الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَمَنْ تَطَوَّعَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ يَطَّوَّعْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ وَيَاءِ الْغَيْبَةِ وَجَزْمِ الْعَيْنِ.
ومِنْ هُنَا شَرْطِيَّةٌ بِدَلِيلِ الْفَاءِ فِي جَوَابِهَا. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ دَلِيلُ الْجَوَابِ إِذِ التَّقْدِيرُ وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا جُوزِيَ بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ أَيْ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مُحْسِنٍ، عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَنْهُ إِحْسَانُهُ، وَذَكَرَ الْوَصْفَيْنِ لِأَنَّ تَرْكَ الثَّوَابِ عَنِ الْإِحْسَانِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ جُحُودٍ لِلْفَضِيلَةِ أَوْ جَهْلٍ بِهَا فَلِذَلِكَ نُفِيَا بِقَوْلِهِ: شاكِرٌ عَلِيمٌ وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ شاكِرٌ هُنَا اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ شَبَّهَ شَأْنَ اللَّهِ فِي جَزَاءِ الْعَبْدِ عَلَى الطَّاعَةِ بِحَالِ الشَّاكِرِ لِمَنْ أَسْدَى إِلَيْهِ نِعْمَةً، وَفَائِدَةُ هَذَا التَّشْبِيهِ تَمْثِيلُ تَعْجِيلِ الثَّوَابِ وَتَحْقِيقِهِ لِأَنَّ حَالَ الْمُحْسَنِ إِلَيْهِ أَنْ يُبَادِرَ بشكر المحسن.
[159، 160]
[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 159 إِلَى 160]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ (159) إِلَاّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
عَوْدٌ بِالْكَلَامِ إِلَى مَهْيَعِهِ الَّذِي فُصِلَ عَنْهُ بِمَا اعْتَرَضَ مِنْ شَرْعِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ إِنَّ هَاتِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عُلَمَاءِ الْيَهُودِ فِي كَتْمِهِمْ دَلَائِلَ صِدْقِ النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَصِفَاتِهِ وَصِفَاتِ دِينِهِ الْمَوْجُودَةِ فِي التَّوْرَاةِ وَفِي كَتْمِهِمْ آيَةَ الرَّجْمِ، وَهُوَ يَقْتَضِي
أَنْ اسْمُ الْمَوْصُولِ لِلْعَهْدِ فَإِنَّ الْمَوْصُول يَأْتِي لِمَا يَأْتِي لَهُ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ وَعَلَيْهِ فَلَا عُمُومَ هُنَا، وَأَنَا أَرَى أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْمَوْصُولِ هُنَا لِلْجِنْسِ فَهُوَ كَالْمُعَرَّفِ بِلَامِ الِاسْتِغْرَاقِ فَيَعُمُّ وَيَكُونُ مِنَ الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ وَلَا يُخَصَّصُ بِسَبَبِهِ وَلَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُ أَفْرَادَ سَبَبِهِ تَنَاوُلًا أَوَّلِيًّا أَقْوَى مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَفْرَادِ الصَّالِحِ هُوَ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهَا لِأَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ عَلَى صُورَةِ السَّبَبِ قَطْعِيَّةٌ وَدَلَالَتُهُ عَلَى غَيْرِهَا مِمَّا يَشْمَلُهُ مَفْهُومُ الْعَامِّ دَلَالَةٌ ظَنِّيَّةٌ، فَمُنَاسَبَةُ وَقْعِ هَاتِهِ الْآيَةِ بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ مَا قَبْلَهَا كَانَ مِنَ الْأَفَانِينِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُتَفَنِّنَةِ عَلَى ذِكْرِ مَا قَابَلَ بِهِ الْيَهُودُ دَعْوَةَ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم وَتَشْبِيهِهِمْ فِيهَا بِحَالِ سَلَفِهِمْ فِي مُقَابَلَةِ دَعْوَةِ أَنْبِيَائِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِلَى مَبْلَغِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 75]
إِلَى قَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْبَقَرَة: 101] الْآيَةَ وَمَا قَابَلَ بِهِ أَشْبَاهُهُمْ مِنَ النَّصَارَى وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ الدَّعْوَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ، ثُمَّ أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى الْإِنْحَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قِلَّةَ وَفَائِهِمْ بِوَصَايَا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي يَفْتَخِرُونَ بِأَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَأَنَّهُمْ سَدَنَةُ بَيْتِهِ فَقَالَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ [الْبَقَرَة:
114] الْآيَاتِ، فَنَوَّهَ بِإِبْرَاهِيمَ وَبِالْكَعْبَةِ وَاسْتِقْبَالِهَا وَشَعَائِرِهَا وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ رَدُّ مَا صَدَرَ عَنِ الْيَهُودِ مِنْ إِنْكَارِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 146](يُرِيدُ عُلَمَاءَهُمْ) ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِتَكْمِلَةِ فَضَائِلِ الْكَعْبَةِ وَشَعَائِرِهَا، فَلَمَّا تَمَّ جَمِيعُ ذَلِكَ عَطَفَ الْكَلَامَ إِلَى تَفْصِيلِ مَا رَمَاهُمْ بِهِ إِجْمَالًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا إِلَخْ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ فِي الْخَطَابَةِ هِيَ إِيفَاءُ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ حَقَّهُ وَتَقْصِيرُ الِاسْتِطْرَادِ وَالِاعْتِرَاضِ الْوَاقِعَيْنِ فِي أَثْنَائِهِ ثُمَّ الرُّجُوعُ إِلَى مَا يُهِمُّ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مِنْ تَفْصِيلِ اسْتِطْرَادٍ أَوِ اعْتِرَاضٍ تَخَلَّلَ الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ.
فَجُمْلَةُ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ إِلَخِ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ يَعْرِفُ مِنْهُ السَّامِعُ تَفْصِيلَ مَا تَقَدَّمَ لَهُ إجماله، والتوكيد بإنّ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ.
وَالْكَتْمُ وَالْكِتْمَانُ عَدَمُ الْإِخْبَارِ بِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُخْبَرَ بِهِ مِنْ حَادِثٍ مَسْمُوعٍ أَوْ مَرْئِيٍّ وَمِنْهُ كَتْمُ السِّرِّ وَهُوَ الْخَبَرُ الَّذِي تُخْبِرُ بِهِ غَيْرَكَ وَتَأْمُرَهُ بِأَنْ يَكْتُمَهُ فَلَا يُخْبِرُهُ غَيْرَهُ.
وَعَبَّرَ فِي: يَكْتُمُونَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ فِي الْحَالِ كَاتِمُونَ لِلْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، وَلَوْ وَقَعَ بِلَفْظِ الْمَاضِي لَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ الْمَعْنِيَ بِهِ قَوْمٌ مَضَوْا مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى الْحَاضِرِينَ. وَيُعْلَمُ حُكْمُ الْمَاضِينَ وَالْآتِينَ بِدَلَالَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ لِمُسَاوَاتِهِمْ فِي ذَلِك.
وَالْمرَاد بِمَا أَنْزَلْنَا مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ مِنَ الدَّلَائِلِ والإرشاد، وَالْمرَاد بِالْكتاب التَّوْرَاةُ.
وَالْبَيِّنَاتُ جُمَعُ بَيِّنَةٍ وَهِيَ الْحُجَّةُ وَشَمَلَ ذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ مِمَّا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ، وَيَشْمَلُ الْأَدِلَّةَ الْمُرْشِدَةَ إِلَى الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَحْوَالِ الرُّسُلِ وَأَخْذِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ فِي اتِّبَاعِ كُلِّ رَسُولٍ جَاءَ بدلائل صدق لَا سِيمَا الرَّسُولُ الْمَبْعُوثُ فِي إِخْوَةِ إِسْرَائِيلَ وَهُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ ظَهَرَتْ بِعْثَتُهُ بَيْنَهُمْ وَانْتَشَرَتْ مِنْهُمْ، وَالْهُدَى هُوَ مَا بِهِ الْهُدَى أَيِ الْإِرْشَادُ إِلَى طَرِيقِ الْخَيْرِ فَيَشْمَلُ آيَاتِ الْأَحْكَامِ الَّتِي بِهَا صَلَاحُ النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ فِي مُجْتَمَعِهِمْ.
وَالْكِتْمَانُ يَكُونُ بِإِلْغَاءِ الْحِفْظِ وَالتَّدْرِيسِ وَالتَّعْلِيمِ، وَيَكُونُ بِإِزَالَتِهِ مِنَ الْكِتَابِ أَصْلًا وَهُوَ ظَاهِرُهُ قَالَ تَعَالَى: وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الْأَنْعَام: 91] ، يَكُونُ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ عَنْ مُرَادِ الشَّارِعِ لِأَنَّ إِخْفَاءَ الْمَعْنَى كِتْمَانٌ لَهُ، وَحَذْفُ مُتَعَلَّقِ يَكْتُمُونَ الدَّالِّ عَلَى الْمَكْتُومِ عَنْهُ لِلتَّعْمِيمِ أَيْ يَكْتُمُونَ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ لِيَتَأَتَّى نِسْيَانُهُ وَإِضَاعَتُهُ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مُتَعَلِّقٌ بِ (يَكْتُمُونَ) وَذَكَرَ هَذَا الظَّرْفَ لِزِيَادَةِ التَّفْظِيعِ لِحَالِ الْكِتْمَانِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَتَمُوا الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مَعَ انْتِفَاءِ الْعُذْرِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَتَمُوا مَا لَمْ يُبَيَّنْ لَهُمْ لَكَانَ لَهُمْ بَعْضُ الْعُذْرِ أَنْ يَقُولُوا كَتَمْنَاهُ لِعَدَمِ اتِّضَاحِ مَعْنَاهُ فَكَيْفَ وَهُوَ قَدْ بُيِّنَ وَوَضَحَ فِي التَّوْرَاةِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلنَّاسِ لَامُ التَّعْلِيلِ أَيْ بَيَّنَّاهُ فِي الْكِتَابِ لِأَجْلِ النَّاسِ أَيْ أَرَدْنَا إِعْلَانَهُ وَإِشَاعَتَهُ أَيْ جَعَلْنَاهُ بَيِّنًا، وَفِي هَذَا زِيَادَةُ تَشْنِيعٍ عَلَيْهِمْ فِيمَا أَتَوْهُ مِنَ الْكِتْمَانِ وَهُوَ أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ كِتْمَانًا لِلْحَقِّ وَحِرْمَانًا مِنْهُ هُوَ اعْتِدَاءٌ عَلَى مُسْتَحِقِّهِ الَّذِي جُعِلَ لِأَجْلِهِ فَفِعْلُهُمْ هَذَا تَضْلِيلٌ وَظُلْمٌ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي (النَّاسِ) لِلِاسْتِغْرَاقِ لِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الشَّرَائِعَ لِهُدَى النَّاسِ كُلِّهِمْ وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ أَيِ النَّاسِ الْمُشَرَّعِ لَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الَّذِينَ يَكْتُمُونَ وَسَّطَ اسْمَ الْإِشَارَةِ بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْوَارِدَ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ صَارُوا أَحْرِيَاءَ بِهِ لِأَجْلِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ قَبْلَهُ بِحَيْثُ إِنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ جَعَلَتْهُمْ كَالْمُشَاهِدِينَ لِلسَّامِعِ فَأُشِيرَ إِلَيْهِمْ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَوْصَافِهِمْ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَفَادَتِ الْإِشَارَةُ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَوْصَافَ
هِيَ سَبَبُ الْحُكْمِ وَهُوَ إِيمَاءٌ لِلْعِلَّةِ عَلَى حَدِّ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] .
وَاخْتِيرَ اسْمُ إِشَارَةِ الْبَعِيدِ لِيَكُونَ أَبْعَثَ لِلسَّامِعِ عَلَى التَّأَمُّلِ مِنْهُمْ وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهِمْ أَوْ لِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ هُوَ الْأَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا فِي كَلَامِهِمْ.
وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي الْآيَة إِيمَان إِلَى وَجْهِ تَرَتُّبِ اللَّعْنِ عَلَى الْكِتْمَانِ وَهُمَا الْإِيمَاءُ بِالْمَوْصُولِ إِلَى وَجه بِنَاء الْخَبَر أَيْ عِلَّتِهِ وَسَبَبِهِ، وَالْإِيمَاءُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَحْرَوِيَّتِهِمْ بِذَلِكَ، فَكَانَ تَأْكِيدُ الْإِيمَاءِ إِلَى التَّعْلِيلِ قَائِمًا مُقَامَ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعِلَّةِ.
وَاللَّعْنُ الْإِبْعَادُ عَنِ الرَّحْمَةِ مَعَ إِذْلَالٍ وَغَضَبٍ، وَأَثَرُهُ يَظْهَرُ فِي الْآخِرَةِ بِالْحِرْمَانِ مِنَ الْجَنَّةِ وَبِالْعَذَابِ فِي جَهَنَّمَ، وَأَمَّا لَعْنُ النَّاسِ إِيَّاهُمْ فَهُوَ الدُّعَاءُ مِنْهُمْ بِأَنْ يُبْعِدَهُمُ اللَّهُ عَنْ رَحْمَتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، وَاخْتِيرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَعَنَهُمْ أَيْضًا فِيمَا مَضَى إِذْ كُلُّ سَامِعٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ لَعْنِهِمْ بِالزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ.
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ، وَكَرَّرَ فِعْلَ يَلْعَنُهُمُ مَعَ إِغْنَاءِ حَرْفِ الْعَطْفِ عَنْ تَكْرِيرِهِ لاخْتِلَاف معنى اللعنين فَإِنَّ اللَّعْنَ مِنَ اللَّهِ الْإِبْعَادُ عَنِ الرَّحْمَةِ وَاللَّعْنُ مِنَ الْبَشَرِ الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ عَكْسُ مَا وَقَعَ فِي إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ [الْأَحْزَاب: 56] لِأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ صَلَاةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الذِّكْرُ الْحَسَنُ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي: اللَّاعِنُونَ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ أَيْ يَلْعَنُهُمْ كُلُّ لَاعِنٍ، وَالْمُرَادُ بِاللَّاعِنِينَ الْمُتَدَيِّنُونَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْمُنْكَرَ وَأَصْحَابَهُ وَيَغْضَبُونَ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَطَّلِعُونَ عَلَى كِتْمَانِ هَؤُلَاءِ فَهُمْ يَلْعَنُونَهُمْ بِالتَّعْيِينِ وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى تَعْيِينِهِمْ فَهُمْ يَلْعَنُونَهُمْ بِالْعُنْوَانِ الْعَامِّ أَيْ حِينِ يَلْعَنُونَ كُلَّ مَنْ كَتَمَ آيَاتِ الْكِتَابِ حِينَ يَتْلُونَ التَّوْرَاةَ. وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُبَيِّنُوا التَّوْرَاةَ وَلَا يُخْفُوهَا كَمَا قَالَ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمرَان: 187] .
وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ اللَّعْنَةِ عَلَى إِضَاعَةِ عَهْدِ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ مَرَّاتٍ وَأَشْهَرُهَا الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ مُوسَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي (حُورِيبَ) حَسْبَمَا جَاءَ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ، وَالْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ فِي (مُؤَابٍ) وَهُوَ الَّذِي فِيهِ اللَّعْنَةُ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ وَهُوَ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ وَالْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ وَمِنْهُ:
«أَنْتُمْ وَاقِفُونَ الْيَوْم جميعكم أما الرَّبِّ إِلَهِكُمْ
…
لِكَيْ تَدْخُلُوا فِي عَهْدِ الرَّبِّ وَقَسَمِهِ لِئَلَّا يَكُونَ فِيكُمُ الْيَوْمَ مُنْصَرِفٌ عَنِ الرَّبِّ
…
فَيَكُونُ مَتَى يَسْمَعُ كَلَامَ هَذِهِ اللَّعْنَةِ يَتَبَرَّكُ فِي قَلْبِهِ
…
حِينَئِذٍ يَحُلُّ غَضَبُ الرَّبِّ وَغَيْرَتُهُ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ فَتَحُلُّ عَلَيْهِ كُلُّ اللَّعَنَاتِ الْمَكْتُوبَةِ
فِي هَذَا الْكِتَابِ وَيَمْحُو الرَّبُّ اسْمَهُ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ ويفرزه الرب للشر مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ حَسَبَ جَمِيعِ لَعَنَاتِ الْعَهْدِ الْمَكْتُوبَةِ فِي كِتَابِ الشَّرِيعَةِ هَذَا
…
لِنَعْمَلَ بِجَمِيعِ كَلِمَاتِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ» . وَفِي الْإِصْحَاحِ الثَلَاثِينَ: «وَمَتَى أَتَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْأُمُورُ الْبَرَكَةُ وَاللَّعْنَةُ جَعَلْتُهُمَا قُدَّامَكَ»
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِاللَّعْنَةِ الْمَسْطُورَةِ فِي التَّوْرَاةِ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ مَتْلُوَّةٌ دَائِمًا بَيْنَهُمْ فَكُلَّمَا قَرَأَ الْقَارِئُونَ هَذَا الْكَلَامَ تَجَدَّدَتْ لَعْنَةُ الْمَقْصُودِينَ بِهِ، وَالَّذِينَ كَتَمُوا مَا أُنْزِلَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى هم أَيْضا يقرأون التَّوْرَاة فَإِذا قرأوا لَعْنَةَ الْكَاتِمِينَ فَقَدْ لَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَأَمَّا الَّذِينَ يَلْعَنُونَ الْمُجْرِمِينَ وَالظَّالِمِينَ غَيْرَ الْكَاتِمِينَ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَهُمْ غَيْرُ مَشْمُولِينَ فِي هَذَا الْعُمُومِ وَبِذَلِكَ كَانَ الِاسْتِغْرَاقُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ اللَّاعِنُونَ بِاللَّامِ اسْتِغْرَاقًا عُرْفِيًّا.
وَاعْلَمْ أَنَّ لَامَ الِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ وَاسِطَةٌ بَيْنَ لَامِ الْحَقِيقَةِ وَلَامِ الِاسْتِغْرَاقِ الْحَقِيقِيِّ.
وَإِنَّمَا عَدَلَ إِلَى التَّعْرِيفِ مَعَ أَنَّهُ كَالنَّكِرَةِ مُبَالَغَةً فِي تَحَقُّقِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ صَارَ مَعْرُوفًا لِأَنَّ الْمُنَكَّرَ مَجْهُولٌ، أَوْ يَكُونُ التَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ أَيْ يَلْعَنُهُمُ الَّذِينَ لَعَنُوهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أَوْصَوْا بِإِعْلَانِ الْعَهْدِ وَأَنْ لَا يَكْتُمُوهُ.
وَلَمَّا كَانَ فِي صِلَةِ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ إِيمَاءٌ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَكُلُّ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا مِنْ قَبِيلِ مَضْمُونِ الصِّلَةِ مِنْ غَيْرِ أُولَئِكَ يَكُونُ حَقِيقًا بِمَا تَضَمَّنَهُ اسْمُ الْإِشَارَةِ وَخَبَرُهُ فَإِنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ فِي ذِكْرِ الْقَصَصِ الْمَاضِيَةِ أَنْ يَعْتَبِرَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كُلَّ مَا ذَمَّ اللَّهُ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَيْهِ فَالْمُسْلِمُونَ مُحَذَّرُونَ من مثله، وَلذَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَمَّا قَالَ النَّاسُ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ حَدِيثًا بَعْدَ أَنْ قَالَ النَّاسُ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى الْآيَةَ وَسَاقَ الْحَدِيثَ (1) .
فَالْعَالِمُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُمَ مِنْ عِلْمِهِ مَا فِيهِ هُدًى لِلنَّاسِ لِأَنَّ كَتْمَ الْهُدَى إِيقَاعٌ فِي الضَّلَالَةِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعِلْمُ الَّذِي بَلَغَ إِلَيْهِ بِطَرِيقِ الْخَبَرَ كَالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالْعِلْمِ
الَّذِي يَحْصُلُ عَنْ نَظَرٍ كَالِاجْتِهَادَاتِ إِذَا بَلَغَتْ مَبْلَغَ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِأَنَّ فِيهَا خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ الَّذِي تُومِئُ إِلَيْهِ الْعِلَّةُ أَنْ يَبُثَّ فِي النَّاسِ مَا يُوقِعَهُمْ فِي أَوْهَامٍ بِأَنْ يُلَقِّنَهَا وَهُوَ لَا يُحْسِنُ تَنْزِيلَهَا وَلَا تَأْوِيلَهَا، فَقَدْ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ»
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ لَا يُحْسِنُونَ وَضْعَهُ.
(1) أخرجه البُخَارِيّ فِي: (3)«كتاب الْعلم» (42) ، بَاب حفظ الْعلم، حَدِيث (118) . انْظُر «فتح الْبَارِي» (1/ 213، دَار الْمعرفَة.
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ حَدِّثْنِي بِأَشَدِّ عُقُوبَةٍ عَاقَبَهَا النَّبِيءُ فَذَكَرَ لَهُ أَنَسٌ حَدِيثَ الْعَرَنِيِّينَ الَّذِينَ قَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ فَقَطَعَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ يَسْتَقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ حَتَّى مَاتُوا
، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ قَالَ وَدِدْتُ أَنَّهُ لم يحدثه، أَو يتلفقون مِنْ ظَاهِرِهِ مَا يُوَافِقُ هَوَاهُمْ فَيَجْعَلُونَهُ مَعْذِرَةً لَهُمْ فِيمَا يُعَامِلُونَ بِهِ النَّاسَ مِنَ الظُّلْمِ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي «التَّفْسِيرِ» : لَا يَحِلُّ لِلْعَالِمِ أَنْ يَذْكُرَ لِلظَّالِمِ تَأْوِيلًا أَوْ رُخْصَةً يَتَمَادَى مِنْهَا إِلَى الْمَفْسَدَةِ كَمَنْ يَذْكُرُ لِلظَّالِمِ مَا قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْإِحْيَاءِ» مِنْ أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ إِذَا ضَعُفَ وَاضْطُرَّ السُّلْطَانُ إِلَى مَا يُجَهِّزُ بِهِ جُيُوشَ الْمُسْلِمِينَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُوَظِّفَ عَلَى النَّاسِ الْعُشْرَ أَوْ غَيْرَهُ لِإِقَامَةِ الْجَيْشِ وَسَدِّ الْخَلَّةِ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ وَذِكْرُ هَذِهِ الْمَظْلَمَةِ مِمَّا يُحْدِثُ ضَرَرًا فَادِحًا فِي النَّاسِ. وَقَدْ سَأَلَ سُلْطَانُ قُرْطُبَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدَّاخِلُ يَحْيَى بن يحيى اليثي عَنْ يَوْمٍ أَفْطَرَهُ فِي رَمَضَانَ عَامِدًا غَلَبَتْهُ الشَّهْوَةُ عَلَى قُرْبَانِ بَعْضِ جَوَارِيهِ فِيهِ فَأَفْتَاهُ بِأَنَّهُ يَصُومُ سِتِّينَ يَوْمًا وَالْفُقَهَاءُ حَاضِرُونَ مَا اجْتَرَءُوا عَلَى مُخَالَفَةِ يَحْيَى فَلَمَّا خَرَجُوا سَأَلُوهُ لِمَ خَصَصْتَهُ بِأَحَدِ الْمُخَيَّرَاتِ فَقَالَ لَوْ فَتَحْنَا لَهُ هَذَا الْبَابَ لَوَطِئَ كُلَّ يَوْمٍ وَأَعْتَقَ أَوْ أَطْعَمَ فَحَمَلْتُهُ عَلَى الْأَصْعَبِ لِئَلَّا يَعُودَ اه.
قُلْتُ فَهُوَ فِي كَتْمِهِ عَنْهُ الْكَفَّارَتَيْنِ الْمُخَيَّرِ فِيهِمَا قَدْ أَعْمَلَ دَلِيلَ دَفْعِ مَفْسَدَةِ الْجُرْأَةِ عَلَى حُرْمَةِ فَرِيضَةِ الصَّوْمِ.
فَالْعَالِمُ إِذَا عُيِّنَ بِشَخْصِهِ لِأَنْ يُبَلِّغَ عِلْمًا أَوْ يُبَيِّنَ شَرْعًا وَجَبَ عَلَيْهِ بَيَانُهُ مِثْلَ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِبْلَاغِ كُتُبِهِ أَوْ لِدَعْوَةِ قَوْمِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا بِشَخْصِهِ فَهُوَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا يَعْلَمُهُ قَدِ احْتَاجَتِ الْأُمَّةُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ مِنْهُ خَاصَّةً بِحَيْثُ يَتَفَرَّدُ بِعِلْمِهِ فِي صُقْعٍ أَوْ بَلَدٍ حَتَّى يَتَعَذَّرَ عَلَى أُنَاسٍ طَلَبُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ يَتَعَسَّرُ بِحَيْثُ إِنْ لَمْ يُعَلِّمْهَا إِيَّاهُ ضَلَّتْ مِثْلُ التَّوْحِيدِ وَأُصُولِ الِاعْتِقَادِ، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَيَانُهُ وُجُوبًا مُتَعَيِّنًا عَلَيْهِ إِنِ انْفَرَدَ بِهِ فِي عَصْرٍ أَوْ بَلَدٍ، أَوْ كَانَ هُوَ أَتْقَنَ لِلْعِلْمِ فَقَدْ
رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: «إِنَّ النَّاسَ لَكُمْ تَبَعٌ وَإِنَّ رِجَالًا يَأْتُونَكُمْ يَتَفَهَّمُونَ أَوْ يَتَعَلَّمُونَ فَإِذَا
جَاءُوكُمْ فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا»
. وَإِنْ شَارَكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ أَمْثَالِهِ كَانَ وُجُوبُهُ عَلَى جَمِيعِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا يُعَلِّمُهُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ وَفَوَائِدِهَا الَّتِي تَنْفَعُ النَّاسَ أَوْ طَائِفَةً مِنْهُمْ، فَإِنَّمَا
يَجِبُ عَلَيْهِ عَيْنًا أَوْ كِفَايَةً عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ أَنْ يُبَيِّنَ مَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى بَيَانِهِ، وَمِمَّا يُعَدُّ قَدْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى بَيَانِهِ أَنْ تُعَيَّنَ لَهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ لِيُعَلِّمَهُمْ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ مَا يَرَى أَنَّ فِي عِلْمِهِمْ بِهِ مَنْفَعَةً لَهُمْ وَقُدْرَةً عَلَى فَهْمِهِ وَحُسْنِ وَضْعِهِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْعَالِمِ إِذَا جَلَسَ إِلَيْهِ النَّاسُ لِلتَّعَلُّمِ أَنْ يُلْقِيَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَهُمْ مَقْدِرَةٌ عَلَى تَلَقِّيهِ وَإِدْرَاكِهِ، فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْكِتْمَانَ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ وَأَنَّ أَعْلَاهَا مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، وَبَقِيَّةُ الْمَرَاتِبِ تُؤْخَذُ بِالْمُقَايَسَةِ، وَهَذَا يَجِيءُ أَيْضًا فِي جَوَابِ الْعَالِمِ عَمَّا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنَ الْمَسَائِلِ فَإِنْ كَانَ قَدِ انْفَرَدَ بِذَلِكَ أَوْ كَانَ قَدْ عُيِّنَ لِلْجَوَابِ مِثْلُ مَنْ يُعَيَّنُ لِلْفَتْوَى فِي بَعْضِ الْأَقْطَارِ فَعَلَيْهِ بَيَانُهُ إِذَا عَلِمَ احْتِيَاجَ السَّائِلِ وَيَجِيءُ فِي انْفِرَادِهِ بِالْعِلْمِ أَوْ تَعْيِينِهِ لِلْجَوَابِ وَفِي عَدَمِ انْفِرَادِهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِي الْوُجُوبِ الْعَيْنِيِّ وَالْوُجُوبِ الْكِفَائِيِّ.
وَفِي غَيْرِ هَذَا فَهُوَ فِي خيرة أَو يُجِيبَ أَوْ يَتْرُكَ. وَبِهَذَا يَكُونُ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الَّذِي
رَوَاهُ أَصْحَابُ «السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ» أَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
فَخَصَّصَ عُمُومَهُ فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ بِتَخْصِيصَاتٍ دَلَّتْ عَلَيْهَا الْأَدِلَّةُ قَدْ أَشَرْنَا إِلَى جُمَاعِهَا. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ سَحْنُونٍ أَنَّ الْحَدِيثَ وَارِدٌ فِي كِتْمَانِ الشَّاهِدِ بِحَقِّ شَهَادَتِهِ.
وَالْعُهْدَةُ فِي وَضْعِ الْعَالِمِ نَفْسَهُ فِي الْمَنْزِلَةِ اللَّائِقَةِ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَنَازِلِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى مَا يَأْنَسُهُ مِنْ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ وَمَا يَسْتَبْرِئُ بِهِ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ.
وَالْعُهْدَةُ فِي مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الطَّالِبِينَ وَالسَّائِلِينَ عَلَيْهِ لِيُجْرِيَهَا عَلَى مَا يَتَعَيَّنُ إِجْرَاؤُهَا عَلَيْهِ مِنَ الصُّوَرِ عَلَى مَا يَتَوَسَّمُهُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَالْأَحْوَالِ الْمُحِيطَةِ بِهِمْ، فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي حَالِ نَفْسِهِ أَوْ حَالِ سَائِلِهِ فَلْيَسْتَشِرْ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ فِي الدِّينِ.
وَيَجِبُ أَنْ لَا يَغْفُلَ عَنْ حِكْمَةِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْهُدى حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ ضَابِطًا لِمَا يُفْضِي إِلَيْهِ كِتْمَانُ مَا يُكْتَمُ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ أَيْ فَهُمْ لَا تَلْحَقُهُمُ اللَّعْنَةُ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ مَنْصُوبٌ عَلَى تَمَامِ الْكَلَامِ مِنَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا إِلَخْ.
وَشَرْطٌ لِلتَّوْبَةِ أَنْ يُصْلِحُوا مَا كَانُوا أَفْسَدُوا وَهُوَ بِإِظْهَارِ مَا كَتَمُوهُ وَأَنْ يُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ