرَاءَةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ وَجْهِ الِاتِّبَاعِ، وَالْمعْنَى فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَمَنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ الْمُجْتَمِعِينَ عَلَى جَمْعِ الْقُرْآنِ الْبَسْمَلَةَ بَيْنَ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَبَرَاءَة، وَإِنْ كَانَتَا سُورَتَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّ بَرَاءَةٌ كَانَتْ آخِرَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْأَنْفَالَ أُنْزِلَتْ فِي بَدْرٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ، اتِّبَاعًا لِمَا وَجَدُوهُ فِي الصُّحُفِ الَّتِي جُمِعَتْ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَتْ عِنْدَ حَفْصَةَ» . وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ رُشْدٍ عَنْ مَالِكٍ قَوْلًا غير هَذَا.
[1]
[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 1]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
افْتُتِحَتِ السُّورَةُ كَمَا تُفْتَتَحُ الْعُهُودُ وَصُكُوكُ الْعُقُودِ بِأَدَلِّ كَلِمَةٍ عَلَى الْغَرَضِ الَّذِي يُرَادُ مِنْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: هَذَا مَا عَهِدَ بِهِ فُلَانٌ، وَهَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَقَوْلِ الْمُوَثِّقِينَ: بَاعَ أَوْ وَكَّلَ أَوْ تَزَوَّجَ، وَذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى الْحَالِ فِي إِنْشَاءِ الرَّسَائِلِ وَالْمَوَاثِيقِ وَنَحْوِهَا.
وَتَنْكِيرُ بَراءَةٌ تَنْكِيرُ التَّنْوِيعِ، وَمَوْقِعُ بَراءَةٌ مُبْتَدَأٌ، وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ مَا فِي التَّنْكِيرِ مِنْ مَعْنَى التَّنْوِيعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ كَافٍ فِي فَهْمِ الْمَقْصُودِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الْأَعْرَاف: 1، 2] .
وَالْمَجْرُورَانِ فِي قَوْلِهِ: مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْفَائِدَةِ أَيْ: الْبَرَاءَةُ صَدَرَتْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
ومِنَ ابْتِدَائِيَّةٌ، وإِلَى لِلِانْتِهَاءِ لِمَا أَفَادَهُ حَرْفُ مِنَ مِنْ مَعْنَى الِابْتِدَاءِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ بَرَاءَةٌ أَصْدَرَهَا اللَّهُ بِوَاسِطَةِ رَسُولِهِ إِبْلَاغًا إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَالْبَرَاءَةُ الْخُرُوجُ وَالتَّفَصِّي مِمَّا يُتْعِبُ وَرَفْعُ التَّبِعَةِ. وَلَمَّا كَانَ الْعَهْدُ يُوجِبُ عَلَى الْمُتَعَاهِدِينَ الْعَمَلَ بِمَا تَعَاهَدُوا عَلَيْهِ وَيُعَدُّ الْإِخْلَافُ بِشَيْءٍ مِنْهُ غَدْرًا عَلَى الْمُخْلِفِ، كَانَ الْإِعْلَانُ بِفَسْخِ الْعَهْدِ بَرَاءَةً مِنَ التَّبِعَاتِ الَّتِي كَانَتْ بِحَيْثُ تَنْشَأُ عَنْ إِخْلَافِ الْعَهْدِ، فَلِذَلِكَ كَانَ لَفْظُ بَراءَةٌ هُنَا مُفِيدًا مَعْنَى فَسْخِ الْعَهْدِ وَنَبْذِهِ لِيَأْخُذَ الْمُعَاهِدُونَ حِذْرَهُمْ. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَنْبِذُونَ الْعَهْدَ وَيَرُدُّونَ الْجِوَارَ إِذَا شَاءُوا تَنْهِيَةَ الِالْتِزَامِ بِهِمَا، كَمَا فَعَلَ ابْنُ الدُّغُنَّةِ فِي رَدِّ جِوَارِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ قُرَيْشٍ، وَمَا فَعَلَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي رَدِّ جِوَارِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ إِيَّاهُ قَائِلًا:«رَضِيتُ بِجِوَارِ رَبِّي وَلَا أُرِيدُ أَنْ أَسْتَجِيرَ غَيْرَهُ» . وَقَالَ تَعَالَى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ [الْأَنْفَال: 58] أَيْ: وَلَا تَخُنْهُمْ لِظَنِّكَ أَنَّهُمْ يَخُونُونَكَ فَإِذَا ظَنَنْتَهُ فَافْسَخْ عَهْدَكَ مَعَهُمْ.
وَلَمَّا كَانَ الْجَانِبُ، الَّذِي ابْتَدَأَ بِإِبْطَالِ الْعَهْدِ وَتَنْهِيَتِهِ، هُوَ جَانِبُ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ، جُعِلَتْ هَذِهِ الْبَرَاءَةُ صَادِرَةً مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ الْآذِنُ بِهَا، وَمِنْ رَسُولِهِ، لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لَهَا.
وَجُعِلَ ذَلِكَ مُنَهًّى إِلَى الْمُعَاهِدِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِبْلَاغُ ذَلِكَ الْفَسْخِ إِلَيْهِمْ وَإِيصَالُهُ لِيَكُونُوا عَلَى بَصِيرَةٍ فَلَا يَكُونَ ذَلِكَ الْفَسْخُ غَدْرًا.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: عاهَدْتُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ. فَهَذِهِ الْبَرَاءَةُ مَأْمُورُونَ بِإِنْفَاذِهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَهْدَ بَيْنَ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ كَانَ قَدِ انْعَقَدَ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ،
فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ ظَاهَرَهُمْ عَهْدُ الْحُدَيْبِيَةِ:
أَنْ لَا يُصَدَّ أَحَدٌ عَنِ الْبَيْتِ إِذَا جَاءَ، وَأَنْ لَا يُخَافَ أَحَدٌ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَقَدْ كَانَ مُعْظَمُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ دَاخِلًا فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ الْوَاقِعِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ لِأَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَوْمَئِذٍ زُعَمَاءَ جَمِيعِ الْعَرَبِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ شُرُوطِ الصُّلْحِ يَوْمَئِذٍ: أَنَّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ مُحَمَّدٍ دَخَلَ فِيهِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ دَخَلَ فِيهِ، وَكَانَ مِنْ شُرُوطِ الصُّلْحِ وَضْعُ الْحَرْبِ عَنِ النَّاسِ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَالَّذِينَ عَاهَدُوا الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَعْرُوفُونَ عِنْدَ النَّاسِ يَوْمَ نُزُولِ الْآيَةِ. وَهَذَا الْعَهْدُ، وَإِنْ كَانَ لِفَائِدَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَقَدْ كَانَ عَدِيلُهُ لَازِمًا لِفَائِدَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، حِينَ صَارَ الْبَيْتُ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَزَالَ مَا زَالَ مِنْهُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَإِسْلَامِ قُرَيْشٍ وَبَعْضِ أَحْلَافِهِمْ.
وَكَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَعْضِ قَبَائِلِ الْمُشْرِكِينَ عُهُودٌ كَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ سُورَةُ النِّسَاءِ [90] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ الْآيَةَ، وَكَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ [4] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً الْآيَةَ.
وَبَعْضُ هَذِهِ الْعُهُودِ كَانَ لِغَيْرِ أَجَلٍ مُعَيَّنٍ، وَبَعْضُهَا كَانَ لِأَجَلٍ قَدِ انْقَضَى، وَبَعْضُهَا لَمْ يَنْقَضِ أَجَلُهُ. فَقَدْ كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ مُؤَجَّلًا إِلَى عَشْرِ سِنِينَ فِي بَعْضِ الْأَقْوَالِ وَقِيلَ: إِلَى أَرْبَعِ سِنِينَ، وَقِيلَ: إِلَى سَنَتَيْنِ. وَقَدْ كَانَ عَهْدُ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ، فَيَكُونُ قَدِ انْقَضَتْ مُدَّتُهُ عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَال، وَلم تنقض عَلَى بَعْضِهَا، حِينَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَكَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُ عَلَى حُكْمِ الِاسْتِمْرَارِ، وَكَانَ بَعْضُ تِلْكَ الْعُهُودِ مُؤَجَّلًا إِلَى أَجَلٍ لَمْ يَتِمَّ، وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِينَ خَفَرُوا بِالْعَهْدِ فِي مُمَالَاةِ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ غَيْرِ الْمُعَاهِدِينَ، وَفِي إِلْحَاقِ الْأَذَى بِالْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ أَرْجَفَ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ غُلِبُوا فَنَقَضَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْعَهْدَ، وَمِمَّنْ نَقَضَ الْعَهْدَ بَعْضُ خُزَاعَةَ، وَبَنُو مُدْلِجٍ، وَبَنُو خُزَيْمَةَ أَوْ جُذَيْمَةَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً [التَّوْبَة: 4] فَأَعْلَنَ اللَّهُ لِهَؤُلَاءِ هَذِهِ الْبَرَاءَةَ لِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ تَضْيِيقٌ عَلَيْهِمْ إِنْ دَامُوا عَلَى الشِّرْكِ، لِأَنَّ الْأَرْضَ صَارَتْ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدُ: فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ [التَّوْبَة: 3] .