الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأُعِيدَتْ (َأَنَّ) فِي الْجَوَابِ لِتَوْكِيدِ أَنَّ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ الشَّرْطِ تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا، فَإِنَّهَا لَمَّا دَخَلَتْ عَلَى ضَمِيرِ الشَّأْنِ وَكَانَتْ جُمْلَةُ الشَّرْطِ وَجَوَابُهُ تَفْسِيرًا لِضَمِيرِ الشَّأْنِ، كَانَ حُكْمُ أَنْ سَارِيًا فِي الْجُمْلَتَيْنِ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ تُذْكَرْ فِي الْجَوَابِ لَعُلِمَ أَنَّ فِيهِ مَعْنَاهَا، فَلَمَّا ذُكِرَتْ كَانَ ذِكْرُهَا تَوْكِيدًا لَهَا، وَلَا ضَيْرَ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ التَّأْكِيدِ وَالْمُؤَكَّدِ بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ، وَالْفَصْلِ بَيْنَ فَاءِ الْجَوَابِ وَمَدْخُولِهَا بِحَرْفٍ، إِذْ لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النَّحْل: 119] وَقَوْلُ الْحَمَاسِيِّ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَعْرَاب:
وإنّ امْرأ دَامَتْ مَوَاثِيقُ عَهْدِهِ
…
عَلَى مِثْلِ هَذَا إِنَّهُ لَكَرِيمُ
وجَهَنَّمَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [206] .
وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْعَذَابِ أَوْ إِلَى ضَمِيرِ الشَّأْنِ بِاعْتِبَارِ تَفْسِيرِهِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِشَارَةِ: تَمْيِيزُهُ لِيَتَقَرَّرَ مَعْنَاهُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ.
والْخِزْيُ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [85] .
[64]
[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 64]
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِذِكْرِ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ [التَّوْبَة: 62] وَهُوَ إِظْهَارُهُمُ الْإِيمَانَ بِالْمُعْجِزَاتِ وَإِخْبَارُ اللَّهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِالْمُغَيَّبَاتِ.
وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ الْحَذَرَ صَادِرٌ مِنْهُمْ وَهَذَا الظَّاهِرُ يُنَافِي كَوْنَهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِأَنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّ خَبَرَهُ صِدْقٌ فَلِذَلِكَ تَرَدَّدَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ «هُوَ حَذَرٌ يُظْهِرُهُ الْمُنَافِقُونَ عَلَى
وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِذَلِكَ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِأَنَّهُ يُظْهِرُ سِرَّهُمُ الَّذِي حَذِرُوا ظُهُورَهُ. وَفِي قَوْله:
اسْتَهْزِؤُا دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، أَيْ هُمْ يُظْهِرُونَ ذَلِكَ يُرِيدُونَ بِهِ إِيهَامَ الْمُسْلِمِينَ بِصِدْقِ إِيمَانِهِمْ وَمَا هُمْ إِلَّا مُسْتَهْزِئُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمَا فِي قُلُوبِهِمُ الْكُفْرَ لِأَنَّهُمْ لَا يُظْهِرُونَ أَنَّ ذَلِكَ مَفْرُوضٌ فَفِعْلُ يَحْذَرُ فَأُطْلِقَ عَلَى التَّظَاهُرِ بِالْحَذَرِ، أَيْ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِعَلَاقَةِ الصُّورَةِ، وَالْقَرِينَةُ قَوْله: قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْحَذَرِ الْحَقِّ وَبَيْنَ الِاسْتِهْزَاءِ لَوْلَا ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا كَانُوا مُبْطِنِينَ الْكُفْرَ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمُ الْحَذَرُ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِكَشْفِ مَا فِي ضَمَائِرِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِذَلِكَ فَتَعَيَّنَ صَرْفُ فِعْلِ يَحْذَرُ إِلَى مَعْنَى: يَتَظَاهَرُونَ بِالْحَذَرِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ إِطْلَاقُ الْفِعْلِ عَلَى التَّظَاهُرِ بِمَدْلُولِهِ مِنْ غَرَائِبِ الْمَجَازِ. وَتَأَوَّلَ الزَّجَّاجُ الْآيَةَ بِأَنَّ يَحْذَرُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَمْرِ، أَيْ لِيَحْذَرَ.
وَعَلَى تَأْوِيلِهِ تَكُونُ جملَة قُلِ اسْتَهْزِؤُا اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِجُمْلَةِ يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ. وَلَهُمْ وُجُوهٌ أُخْرَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ بَعِيدَةٌ عَنْ مَهْيَعِهَا، ذَكَرَهَا الْفَخْرُ.
وَضَمِيرَا عَلَيْهِمْ وتُنَبِّئُهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَا إِلَى الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ ظَاهِرُ تَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ وَمَعَادِهَا. وَتَكُونُ (عَلَى) بِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ أَيْ تَنْزِلُ لِأَجْلِ أَحْوَالِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ [الْبَقَرَة: 185] .
وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ، وَتَكُونُ تَعْدِيَةُ تُنَبِّئُهُمْ إِلَى ضَمِيرِ الْمُنَافِقِينَ: عَلَى نَزْعِ الْخَافِض، أَي تنبيء عَنْهُم، أَي تنبىء الرَّسُولَ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَاءُ تُنَبِّئُهُمْ تَاءَ الْخِطَابِ، وَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، أَيْ: تُنَبِّئُهُمْ أَنْتَ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، فَيَكُونُ جُمْلَةُ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ فِي مَحَلِّ الصِّفَةِ لِ سُورَةٌ وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: تُنَبِّئُهُمْ بِهَا، وَهَذَا وَصْفٌ لِلسُّورَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَا فِي اعْتِقَادِ الْمُنَافِقِينَ، فَمَوْقِعُ جُمْلَةِ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ اسْتِطْرَادٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرَانِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَضُرُّ تَخَالُفُ الضَّمِيرَيْنِ مَعَ ضَمِيرِ قُلُوبِهِمْ الَّذِي هُوَ لِلْمُنَافِقِينَ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَرُدُّ كُلَّ ضَمِيرٍ إِلَى مَا يَلِيقُ بِأَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ.