الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثُمَّ إِنَّ قَبَائِلَ الْعَرَبِ كُلَّهَا رَغِبَتْ فِي الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ فَانْتَهَتْ حُرْمَةُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ.
[5]
[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 5]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ.
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التَّوْبَة: 2] فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا بِالْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ أَرْبَعَةً تَبْتَدِئُ مِنْ وَقْتِ نُزُولِ بَرَاءَةٌ كَانَ قَوْلُهُ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ تَفْرِيعًا مُرَادًا مِنْهُ زِيَادَةُ قَيْدٍ عَلَى قَيْدِ الظّرْف من قَول: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التَّوْبَة: 2] أَيْ: فَإِذَا انْتَهَى أَجَلُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَانْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَخْ لِانْتِهَاءِ الْإِذْنِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التَّوْبَة: 2]، وَإِنْ كَانَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ مُرَادًا بِهَا الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ كَانَ قَوْلُهُ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ تَصْرِيحًا بِمَفْهُومِ الْإِذْنِ بِالْأَمْنِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، الْمُقْتَضِي أَنَّهُ لَا أَمْنَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [الْمَائِدَة: 2]،- بَعْدَ قَوْلِهِ- غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة: 1] فَيَكُونُ تَأْجِيلًا لَهُمْ إِلَى انْقِضَاءِ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ عَشْرٍ، ثُمَّ تَحْذِيرًا مِنْ خَرْقِ حُرْمَةِ شَهْرِ رَجَبٍ، وَكَذَلِكَ يَسْتَمِرُّ الْحَالُ فِي كُلِّ عَامٍ إِلَى نَسْخِ تَأْمِينِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ
…
فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التَّوْبَة: 36] .
وَانْسِلَاخُ الْأَشْهُرِ انْقِضَاؤُهَا وَتَمَامُهَا وَهُوَ مُطَاوِعُ سَلْخٍ. وَهُوَ فِي الْأَصْلِ اسْتِعَارَةٌ مِنْ سَلْخِ جِلْدِ الْحَيَوَانِ، أَيْ إِزَالَتُهُ. ثُمَّ شَاعَ هَذَا الْإِطْلَاقُ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً.
وَالْحُرُمُ جَمْعُ حَرَامٍ وَهُوَ سَمَاعِيٌّ لِأَنَّ فُعُلًا بِضَمِّ الْفَاءِ وَالْعَيْنِ إِنَّمَا يَنْقَاسُ فِي الِاسْمِ الرُّبَاعِيِّ ذِي مَدٍّ زَائِدٍ. وَحَرَامٌ صِفَةٌ. وَقَالَ الرَّضِيُّ فِي بَابِ الْجَمْعِ مِنْ «شَرْحِ الشَّافِيَةِ» إِنَّ جُمُوعَ التَّكْسِيرِ أَكْثَرُهَا مُحْتَاجٌ إِلَى السَّمَاعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ فِي سُورَةُ الْبَقَرَةِ [194] . وَهِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَمُحَرَّمٌ وَرَجَبٌ.
وَانْسِلَاخُهَا انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ الْمُتَتَابِعَةِ مِنْهَا، وَقَدْ بَقِيَتْ حُرْمَتُهَا مَا بَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَبِيلَةٌ، لِمَصْلَحَةِ الْفَرِيقَيْنِ، فَلَمَّا آمَنَ جَمِيعُ الْعَرَبِ بَطَلَ حُكْمُ حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَحَارِمِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَغْنَتْ عَنْهَا.
وَالْأَمْرُ فِي فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ لِلْإِذْنِ وَالْإِبَاحَةِ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ عَلَى حِدَةٍ، أَيْ فقد أذن لكل فِي قَتْلِهِمْ، وَفِي أَخْذِهِمْ، وَفِي حِصَارِهِمْ، وَفِي مَنْعِهِمْ مِنَ الْمُرُورِ بِالْأَرْضِ الَّتِي تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ يَعْرِضُ الْوُجُوبُ إِذَا ظَهَرَتْ مَصْلَحَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمِنْ صُوَرِ الْوُجُوبِ مَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ
فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ
[التَّوْبَة: 12] وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ حُرْمَةَ الْعَهْدِ قَدْ زَالَتْ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ شُرِعُ الْجِهَادُ وَالْإِذْنُ فِيهِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ غَيْرُ الْإِسْلَامِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَتْ آيَاتِ الْمُوَادَعَةِ وَالْمُعَاهَدَةِ. وَقَدْ عَمَّتِ الْآيَةُ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ وَعَمَّتِ الْبِقَاعَ إِلَّا مَا خَصَّصَتْهُ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَالْأَخْذُ: الْأَسْرُ.
وَالْحَصْرُ: الْمَنْعُ مِنْ دُخُولِ أَرْضِ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَالْقُعُودُ مَجَازٌ فِي الثَّبَاتِ فِي الْمَكَانِ، وَالْمُلَازَمَةِ لَهُ، لِأَنَّ الْقُعُودَ ثُبُوتٌ شَدِيدٌ وَطَوِيلٌ.
فَمَعْنَى الْقُعُودِ فِي الْآيَةِ الْمُرَابَطَةُ فِي مَظَانِّ تَطَرُّقِ الْعَدُوِّ الْمُشْرِكِينَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَفِي مَظَانِّ وُجُودِ جَيْشِ الْعَدُوِّ وَعُدَّتِهِ.
وَالْمَرْصَدُ مَكَانُ الرَّصْدِ. وَالرَّصْدُ: الْمُرَاقَبَةُ وَتَتَبُّعُ النَّظَرِ.
وكُلَّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي تَعْمِيمِ الْمَرَاصِدِ الْمَظْنُونِ مُرُورُهُمْ بِهَا، تَحْذِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ إِضَاعَتِهِمُ الْحِرَاسَةَ فِي الْمَرَاصِدِ فَيَأْتِيهِمُ الْعَدُوُّ مِنْهَا، أَوْ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي بَعْضِ مَمَارِّ الْعَدُوِّ فَيَنْطَلِقُ الْأَعْدَاءُ آمِنِينَ فَيَسْتَخِفُّوا بِالْمُسْلِمِينَ وَيَتَسَامَعُ جَمَاعَاتُ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَيْسُوا بِذَوِي بَأْسٍ وَلَا يَقَظَةٍ، فَيُؤَوَّلُ مَعْنَى كُلَّ هُنَا إِلَى مَعْنَى الْكَثْرَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْمَرَاصِدِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَخَنْسَاءَ تَرْعَوِي
…
إِلَى كُلِّ رَجَّافٍ مِنَ الرَّمْلِ فَارِدِ
وَانْتَصَبَ كُلَّ مَرْصَدٍ إِمَّا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ بِتَضْمِينِ اقْعُدُوا مَعْنَى (الْزَمُوا) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الْأَعْرَاف: 16] ، وَإِمَّا عَلَى التَّشْبِيهِ بِالظَّرْفِ لِأَنَّهُ مِنْ حَقِّ فِعْلِ الْقُعُودِ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ بِ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ فَشُبِّهَ بِالظَّرْفِ وَحُذِفَتْ (فِي) لِلتَّوَسُّعِ.
وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ (كُلَّ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [25] .
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ.
وَالتَّوْبَةُ عَنِ الشِّرْكِ هِيَ الْإِيمَانُ، أَيْ فَإِنْ آمَنُوا إِيمَانًا صَادِقًا، بِأَنْ أَقَامُوا الصَّلَاةَ الدَّالَّةَ إِقَامَتُهَا عَلَى أَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَكُنْ كَاذِبًا فِي إِيمَانِهِ، وَبِأَنْ آتَوُا الزَّكَاةَ الدَّالَّ إِيتَاؤُهَا عَلَى أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ حَقًّا، لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ لِلْمُسْلِمِينَ أَمَارَةُ صِدْقِ النِّيَّةِ فِيمَا بُذِلَ فِيهِ فَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ شَرْطٌ فِي كَفِّ الْقِتَالِ عَنْهُمْ إِذَا آمَنُوا، وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ جُزْءٌ مِنَ الْإِيمَانِ.
وَحَقِيقَةُ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ اتْرُكُوا طَرِيقَهُمُ الَّذِي يَمُرُّونَ بِهِ، أَيِ اتْرُكُوا لَهُمْ كُلَّ طَرِيقٍ أُمِرْتُمْ بِرَصْدِهِمْ فِيهِ أَيِ اتْرُكُوهُمْ يَسِيرُونَ مُجْتَازِينَ أَوْ قَادِمِينَ عَلَيْكُمْ، إِذْ لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ فِي الْحَالَتَيْنِ، فَإِنَّهُمْ صَارُوا إِخْوَانَكُمْ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ [التَّوْبَة: 11] .
وَهَذَا الْمُرَكَّبُ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا تَمْثِيلًا فِي عَدَمِ الْإِضْرَارِ بِهِمْ وَمُتَارَكَتِهِمْ، يُقَالُ: خَلِّ سَبِيلِي، أَيْ دَعْنِي وَشَأْنِي، كَمَا قَالَ جَرِيرٌ:
خَلِّ السَّبِيلَ لِمَنْ يَبْنِي الْمَنَارَ بِهِ
…
وَأَبْرِزْ بِبَرْزَةَ حَيْثُ اضْطَرَّكَ الْقَدَرُ