الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَإِذَا عُدِّيَ بِ (عَنْ) فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَجَاوَزَ عَنْ تَقْصِيرِهِ أَوْ عَنْ ذَنْبِهِ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ
اللَّهَ لَا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ
[التَّوْبَة: 96] .
فَالْقَوْلُ هَنَا مُرَادٌ بِهِ الْكَلَامُ مَعَ الِاعْتِقَادِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اللَّازِمِ مَعَ جَوَازِ إِرَادَةِ الْمَلْزُومِ، فَإِذَا أَضْمَرُوا ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ فَذَلِكَ مِنَ الْحَالَةِ الْمَمْدُوحَةِ وَلَكِنْ لَمَّا وَقَعَ هَذَا الْكَلَامُ فِي مُقَابَلَةِ حِكَايَةِ اللَّمْزِ فِي الصَّدَقَاتِ، وَاللَّمْزُ يَكُونُ بِالْكَلَامِ دَلَالَةً عَلَى الْكَرَاهِيَةِ، جَعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا مِنَ الْكَلَامِ كِنَايَةً عَنِ الرِّضَى.
وَجُمْلَةُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ حَسْبُنَا اللَّهُ لِأَنَّ كِفَايَةَ الْمُهِمِّ تَقْتَضِي تَعَهُّدَ الْمَكْفِي بِالْعَوَائِدِ وَدَفْعِ الْحَاجَةِ، وَالْإِيتَاءُ فِيهِ بِمَعْنَى إِعْطَاءِ الذَّوَاتِ.
وَالْفَضْلُ زِيَادَةُ الْخَيْرِ وَالْمَنَافِعِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ [غَافِر: 61] وَالْفَضْلُ هُنَا الْمُعْطَى: مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ الْمَفْعُولِ، بِقَرِينَةِ مِنَ التَّبْعِيضِيَّةِ، وَلَوْ جُعِلَتْ مِنْ ابْتِدَائِيَّةً لَصَحَّتْ إِرَادَةُ مَعْنَى الْمَصْدَرِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ تَعْلِيلٌ. أَيْ لِأَنَّنَا رَاغِبُونَ فَضْلَهُ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، تَقْدِيرُهُ: إِنَّا رَاغِبُونَ إِلَى مَا عَيَّنَهُ اللَّهُ لَنَا لَا نَطْلُبُ إِعْطَاءَ مَا لَيْسَ مِنْ حَقِّنَا.
وَالرَّغْبَةُ الطّلب بتأدب.
[60]
[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 60]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
هَذِهِ الْآيَةُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ [التَّوْبَة: 58] وَجُمْلَةِ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النبيء [التَّوْبَة: 61] الْآيَةَ. وَهُوَ اسْتِطْرَادٌ نَشَأَ عَنْ ذِكْرِ اللَّمْزِ فِي الصَّدَقَاتِ أُدْمِجَ فِيهِ تَبْيِينُ مَصَارِفِ الصَّدَقَاتِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ أَدَاةِ الْحَصْرِ: أَنْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ بِمُسْتَحِقٍّ لِلَّذِينَ لَمَزُوا فِي الصَّدَقَاتِ، وَحَصْرُ الصَّدَقَاتِ فِي كَوْنِهَا مُسْتَحَقَّةً لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ أَيِ الصَّدَقَاتِ لِهَؤُلَاءِ لَا لَكُمْ.
وَأَمَّا انْحِصَارُهَا فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ دُونَ صِنْفٍ آخَرَ فَيُسْتَفَادُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا فِي مَقَامِ الْبَيَانِ إِذْ لَا تَكُونُ صِيغَةُ الْقَصْرِ مُسْتَعْمَلَةً لِلْحَقِيقِيِّ وَالْإِضَافِيِّ مَعًا إِلَّا عَلَى طَرِيقَةِ
اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ.
وَالْفَقِير صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ أَيِ الْمُتَّصِفُ بِالْفَقْرِ وَهُوَ عَدَمُ امْتِلَاكِ مَا بِهِ كِفَايَةُ لَوَازِمِ الْإِنْسَانِ فِي عَيْشِهِ، وَضِدُّهُ الْغَنِيُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [135] .
والمسكين ذُو الْمَسْكَنَةِ، وَهِيَ الْمَذَلَّةُ الَّتِي تَحْصُلُ بِسَبَبِ الْفَقْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذِكْرَ أَحَدِهِمَا يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِيمَا إِذَا جُمِعَ ذِكْرُهُمَا فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ فَقِيلَ:
هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وَنُسِبَ إِلَى أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي عَلِيٍّ الْجُبَائِيِّ، وَقِيلَ:
يُرَادُ بِكُلٍّ مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ مَعْنًى غَيْرُ الْمُرَادِ مِنَ الْأُخْرَى، وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ: الْأَوْضَحُ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَقِيرِ الْمُحْتَاجُ احْتِيَاجًا لَا يَبْلُغُ بِصَاحِبِهِ إِلَى الضَّرَاعَةِ وَالْمَذَلَّةِ. وَالْمِسْكِينُ الْمُحْتَاجُ احْتِيَاجًا يُلْجِئُهُ إِلَى الضَّرَاعَةِ وَالْمَذَلَّةِ، وَنُسِبَ هَذَا إِلَى مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَابْنِ السِّكِّيتِ، وَيُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ فَالْمِسْكِينُ أَشَدُّ حَاجَةً لِأَنَّ الضَّرَاعَةَ تَكُونُ عِنْدَ ضَعْفِ الصَّبْرِ عَنْ تَحَمُّلِ أَلَمِ الْخَصَاصَةِ، وَالْأَكْثَرُ إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْحَاجَةِ عَلَى نَفْسِ الْمُحْتَاجِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [36] .
والْعامِلِينَ عَلَيْها مَعْنَاهُ الْعَامِلُونَ لِأَجْلِهَا، أَيْ لِأَجْلِ الصَّدَقَاتِ فَحَرْفُ (عَلَى) لِلتَّعْلِيلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ [الْبَقَرَة: 185] أَيْ لِأَجْلِ هِدَايَتِهِ إِيَّاكُمْ.
وَمَعْنَى الْعَمَلِ السَّعْيُ وَالْخِدْمَةُ وَهَؤُلَاءِ هُمُ السَّاعُونَ عَلَى الْأَحْيَاءِ لِجَمْعِ زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ وَاخْتِيَارُ حَرْفِ (عَلَى) فِي هَذَا الْمَقَامِ لِمَا يُشْعِرُ بِهِ أَصْلُ مَعْنَاهُ مِنَ التَّمَكُّنِ، أَيِ الْعَامِلِينَ لِأَجْلِهَا عَمَلًا قَوِيًّا لِأَنَّ السُّعَاةَ يَتَجَشَّمُونَ مَشَقَّةً وَعَمَلًا عَظِيمًا، وَلَعَلَّ الْإِشْعَارَ بذلك لقصد الْإِيمَان إِلَى أَنَّ
عِلَّةَ اسْتِحْقَاقِهِمْ مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَمْرَيْنِ: كَوْنُ عَمَلِهِمْ لِفَائِدَةِ الصَّدَقَةِ، وَكَوْنُهُ شَاقًّا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (عَلَى) دَالَّةً عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ اسْتِعْلَاءُ التَّصَرُّفِ كَمَا يُقَالُ:
هُوَ عَامِلٌ عَلَى الْمَدِينَةِ، أَيِ الْعَامِلِينَ لِلنَّبِيءِ أَوْ لِلْخَلِيفَةِ عَلَى الصَّدَقَاتِ أَيْ مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الْعَمَلِ فِيهَا.
وَمِمَّنْ كَانَ عَلَى الصَّدَقَةِ فِي زَمَنِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيِّ كَانَ عَلَى صَدَقَاتِ هُذَيْلٍ.
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ هُمُ الَّذِينَ تُؤَلَّفُ، أَيْ تُؤَنَّسُ نُفُوسُهُمْ لِلْإِسْلَامِ مِنَ الَّذِينَ دَخَلُوا
فِي الْإِسْلَامِ بِحِدْثَانِ عَهْدٍ، أَوْ مِنَ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُمْ قَارَبُوا أَنْ يُسْلِمُوا.
وَالتَّأْلِيفُ: إِيجَادُ الْأُلْفَةِ وَهِيَ التَّأَنُّسُ.
فَالْقُلُوبُ بِمَعْنَى النُّفُوسِ. وَإِطْلَاقُ الْقَلْبِ عَلَى مَا بِهِ إِدْرَاكُ الِاعْتِقَادِ شَائِعٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ.
وَلِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ أَحْوَالٌ: فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، وَعُرِفَ ضَعْفٌ حِينَئِذٍ فِي إِسْلَامِهِ، مِثْلَ: أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ وَمِنْهُمْ مَنْ هُمْ كُفَّارٌ أَشِدَّاءُ، مِثْلَ: عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُمْ كُفَّارٌ، وَظَهَرَ مِنْهُمْ مَيْلٌ إِلَى الْإِسْلَامِ، مِثْلَ: صَفْوَانِ بْنِ أُمَيَّةَ. فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ أَعْطَاهُمُ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهَا يَتَأَلَّفُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَقَدْ بَلَغَ عَدَدُ مَنْ عَدَّهُمُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ: تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَعَدَّ مِنْهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ يَعْنِي الْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ، وَقَدِ ائْتَمَنَهُ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم عَلَى وَحْيِ اللَّهِ وَقُرْآنِهِ وَخَلَطَهُ بِنَفْسِهِ.
والرِّقابِ الْعَبِيدُ جَمْعُ رَقَبَةٍ وَتُطْلَقُ عَلَى الْعَبْدِ. قَالَ تَعَالَى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النِّسَاء: 92] .
وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ وَهِيَ مُغْنِيَةٌ عَنْ تَقْدِيرِ «فَكِّ الرِّقَابِ» لِأَنَّ الظَّرْفِيَّةَ جَعَلَتِ الرِّقَابَ كَأَنَّهَا وُضِعَتِ الْأَمْوَالُ فِي جَمَاعَتِهَا، وَلَمْ يُجَرَّ بِاللَّامِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الرِّقَابَ تُدْفَعُ إِلَيْهِمْ أَمْوَالُ الصَّدَقَاتِ، وَلَكِنْ تُبْذَلُ تِلْكَ الْأَمْوَال فِي عتق الرِّقَابِ بِشِرَاءٍ أَوْ إِعَانَةٍ
عَلَى نُجُومِ كِتَابَةٍ، أَوْ فِدَاءِ أَسْرَى مُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْأَسْرَى عَبِيدٌ لِمَنْ أَسَرُوهُمْ، وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [177] قَوْلُهُ: وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ.
وَالْغارِمِينَ الْمَدِينُونَ الَّذِينَ ضَاقَتْ أَمْوَالُهُمْ عَنْ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الدُّيُونِ، بِحَيْثُ يُرْزَأُ دَائِنُوهُمْ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، أَوْ يُرْزَأُ الْمَدِينُونَ مَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ لِإِقَامَةِ أَوَدَ الْحَيَاةِ، فَيَكُونُ مِنْ صَرْفِ أَمْوَالٍ مِنَ الصَّدَقَاتِ فِي ذَلِكَ رَحْمَةٌ لِلدَّائِنِ وَالْمَدِينِ.
وسَبِيلِ اللَّهِ الْجِهَادُ، أَيْ يُصْرَفُ مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ مَا تُقَامُ بِهِ وَسَائِلُ الْجِهَادِ مِنْ آلَاتٍ وَحِرَاسَةٍ فِي الثُّغُورِ، كُلُّ ذَلِكَ بَرًّا وَبَحْرًا.
وابْنِ السَّبِيلِ الْغَرِيبُ بِغَيْرِ قَوْمِهِ، أُضِيفَ إِلَى السَّبِيلِ بِمَعْنَى الطَّرِيقِ: لِأَنَّهُ أَوْلَدَهُ
الطَّرِيقُ الَّذِي أَتَى بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مَوْلُودًا فِي الْقَوْمِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ ابْنِ السَّبِيلِ.
وَلِفُقَهَاءِ الْأُمَّةِ فِي الْأَحْكَامِ الْمُسْتَمَدَّةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ طَرَائِقُ جَمَّةٌ، وَأَفْهَامٌ مُهِمَّةٌ، يَنْبَغِي أَنْ نُلِمَّ بِالْمَشْهُورِ مِنْهَا بِمَا لَا يُفْضِي بِنَا إِلَى الْإِطَالَةِ، وَإِنَّ مَعَانِيَهَا لَأَوْفَرُ مِمَّا تَفِي بِهِ الْمَقَالَةُ.
فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِجَعْلِ الصَّدَقَاتِ لِهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ فَبِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ حَمْلِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِلْفُقَراءِ عَلَى مَعْنَى الْمِلْكِ أَوِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنْ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ هَلْ يَجِبُ إِعْطَاءُ كُلِّ صِنْفٍ مِقْدَارًا مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَهَلْ تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَصْنَافِ فِيمَا يُعْطَى كُلُّ صِنْفٍ مِنْ مِقْدَارِهَا، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِعْطَاءُ لِجَمِيعِ الْأَصْنَافِ، بَلِ التَّوْزِيعُ مَوْكُولٌ لِاجْتِهَادِ وُلَاةِ الْأُمُورِ يَضَعُونَهَا عَلَى حَسَبِ حَاجَةِ الْأَصْنَافِ وَسَعَةِ الْأَمْوَالِ، وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلِيٍّ، وَحُذَيْفَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ.
وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَا نَعْلَمُ مُخَالِفًا فِي ذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْ حُذَيْفَةَ. إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَصْنَافَ لِتُعْرَفَ وَأَيُّ صِنْفٍ أَعْطَيْتَ مِنْهَا أَجْزَأَكَ. قَالَ الطَّبَرَيُّ: الصَّدَقَةُ لِسَدِّ خَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ لِسَدِّ خَلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ مَفْهُومٌ مِنْ مَآخِذِ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ الْأَصْنَافِ وَتَعْدَادِهِمْ. قُلْتُ وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ حُذَّاقُ النُّظَّارِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِثْلِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ، وَفَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ.
وَذَهَبَ عِكْرِمَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّافِعِيُّ: إِلَى وُجُوبِ صَرْفِ الصَّدَقَاتِ لِجَمِيعِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ لِكُلِّ صِنْفٍ ثُمُنُ الصَّدَقَاتِ فَإِنِ انْعَدَمَ أَحَدُ الْأَصْنَافِ قُسِّمَتِ الصَّدَقَاتُ إِلَى كُسُورٍ بِعَدَدِ مَا بَقِيَ مِنَ الْأَصْنَافِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَوْزِيعُ مَا يُعْطَى إِلَى أَحَدِ الْأَصْنَافِ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ ذَلِكَ الصِّنْفِ.
وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى تَحْقِيقِ مَعَانِي الْأَصْنَافِ، وَتَحْدِيدِ صِفَاتِهَا: فَالْأَظْهَرُ فِي تَحْقِيقِ وَصْفِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى الْعُرْفِ، وَأَنَّ الْخَصَاصَةَ مُتَفَاوِتَةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ضَبْطِ الْمَكَاسِبِ الَّتِي لَا يَكُونُ صَاحِبُهَا فَقِيرًا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ دَارَ السُّكْنَى وَالْخَادِمَ لَا يُعَدَّانِ مَالًا يَرْفَعُ عَنْ صَاحِبِهِ وَصْفَ الْفَقْرِ.
وَأَمَّا الْقُدْرَةُ عَلَى التَّكَسُّبِ، فَقِيلَ: لَا يُعَدُّ الْقَادِرُ عَلَيْهِ فَقِيرًا وَلَا يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ بِالْفَقْرِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ، وَيَحْيَى بْنُ عُمَرَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
…
وَرُوِيَتْ
فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ. وَقِيلَ: إِذَا كَانَ قَوِيًّا وَلَا مَالَ لَهُ جَازَ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ وَاخْتَارَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَالْكَيَا الطَّبَرَيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَأَمَّا الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا فَهُمْ يَتَعَيَّنُونَ بِتَعْيِينِ الْأَمِيرِ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ يُعْطَوْنَ عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِمْ مِنَ الْأُجْرَةِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ.
وَأَمَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فَقَدْ أَعْطَاهُمُ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم عَطَايَا مُتَفَاوِتَةً مِنَ الصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهَا.
فَأَمَّا الصَّدَقَاتُ فَلَهُمْ حَقُّ فِيهَا بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا غَيْرُ الصَّدَقَاتِ فَبِفِعْلِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتَمَرَّ عَطَاؤُهُمْ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَزَمَنٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، وَكَانُوا يُعْطَوْنَ بِالِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يَكُونُوا يُعَيِّنُونَ لَهُمْ ثُمُنَ الصَّدَقَاتِ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِمْرَارِ هَذَا الْمَصْرِفِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ غَرِيبَةٌ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَقِيَاسِ الِاسْتِنْبَاطِ أَيْ دُونَ وُجُودِ أَصْلٍ يُقَاسُ عَلَيْهِ نَظِيرُهُ وَفِي كَوْنِهَا مَبْنِيَّةً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ نَظَرٌ. وَإِنَّمَا بِنَاؤُهَا عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَطَّلَ الْمَصْرِفُ فَلِمَنْ يُرَدُّ سَهْمُهُ وَيَنْبَغِي أَنْ تُقَاسَ عَلَى حُكْمِ سَهْمِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْحَبْسِ أَنَّ نَصِيبَهُ يَصِيرُ إِلَى بَقِيَّةِ الْمُحْبَسِ عَلَيْهِمْ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ انْقَطَعَ سَهْمُهُمْ بِعِزَّةِ الْإِسْلَامِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ قِيلَ: أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى
سُقُوطُ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ عَهْدِ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عُمَرَ قَطَعَ إِعْطَاءَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مَعَ أَنَّ صِنْفَهُمْ لَا يَزَالُ مَوْجُودًا، رَأَى أَنَّ اللَّهَ أَغْنَى دِينَ الْإِسْلَامِ بِكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ فَلَا مَصْلَحَةَ لِلْإِسْلَامِ فِي دَفْعِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ لِتَأْلِيفِ قُلُوبِ مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْإِسْلَامُ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَ فِعْلَ عُمَرَ وَسُكُوتَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا فَجَعَلُوا ذَلِكَ نَاسِخًا لِبَعْضِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ مِنَ النَّسْخِ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي عَدِّ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ فِي قُوَّةِ الْإِجْمَاعِ الْقَوْلِيِّ نِزَاعٌ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ وَفِي هَذَا الْبِنَاءِ نَظَرٌ، كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: هُمْ بَاقُونَ إِذَا وُجِدُوا فَإِنَّ الْإِمَامَ رُبَّمَا احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَسْتَأْلِفَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَاخْتَارَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ، مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:«الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ قَوِيَ الْإِسْلَامُ زَالُوا وَإِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِمْ أُعْطُوا» . أَيْ فَهُوَ يَرَى بَقَاءَ هَذَا الْمَصْرِفِ وَيَرَى أَنَّ عَدَمَ إِعْطَائِهِمْ فِي زَمَنِ عُمَرَ لِأَجْلِ عِزَّةِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ.
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» «وَالصَّحِيحُ بَقَاءُ حُكْمِهِمْ إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِمْ» . وَهَذَا الَّذِي لَا يَنْبَغِي تَقَلُّدُ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا الرِّقَابُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى وَفِي الرِّقابِ فِي شِرَاءِ الرَّقِيقِ لِلْعِتْقِ، وَدَفْعِ مَا عَلَى الْمُكَاتَبِ مِنْ مَالٍ تَحْصُلُ بِهِ حُرِّيَّتُهُ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْمَدَنِيِّينَ عَنْ مَالِكٍ، وَقِيلَ لَا يُعَانُ بِهَا الْمُكَاتَبُ وَلَوْ كَانَ آخِرَ نَجْمٍ تَحْصُلُ بِهِ حُرِّيَّتُهُ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ الْمَدَنِيِّينَ عَنْهُ. وَقِيلَ: لَا تُعْطَى إِلَّا فِي إِعَانَةِ الْمُكَاتَبِ عَلَى نُجُومِهِ، دُونَ الْعِتْقِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ. وَاخْتُلِفَ فِي دَفْعِ ذَلِكَ فِي عِتْقِ بَعْضِ عَبْدٍ أَوْ نُجُومِ كِتَابَةٍ لَيْسَ بِهَا تَمَامُ حُرِّيَّةِ الْمُكَاتَبِ، فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكُ وَالزُّهْرِيُّ وَقِيلَ يَجُوزُ ذَلِكَ. وَفِدَاءُ الْأَسْرَى مِنْ فَكِّ الرِّقَابِ عَلَى الْأَصَحِّ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ لِابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَابْنِ حَبِيبٍ، خِلَافًا لِأَصْبَغَ، مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَأَمَّا الْغَارِمُونَ فَشَرْطُهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ دِينُهُمْ فِي مَعْصِيَةٍ إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا. وَالْمَيِّتُ الْمَدِينُ الَّذِي لَا وَفَاءَ لِدِينِهِ فِي تَرِكَتِهِ يُعَدُّ مِنَ الْغَارِمِينَ عِنْدَ ابْنِ حَبِيبٍ، خِلَافًا لِابْنِ الْمَوَّازِ.
وَسَبِيلِ اللَّهِ لَمْ يُخْتَلَفْ أَنَّ الْغَزْوَ هُوَ الْمَقْصُودُ، فَيُعْطَى الْغُزَاةُ الْمُحْتَاجُونَ فِي بَلَدِ الْغَزْوِ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ فِي بَلَدِهِمْ، وَأَمَّا الْغُزَاةُ الْأَغْنِيَاءُ فِي بَلَدِ الْغَزْوِ فَالْجُمْهُورُ أَنَّهُمْ
يُعْطَوْنَ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُعْطَوْنَ. وَالْحَقُّ أَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ يَشْمَلُ شِرَاءَ الْعُدَّةِ لِلْجِهَادِ مِنْ سِلَاحٍ، وَخَيْلٍ، وَمَرَاكِبَ بَحْرِيَّةٍ، وَنُوتِيَّةٍ، وَمَجَانِيقَ، وَلِلْحُمْلَانِ، وَلِبِنَاءِ الْحُصُونِ، وَحَفْرِ الْخَنَادِقِ، وَلِلْجَوَاسِيسِ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِأَخْبَارِ الْعَدُوِّ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ لَهُ مُخَالِفًا، وَأَشْعَرَ كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ يَدْخُلُ فِي مَصَارِفِ الصَّدَقَاتِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ. وَهَذَا اجْتِهَادٌ وَتَأْوِيلٌ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:«وَمَا جَاءَ أَثَرٌ قَطُّ بِإِعْطَاءِ الزَّكَاةِ فِي الْحَجِّ» .
وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي الْغَرِيبِ الْمُحْتَاجِ فِي بَلَدِ غُرْبَتِهِ أَنَّهُ مُرَادٌ وَلَوْ وَجَدَ مَنْ يُسَلِّفُهُ، إِذْ لَيْسَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُدْخِلَ نَفْسَهُ تَحْتَ مِنَّةٍ. وَاخْتُلِفَ فِي الْغَنِيِّ: فَالْجُمْهُورُ قَالُوا: لَا يُعْطَى وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْبَغُ: يُعْطَى وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِ غُرْبَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِأَنَّهُ يُفِيدُ مَعْنَى فَرَضَ اللَّهُ أَوْ أَوْجَبَ، فَأَكَّدَ بِفَرِيضَةٍ مِنْ لَفْظِ الْمُقَدَّرِ وَمَعْنَاهُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَعْظِيمُ شَأْنِ هَذَا الْحُكْمِ وَالْأَمْرُ بِالْوُقُوفِ عِنْدَهُ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ إِمَّا أَفَادَهُ الْحَصْرُ بِ إِنَّمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ إِلَخْ، أَيْ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فِي قَصْرِ الصَّدَقَاتِ عَلَى هَؤُلَاءِ، أَيْ أَنَّهُ صَادِرٌ عَنِ الْعَلِيمِ الَّذِي يَعْلَمُ مَا يُنَاسِبُ فِي الْأَحْكَامِ، والحكيم الَّذِي أَحْكَمَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي خَلَقَهَا أَوْ شَرَعَهَا. وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ لِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ يَكُونُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى رَأْي المحقّقين.