الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ الرَّغْبَةَ فِي الْجِهَادِ كَانَ الْمَذْكُورُ مَعَ اسْتِئْذَانِ الْمُؤْمِنِينَ، فِي الْآيَةِ أَنْ يُجَاهِدُوا دُونَ أَنْ لَا يُجَاهِدُوا، إِذْ لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ الِاسْتِئْذَانُ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ، فَإِذَا انْتَفَى أَنْ يَسْتَأْذِنُوا فِي أَنْ يُجَاهِدُوا ثَبَتَ أَنَّهُمْ يُجَاهِدُونَ دُونَ اسْتِئْذَانٍ، وَهَذَا مِنْ لَطَائِفِ بَلَاغَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهَا الْمُفَسِّرُونَ وَتَكَلَّفُوا فِي إِقَامَةِ نَظْمِ الْآيَةِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ مُعْتَرِضَةٌ لِفَائِدَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى أَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ هُمُ الْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2، 3] هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.
[45]
[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 45]
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَشَأَ عَنْ تَبْرِئَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا فِي الْجِهَادِ:
بِبَيَانِ الَّذِينَ شَأْنُهُمُ الِاسْتِئْذَانُ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَأَنَّهُمُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فِي بَاطِنِ أَمْرِهِمْ لِأَنَّ انْتِفَاءَ إِيمَانِهِمْ يَنْفِي رَجَاءَهُمْ فِي ثَوَابِ الْجِهَادِ، فَلِذَلِكَ لَا يُعَرِّضُونَ أَنْفُسَهُمْ لَهُ.
وَأَفَادَتْ إِنَّما الْقَصْرُ. وَلَمَّا كَانَ الْقَصْرُ يُفِيدُ مُفَادَ خَبَرَيْنِ بِإِثْبَاتِ شَيْءٍ وَنَفْيِ ضِدِّهِ كَانَتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ هُنَا دَالَّةً بِاعْتِبَارِ أَحَدِ مُفَادَيْهَا عَلَى تَأْكِيدِ جُمْلَةِ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
[التَّوْبَة: 44] وَقَدْ كَانَتْ مُغْنِيَةً عَنِ الْجُمْلَةِ الْمُؤَكِّدَةِ لَوْلَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَقْدِيمِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ التَّنْوِيهُ بِفَضِيلَةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَالْكَلَامُ إِطْنَابٌ لِقَصْدِ التَّنْوِيهِ، وَالتَّنْوِيهُ مِنْ مَقَامَاتِ الْإِطْنَابِ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَسْتَأْذِنُكَ هُنَا لِظُهُورِهِ مِمَّا قَبْلَهُ مِمَّا يُؤْذِنُ بِهِ فِعْلُ الِاسْتِئْذَانِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا [التَّوْبَة: 44] وَالتَّقْدِيرُ:
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي أَنْ لَا يُجَاهِدُوا، وَلِذَلِكَ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَسْتَأْذِنُكَ هُنَا.
وَالسَّامِعُ الْبَلِيغُ يُقَدِّرُ لِكُلِّ كَلَامٍ مَا يُنَاسِبُ إِرَادَةَ الْمُتَكَلِّمِ الْبَلِيغِ، وَكُلٌّ عَلَى مِنْوَالِهِ يَنْسِجُ.
وَعَطْفُ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى الصِّلَةِ وَهِيَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالِارْتِيَابِ الِارْتِيَابُ فِي ظُهُورِ أَمْرِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم فَلِأَجْلِ ذَلِكَ الِارْتِيَابِ كَانُوا ذَوِي وَجْهَيْنِ مَعَهُ فَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ لِئَلَّا يَفُوتَهُمْ مَا يَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعِزِّ وَالنَّفْعِ، عَلَى تَقْدِيرِ ظُهُورِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ، وَأَبْطَنُوا الْكُفْرَ حِفَاظًا عَلَى دِينِهِمُ الْفَاسِدِ وَعَلَى صِلَتِهِمْ بِأَهْلِ مِلَّتِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمُ: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النِّسَاء: 141] .
وَلَعَلَّ أَعْظَمَ ارْتِيَابِهِمْ كَانَ فِي عَاقِبَةِ غَزْوَةِ تَبُوكَ لِأَنَّهُمْ لِكُفْرِهِمْ مَا كَانُوا يُقَدِّرُونَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَغْلِبُونَ الرُّومَ، هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ كَمَا آذَنَ بِهِ قَوْلُهُ: فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ.
وَجِيءَ فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ نَفْيِ إِيمَانِهِمْ، وَفِي وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى قِدَمِ ذَلِكَ الِارْتِيَابِ وَرُسُوخِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ أَثَرُهُ اسْتِمْرَارَ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ الِارْتِيَابُ مُلَازِمًا لِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ كَانَ فِي الْكَلَامِ شِبْهُ الِاحْتِبَاكِ إِذْ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَا يُؤْمِنُونَ وَارْتَابَتْ وَتَرْتَابُ قُلُوبُهُمْ.
وَفَرَّعَ قَوْلَهُ: فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ عَلَى وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ تَفْرِيعَ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ: لِأَنَّ الِارْتِيَابَ هُوَ الشَّكُّ فِي الْأَمْرِ بِسَبَبِ التَّرَدُّدِ فِي تَحْصِيلِهِ، فَلِتَرَدُّدِهِمْ لَمْ يُصَارِحُوا النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم بِالْعِصْيَانِ لِاسْتِنْفَارِهِ، وَلَمْ يَمْتَثِلُوا لَهُ فَسَلَكُوا مَسْلَكًا يَصْلُحُ لِلْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ مَسْلَكُ الِاسْتِئْذَانِ فِي الْقُعُودِ، فَالِاسْتِئْذَانُ مُسَبَّبٌ عَلَى التَّرَدُّدِ، وَالتَّرَدُّدُ مُسَبَّبٌ عَلَى
الِارْتِيَابِ وَقَدْ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ صِلَةِ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. هُوَ قَوْلُهُ: وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ. لِأَنَّهُ الْمُنْتِجُ لِانْحِصَارِ الِاسْتِئْذَانِ فِيهِمْ.