الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَعْدَ ذَلِكَ:
فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [التَّوْبَة:
74] .
وَقَدْ آمَنَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ هَذِه الطَّائِفَة مخشيّا (1) بْنَ حُمَيِّرٍ الْأَشْجَعِيَّ لَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ تَابَ مِنَ النِّفَاقِ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَعُدَّ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ جَاهَدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ وَاسْتُشْهِدَ فِيهِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ الْمَقْصُودُ «بِالطَّائِفَةِ» دُونَ غَيْرِهِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ فِي مَقَامِ الْإِخْفَاءِ وَالتَّعْمِيَةِ
كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ»
. وَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي الْمَدِينَةِ بَقِيَّةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي خِلَافَتِهِ يَتَوَسَّمُهُمْ.
وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالْمُجْرِمُ الْكَافِرُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُعْفَ وتعذب بِبِنَاءِ الْفِعْلَيْنِ إِلَى النَّائِبِ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ- بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَبِنُونِ الْعَظَمَةِ فِي الْفِعْلَيْنِ وَنَصَبَ طائِفَةٍ الثَّانِي.
[67]
[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 67]
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67)
يَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ احْتِرَاسًا عَنْ أَنْ يَظُنَّ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ الْعَفْوَ الْمَفْرُوضَ لِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ هُوَ عَفْوٌ يَنَالُ فَرِيقًا مِنْهُمْ بَاقِينَ عَلَى نِفَاقِهِمْ، فَعَقَّبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ أَنَّ النِّفَاقَ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَّ أَصْحَابَهُ سَوَاءٌ، لِيَعْلَمَ بِذَلِكَ أَنَّ افْتِرَاقَ أَحْوَالِهِمْ بَيْنَ عَفْوٍ وَعَذَابٍ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْبَقَاءِ عَلَى النِّفَاقِ، إِلَى مَا أَفَادَتْهُ الْآيَةُ أَيْضًا مِنْ إِيضَاحِ بَعْضِ
(1) بميم مَفْتُوحَة وخاء مُعْجمَة سَاكِنة وياء مُشَدّدَة، وحمير بحاء مُهْملَة مَضْمُومَة وَمِيم مَفْتُوحَة وتحتية مُشَدّدَة. وَفِي «سيرة ابْن إِسْحَاق» ومخشن بنُون من آخِره وبفتح الشين وَقد ذكر اسْمه آنِفا عِنْد تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التَّوْبَة: 65] .
أَحْوَالِ النِّفَاقِ وَآثَارِهِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ، فَفَصَلَ هَاتِهِ الْجُمْلَةَ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا: إِمَّا لِأَنَّهَا كَالْبَيَانِ لِلطَّائِفَةِ الْمُسْتَحِقَّةِ الْعَذَابَ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا فِي حُكْمِ الِاعْتِرَاضِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [التَّوْبَة: 69] وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ اعْتِرَاضًا هِيَ وَالَّتِي بَعْدَهَا بَيْنَ الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَبَيْنَ جُمْلَةِ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً [التَّوْبَة: 69] كَمَا سَيَأْتِي هُنَالِكَ.
وَزِيدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ الْمُنافِقاتُ تَنْصِيصًا عَلَى تَسْوِيَةِ الْأَحْكَامِ لِجَمِيعِ الْمُتَّصِفِينَ بِالنِّفَاقِ: ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، كَيْلَا يَخْطُرَ بِالْبَالِ أَنَّ الْعَفْوَ يُصَادِفُ نِسَاءَهُمْ، وَالْمُؤَاخَذَةَ خَاصَّةٌ بِذُكْرَانِهِمْ، لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ لِنِسَاءِ الْمُنَافِقِينَ حَظًّا مِنْ مُشَارَكَةِ رِجَالِهِنَّ فِي النِّفَاقِ فَيَحْذَرُوهُنَّ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ اتِّصَالِيَّةٌ دَالَّةٌ عَلَى مَعْنَى اتِّصَالِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ وَهُوَ تَبْعِيضٌ مَجَازَيٌّ مَعْنَاهُ الْوَصْلَةُ وَالْوِلَايَةُ، وَلَمْ يُطْلَقْ عَلَى ذَلِكَ اسْمُ الْوِلَايَةِ كَمَا أُطْلِقَ عَلَى اتِّصَالِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التَّوْبَة: 71] لِمَا سَيَأْتِي هُنَالِكَ.
وَقَدْ شَمِلَ قَوْلُهُ: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ جَمِيعَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ، لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ هُوَ بَعْضٌ مِنَ الْجَمِيعِ، فَإِذَا كَانَ كُلُّ بَعْضٍ مُتَّصِلًا بِبَعْضٍ آخَرَ، عُلِمَ أَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي الْأَحْوَالِ.
وَجُمْلَةُ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ مُبَيِّنَةٌ لِمَعْنَى الِاتِّصَالِ وَالِاسْتِوَاءِ فِي الْأَحْوَالِ.
وَالْمُنْكِرُ: الْمَعَاصِي لِأَنَّهَا يُنْكِرُهَا الْإِسْلَامُ.
وَالْمَعْرُوفُ: ضِدُّهَا، لِأَنَّ الدِّينَ يَعْرِفُهُ، أَيْ يَرْضَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [104] .
وَقَبْضُ الْأَيْدِي: كِنَايَةٌ عَنِ الشُّحِّ، وَهُوَ وَصْفُ ذَمٍّ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْقَسْوَةِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ الشُّحُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ.