الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَ (أَكْبَرُ) تَفْضِيلٌ لَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ أَكْبَرُ مِنَ الْجَنَّاتِ لِأَنَّ رِضْوَانَ اللَّهِ أَصْلٌ لِجَمِيعِ الْخَيْرَاتِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةَ أَعْلَى وَأَشْرَفُ مِنَ الْجُثْمَانِيَّةِ.
وذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْجَنَّاتِ وَالْمَسَاكِنِ وَصَفَاتِهِمَا وَالرِّضْوَانِ الْإِلَهِيِّ.
وَالْقَصْرُ فِي هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ بِاعْتِبَارِ وَصْفِ الْفَوْز بعظيم.
[73]
[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 73]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
لَمَّا أَشْعَرَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ [التَّوْبَة: 68] . بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابَيْنِ عَذَابًا أُخْرَوِيًّا وَهُوَ نَارُ جَهَنَّمَ، تَعَيَّنَ أَنَّ الْعَذَابَ الثَّانِيَ عَذَابٌ دُنْيَوِيٌّ وَهُوَ عَذَابُ الْقَتْلِ، فَلَمَّا أَعْقَبَ ذَلِكَ بِشَنَائِعِ الْمُنَافِقِينَ وَبِضَرْبِ الْمَثَلِ لَهُمْ بِالْأُمَمِ البائدة، أَمر نبيئه بِجِهَادِ الْمُنَافِقِينَ وَهَذَا هُوَ الْجِهَادُ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [60، 61] فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا فَبَعْدَ أَنْ أَنْذَرَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ فَلَمْ يَرْتَدِعُوا وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُدَّةِ مَا كُشِفَتْ فِيهِ دَخِيلَتُهُمْ بِمَا تَكَرَّرَ مِنْهُمْ مِنْ بَوَادِرِ الْكُفْرِ وَالْكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ، أَنْجَزَ اللَّهُ مَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ بِأَنْ أَمَرَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِجِهَادِهِمْ. وَالْجِهَادُ الْقِتَالُ لِنَصْرِ الدِّينِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [54] .
وَقُرِنَ الْمُنَافِقُونَ هُنَا بِالْكُفَّارِ: تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْأَمْرِ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ قَدْ تَحَقَّقَ فِي الْمُنَافِقِينَ، فَجِهَادُهُمْ كَجِهَادِ الْكُفَّارِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا قَرَنَهُمْ فِي الْوَعِيدِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ إِذْ قَالَ:
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ [التَّوْبَة: 68] وَأَوْمَأَ قَوْلُهُ هُنَالِكَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا آخَرَ، لَا جَرَمَ جَمْعَهُمْ عِنْدَ شَرْعِ هَذَا الْعَذَابِ الْآخَرِ لَهُمْ.
فَالْجِهَادُ الْمَأْمُورُ لِلْفَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفٌ، وَلَفْظُ (الْجِهَادِ) مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
وَفَائِدَةُ الْقَرْنِ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي الْجِهَادِ: إِلْقَاءُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَخْشَى أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُهُ فَيُعَامَلَ مُعَامَلَةَ الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ فَيَكُونَ ذَلِكَ خَاضِدًا شَوْكَتَهُمْ.
وَأَمَّا جِهَادُهُمْ بِالْفِعْلِ فَمُتَعَذِّرٌ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُظْهِرِينَ الْكُفْرَ، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ الْجِهَادَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُنَافِقِينَ بِالْمُقَاوَمَةِ بِالْحُجَّةِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ عِنْدَ ظُهُورِ مَا يَقْتَضِيهَا، وَكَانَ غَالِبُ مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي عَهْدِ النُّبُوءَةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ جِهَادُهُمْ يَنْتَهِي إِلَى الْكَشْرِ فِي وُجُوهِهِمْ. وَحَمَلَهَا الزَّجَّاجُ وَالطَّبَرِيُّ عَلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ، وَنَسَبَهُ الطَّبَرِيُّ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَلَكِنَّهُمَا لَمْ يَأْتِيَا بِمَقْنَعٍ مِنْ تَحْقِيقِ الْمَعْنَى.
وَهَذِهِ الْآيَةُ إِيذَانٌ لِلْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ النِّفَاقَ يُوجِبُ جِهَادَهُمْ قَطْعًا لِشَأْفَتِهِمْ مِنْ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُهُمْ وَيُعَرِّفُهُمْ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَعْرِفُونَ مِنْهُمْ مَنْ تَكَرَّرَتْ بَوَادِرُ أَحْوَالِهِ، وَفَلَتَاتُ مَقَالِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِيءُ مُمْسِكًا عَنْ قَتْلِهِمْ سَدًّا لِذَرِيعَةِ دُخُولِ الشَّكِّ فِي الْأَمَانِ عَلَى الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ لِعُمَرَ:«لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» لِأَنَّ الْعَامَّةَ وَالْغَائِبِينَ عَنِ الْمَدِينَةِ لَا يَبْلُغُونَ بِعِلْمِهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأُمُورِ الْجَارِيَةِ بِالْمَدِينَةِ، فَيَسْتَطِيعُ دُعَاةُ الْفِتْنَةِ أَنْ يُشَوِّهُوا الْأَعْمَالَ النَّافِعَةَ بِمَا فِيهَا مِنْ صُورَةٍ بَشِيعَةٍ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْلَمُ الْحَقِيقَةَ، فَلَمَّا كَثُرَ الدَّاخِلُونَ فِي الْإِسْلَامِ وَاشْتَهَرَ مِنْ أَمَانِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَا شَكَّ مَعَهُ فِي وَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَشَاعَ مِنْ أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ وَخِيَانَتِهِمْ مَا تَسَامَعَتْهُ الْقَبَائِلُ وَتَحَقَّقَهُ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، تَمَحَّضَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي اسْتِئْصَالِ شَأْفَتِهِمْ، وَانْتَفَتْ ذَرِيعَةُ تَطَرُّقِ الشَّكِّ فِي أَمَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّ أَجَلَ رَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام قَدِ اقْتَرَبَ، وَأَنَّهُ إِنْ بَقِيَتْ بَعْدَهُ هَذِهِ الْفِئَةُ ذَاتُ الْفِتْنَةِ تَفَاقَمَ أَمْرُهَا وَعَسُرَ تَدَارُكُهَا، وَاقْتَدَى بِهَا كُلُّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، لَا جَرَمَ آذَنَهُمْ بِحَرْبٍ لِيَرْتَدِعُوا وَيُقْلِعُوا عَنِ النِّفَاقِ. وَالَّذِي يُوجِبُ قِتَالَهُمْ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِكَلِمَاتِ الْكُفْرِ، أَيْ صَرَّحَ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَى إِبْطَانِهِ الْكُفْرَ وَسَمِعَهَا الْآخَرُونَ فَرَضُوا بِهَا، وَصَدَرَتْ مِنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَخِفُّونَ بِالدِّينِ،
وَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقُرْبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَعَلَّ مِنْ حِكْمَةِ الْإِعْلَامِ بِهَذَا الْجِهَادِ تَهْيِئَةَ الْمُسْلِمِينَ لِجِهَادِ كُلِّ قَوْمٍ يَنْقُضُونَ عُرَى الْإِسْلَامِ وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، كَمَا فَعَلَ الَّذِينَ مَنَعُوا الزَّكَاةَ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَكْفُرُوا وَإِنَّمَا الزَّكَاةُ حَقُّ الرَّسُولِ فِي حَيَاتِهِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا نِفَاقٌ مِنْ قَادَتِهِمُ اتَّبَعَهُ دَهْمَاؤُهُمْ، وَلَعَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَانَتْ سَبَبًا فِي انْزِجَارِ مُعْظَمِ الْمُنَافِقِينَ عَنِ النِّفَارِ وَإِخْلَاصِهِمُ الْإِيمَانَ كَمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ الْجُلَاسِ بْنِ سُوَيْدٍ. وَكَانَ قَدْ كَفَى اللَّهُ شَرَّ مُتَوَلِّي كِبْرِ النِّفَاقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ بِمَوْتِهِ فَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ كَافِيًا عَنْ إِعْمَالِ الْأَمْرِ بِجِهَادِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الْأَحْزَاب: 25] .
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى التَّكْفِيرِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْكُفْرِ مِنْ قَائِلِهِ أَوْ فَاعِلِهِ دَلَالَةً بَيِّنَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْلَنَ الْكُفْرَ.
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ بِأَنْ يَكُونَ غَلِيظًا مَعَهُمْ. وَالْغِلْظَةُ يَأْتِي مَعْنَاهَا عِنْدَ قَوْلِهِ:
وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً فِي هَذِهِ السُّورَةِ [123] .
وَإِنَّمَا وُجِّهَ هَذَا الْأَمْرُ إِلَى الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام لِأَنَّهُ جُبِلَ عَلَى الرَّحْمَةِ
فَأُمِرَ بِأَنْ يَتَخَلَّى عَنْ جِبِلَّتِهِ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَأَنْ لَا يُغْضِي عَنْهُمْ كَمَا كَانَ شَأْنُهُ مِنْ قَبْلُ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي نَسْخَ إِعْطَاءِ الْكُفَّارِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا يَبْقَى ذَلِكَ لِلدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ حَدِيثًا.
وَجُمْلَةُ: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ تَذْيِيلٌ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ مَرَّاتٍ. وَالْمَأْوَى مَا يَأْوِي إِلَيْهِ الْمَرْءُ مِنَ الْمَكَانِ، أَيْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ.
وَالْمَصِيرُ الْمَكَانُ الَّذِي يَصِيرُ إِلَيْهِ الْمَرْءُ، أَيْ يَرْجِعُ فَالِاخْتِلَافُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَأْوَى بِالِاعْتِبَارِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا هُنَا تَفَنُّنٌ