الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ تُرْجَعُ- بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ- أَيْ يَرْجِعُهَا، رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ، وَالَّذِي يُرْجِعُهَا هُوَ اللَّهُ فَهُوَ يُرْجِعُهَا إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ تُرْجَعُ- بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ- أَيْ: تَرْجِعُ بِنَفْسِهَا إِلَى اللَّهِ، وَرُجُوعُهَا هُوَ بِرُجُوع أَسبَابهَا.
[45، 46]
[سُورَة الْأَنْفَال (8) : الْآيَات 45 إِلَى 46]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
لَمَّا عَرَّفَهُمُ اللَّهُ بِنِعَمِهِ وَدَلَائِلِ عِنَايَتِهِ، وَكَشَفَ لَهُمْ عَنْ سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِ نَصْرِهِ إِيَّاهُمْ،
وَكَيْفَ خَذَلَ أَعْدَاءَهُمْ، وَصَرَفَهُمْ عَنْ أَذَاهُمْ، فَاسْتَتَبَّ لَهُمُ النَّصْرُ مَعَ قِلَّتِهِمْ وَكَثْرَةِ أَعْدَائِهِمْ، أَقْبَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنْ يَأْمُرهُم بِمَا يهيءّ لَهُمُ النَّصْرَ فِي الْمَوَاقِعِ كُلِّهَا، وَيَسْتَدْعِي عِنَايَةَ اللَّهِ بِهِمْ وَتَأْيِيدَهُ إِيَّاهُمْ، فَجَمَعَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا بِهِ قِوَامُ النَّصْرِ فِي الْحُرُوبِ. وَهَذِهِ الْجُمَلُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ [الْأَنْفَال: 44] وَجُمْلَةِ: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الْأَنْفَال: 48] .
وَافْتُتِحَتْ هَذِهِ الْوَصَايَا بِالنِّدَاءِ اهْتِمَامًا بِهَا، وَجُعِلَ طَرِيقُ تَعْرِيفِ الْمُنَادَى طَرِيقَ الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِامْتِثَالِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ ذَلِكَ أَخَصُّ صِفَاتِهِمْ تِلْقَاءَ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا [النُّور: 51] .
وَاللِّقَاءُ: أَصْلُهُ مُصَادَفَةُ الشَّخْصِ وَمُوَاجَهَتُهُ، بِاجْتِمَاعٍ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [الْبَقَرَة: 37] وَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [223] . وَقَدْ غَلَبَ إِطْلَاقُهُ عَلَى لِقَاءٍ خَاصٍّ وَهُوَ لِقَاءُ الْقِتَالِ، فَيُرَادِفُ الْقِتَالَ وَالنِّزَالَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ اللِّقَاءُ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْفَال: 15] وَبِهَذَا الْمَعْنَى تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِئَةِ: فِئَةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ فِئَةُ الْعَدُوِّ، يَعْنِي الْمُشْركين.
و «الفئة» الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ اشْتِقَاقُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [249] .
وَالثَّبَاتُ: أَصْلُهُ لُزُومُ الْمَكَانِ دُونَ تَحَرُّكٍ وَلَا تَزَلْزُلٍ، وَيُسْتَعَارُ لِلدَّوَامِ عَلَى الْفِعْلِ وَعَدَمِ التَّرَدُّدِ فِيهِ، وَقَدْ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ عَدَمَ التَّحَرُّكِ، بَلْ أُرِيدَ الدَّوَامُ عَلَى الْقِتَالِ وَعَدَمِ الْفِرَارِ، وَقَدْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالصَّبْرِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا
وَذِكْرُ اللَّهِ، الْمَأْمُورُ بِهِ هُنَا: هُوَ ذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ الْقَلْبِ، وَزِيَادَةً فَإِنَّهُ إِذَا ذَكَرَ بِلِسَانِهِ فَقَدْ ذَكَرَ بِقَلْبِهِ وَبِلِسَانِهِ، وَسَمِعَ الذِّكْرَ بِسَمْعِهِ، وَذَكَّرَ مَنْ يَلِيهِ بِذَلِكَ الذِّكْرِ، فَفِيهِ فَوَائِدُ زَائِدَةٌ عَلَى ذِكْرِ الْقَلْبِ الْمُجَرَّدِ، وَقَرِينَةُ إِرَادَةِ ذِكْرِ اللِّسَانِ ظَاهِرُ وَصفه ب «كثير» لِأَنَّ الذِّكْرَ بِالْقَلْبِ يُوصَفُ بِالْقُوَّةِ، وَالْمَقْصُودُ تَذَكُّرُ أَنَّهُ النَّاصِرُ. وَهَذَانِ أَمْرَانِ أُمِرُوا بِهِمَا وَهُمَا يَخُصَّانِ الْمُجَاهِدَ فِي نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. فَهُمَا لِإِصْلَاحِ الْأَفْرَادِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَعْمَالٍ رَاجِعَةٍ إِلَى انْتِظَامِ جَيْشِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ، وَهِيَ عَلَائِقُ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَهِيَ الطَّاعَةُ وَتَرْكُ التَّنَازُعِ، فَأَمَّا طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَتَشْمَلُ اتِّبَاعَ سَائِرِ أَحْكَامِ الْقِتَالِ الْمَشْرُوعَةِ بِالتَّعْيِينِ، مِثْلَ الْغَنَائِمِ. وَكَذَلِكَ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ آرَاءِ الْحَرْبِ،
كَقَوْلِهِ لِلرُّمَاةِ يَوْمَ أُحُدٍ: «لَا تَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِكُمْ وَلَوْ تَخَطَّفَنَا الطَّيْرُ»
. وَتَشْمَلُ طَاعَةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَاعَةَ أُمَرَائِهِ فِي حَيَاتِهِ،
لِقَوْلِهِ: «وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي»
وَتَشْمَلُ طَاعَةَ أُمَرَاءِ الْجُيُوشِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِمُسَاوَاتِهِمْ لِأُمَرَائِهِ الْغَائِبِينَ عَنْهُ فِي الْغَزَوَاتِ وَالسَّرَايَا فِي حُكْمِ الْغَيْبَةِ عَنْ شَخْصِهِ.
وَأَمَّا النَّهْيُ عَنِ التَّنَازُعِ فَهُوَ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِتَحْصِيلِ أَسْبَابِ ذَلِكَ: بِالتَّفَاهُمِ وَالتَّشَاوُرِ، وَمُرَاجَعَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، حَتَّى يَصْدُرُوا عَنْ رَأْيٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ رَجَعُوا إِلَى أُمَرَائِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ [النِّسَاء: 83] . وَقَوْلِهِ:
فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النِّسَاء: 59] . وَالنَّهْيُ عَنِ التَّنَازُعِ أَعَمُّ مِنَ
الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ: لِأَنَّهُمْ إِذَا نُهُوا عَنِ التَّنَازُعِ بَيْنَهُمْ، فَالتَّنَازُعُ مَعَ وَلِيِّ الْأَمْرِ أَوْلَى بِالنَّهْيِ.
وَلَمَّا كَانَ التَّنَازُعُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْشَأَ عَنِ اخْتِلَافِ الْآرَاءِ، وَهُوَ أَمْرٌ مُرْتَكِزٌ فِي الْفِطْرَةِ بَسَطَ الْقُرْآنُ الْقَوْلَ فِيهِ بِبَيَان سيّىء آثَارِهِ، فَجَاءَ بِالتَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ فَحَذَّرَهُمْ أَمْرَيْنِ مَعْلُومًا سُوءُ مَغَبَّتِهِمَا: وَهُمَا الْفَشَلُ وَذَهَابُ الرِّيحِ.
وَالْفَشَلُ: انْحِطَاطُ الْقُوَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ [الْأَنْفَال:
43] وَهُوَ هُنَا مُرَادٌ بِهِ حَقِيقَةُ الْفَشَلِ فِي خُصُوصِ الْقِتَالِ وَمُدَافَعَةِ الْعَدُوِّ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِحَالِ الْمُتَقَاعِسِ عَنِ الْقِتَالِ بِحَالِ مَنْ خَارَتْ قُوَّتُهُ وَفَشِلَتْ أَعْضَاؤُهُ، فِي انْعِدَامِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْعَمَلِ. وَإِنَّمَا كَانَ التَّنَازُعُ مُفْضِيًا إِلَى الْفَشَلِ لِأَنَّهُ يُثِيرُ التَّغَاضُبَ وَيُزِيلُ التَّعَاوُنَ بَيْنَ الْقَوْمِ، وَيُحْدِثُ فِيهِمْ أَنْ يَتَرَبَّصَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ الدَّوَائِرَ، فَيَحْدُثُ فِي نُفُوسِهِمُ الِاشْتِغَالُ بِاتِّقَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَتَوَقُّعُ عَدَمِ إِلْفَاءِ النَّصِيرِ عِنْدَ مَآزِقِ الْقِتَالِ، فَيَصْرِفُ الْأُمَّةَ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى شُغْلٍ وَاحِدٍ فِيمَا فِيهِ نَفْعُ جَمِيعِهِمْ، وَيَصْرِفُ الْجَيْشَ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فَيَتَمَكَّنُ مِنْهُمُ الْعَدُوُّ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [152] حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ.
وَالرِّيحُ حَقِيقَتُهَا تَحَرُّكُ الْهَوَاءِ وَتَمَوُّجُهُ، وَاسْتُعِيرَتْ هُنَا لِلْغَلَبَةِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ فِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ هُوَ أَنَّ الرِّيحَ لَا يُمَانِعُ جَرْيَهَا وَلَا عَمَلَهَا شَيْءٌ فَشُبِّهَ بِهَا الْغَلَبُ وَالْحُكْمُ وَأَنْشَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ، لِعُبَيْدِ بْنِ الْأَبْرَصِ:
كَمَا حَمَيْنَاكَ يَوْمَ النَّعْبِ مِنْ شَطِبٍ
…
وَالْفَضْلُ لِلْقَوْمِ مِنْ رِيحٍ وَمِنْ عَدَدِ
وَفِي «الْكَشَّافِ» قَالَ سُلَيْكُ بْنُ السَّلَكَةِ:
يَا صَاحِبَيَّ أَلَا لَا حَيَّ بِالْوَادِي
…
إِلَّا عَبِيدٌ قُعُودٌ بَيْنَ أَذْوَادِ
هَلْ تَنْظُرَانِ قَلِيلًا رَيْثَ غَفْلَتِهِمْ
…
أَوْ تَعْدُوَانِ فَإِنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِي (1)
وَقَالَ الْحَرِيرِيُّ، فِي دِيبَاجَةِ «الْمَقَامَاتِ» :«قَدْ جَرَى بِبَعْضِ أَنْدِيَةِ الْأَدَبِ الَّذِي رَكَدَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ رِيحُهُ» .
(1) تنظران من النظرة، أَي الِانْتِظَار. وَالْمعْنَى هَل تترقبان سَاعَة غَفلَة العبيد فتختلسا الذود أَو تعدوان على العبيد غصبا.