المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة البقرة (2) : الآيات 200 إلى 202] - التحرير والتنوير - جـ ٢

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 142]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 143]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 144]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 145]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 146]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 147]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 148]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 149 إِلَى 150]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 151]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 152]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 153 إِلَى 154]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 155 إِلَى 157]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 158]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 159 إِلَى 160]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 161 إِلَى 162]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 163]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 164]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 165]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 166 إِلَى 167]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 168 إِلَى 169]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 170]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 171]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 172]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 173]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 174]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 175]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 176]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 177]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 178]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 179]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 180]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 181]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 182]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 183 الى 184]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 185]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 186]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 187]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 188]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 189]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 190]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 191]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 192]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 193]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 194]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 195]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 196]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 197]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 198]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 199]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 200 إِلَى 202]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 203]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 204 إِلَى 206]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 207]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 208 إِلَى 209]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 210]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 211]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 212]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 213]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 214]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 215]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 216]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 217]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 218]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 219]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 220]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 221]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 222]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 223]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 224]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 225]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 226 إِلَى 227]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 228]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 229]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 230]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 231]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 232]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 233]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 234]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 235]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 236 إِلَى 237]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 238]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 239]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 240]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 241]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 242]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 243 إِلَى 244]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 245]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 246]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 247]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 248]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 249 الى 251]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 252]

الفصل: ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 200 إلى 202]

فَقَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أَيْ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي يُفِيضُ مِنْهُ سَائِرُ النَّاسِ وَهُوَ مُزْدَلِفَةُ. وَعَبَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ كُلَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ فِي مُزْدَلِفَةَ، وَلَوْلَا مَا جَاءَ مِنَ الْحَدِيثِ لَكَانَ هَذَا التَّفْسِيرُ أَظْهَرَ لِتَكُونَ الْآيَةُ ذَكَرَتِ الْإِفَاضَتَيْنِ بِالصَّرَاحَةِ وَلِيُنَاسِبَ قَوْلَهُ بَعْدُ: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ [الْبَقَرَة: 200] .

وَقَوله: مِنْ رَبِّكُمْ عَطْفٌ عَلَى أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ كَمَا أَمَرَهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِقُرَيْشٍ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْوُقُوف بِعَرَفَة.

[200، 202]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 200 إِلَى 202]

فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202)

تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ [الْبَقَرَة: 199] لِأَنَّ تِلْكَ الْإِفَاضَةَ هِيَ الدَّفْعُ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى أَوْ لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَمِنًى هِيَ مَحَلُّ رَمْيِ الْجِمَارِ، وَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ عَاشِرِ ذِي الْحِجَّةِ فَأَمَرَتْ بِأَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الرَّمْيِ ثُمَّ الْهَدْي بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ تَمَّ الْحَجُّ عِنْدَ ذَلِكَ، وَقُضِيَتْ مَنَاسِكُهُ.

وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَاجَّ لَا يَرْمِي يَوْمَ النَّحْرِ إِلَّا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الزَّوَالِ ثُمَّ يَنْحَرُ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَأْتِي الْكَعْبَةَ فَيَطُوفُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَقَدْ تَمَّ الْحَجُّ وَحَلَّ لِلْحَاجِّ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا قُرْبَانَ النِّسَاءِ.

وَالْمَنَاسِكُ جَمْعُ مَنْسَكٍ مُشْتَقٌّ مِنْ نَسَكَ نَسْكًا مِنْ بَابِ نَصَرَ إِذَا تَعَبَّدَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَرِنا مَناسِكَنا [الْبَقَرَة: 128] فَهُوَ هُنَا مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أَوْ هُوَ اسْمُ مَكَانٍ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: قَضَيْتُمْ لِئَلَّا نَحْتَاجَ إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ عِبَادَاتِ مَنَاسِكِكُمْ.

وَقَرَأَ الْجَمِيعُ مَناسِكَكُمْ بِفَكِّ الْكَافَيْنِ وَقَرَأَهُ السُّوسِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِإِدْغَامِهِمَا وَهُوَ الْإِدْغَامُ الْكَبِيرُ (1) .

(1) الْإِدْغَام يَنْقَسِم إِلَى كَبِير وصغير، فالكبير هُوَ مَا كَانَ فِيهِ المدغم والمدغم فِيهِ متحركين سَوَاء كَانَا مثلين أَو جِنْسَيْنِ أَو متقاربين، سمي بِهِ لِأَنَّهُ يسكن الأول ويدغم فِي الثَّانِي فَيحصل فِيهِ عملان فَصَارَ كبيراف. وَالصَّغِير هُوَ مَا كَانَ فِيهِ المدغم سَاكِنا فيدغم فِي الثَّانِي فَيحصل فِيهِ عمل وَاحِد وَلذَا سمي بِهِ. انْظُر «الإتقان» و «شرح الشاطبي» .

ص: 244

وَقَوْلُهُ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ أَعَادَ الْأَمْرَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ بِهِ وَبِالِاسْتِغْفَارِ تَحْضِيضًا عَلَيْهِ وَإِبْطَالًا لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِفُضُولِ الْقَوْلِ وَالتَّفَاخُرِ، فَإِنَّهُ يَجُرُّ إِلَى الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ، وَالْمَقْصِدُ أَنْ يَكُونَ الْحَاجُّ مُنْغَمِسًا فِي الْعِبَادَةِ فِعْلًا وَقَوْلًا وَاعْتِقَادًا.

وَقَوْلُهُ: كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ بَيَانٌ لِصِفَةِ الذِّكْرِ، فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ ذِكْرًا كَذِكْرِكُمْ إِلَخْ إِشَارَةً إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الِاشْتِغَالِ فِي أَيَّامِ مِنًى بِالتَّفَاخُرِ بِالْأَنْسَابِ وَمَفَاخِرِ أَيَّامِهِمْ، فَكَانُوا يَقِفُونَ بَيْنَ مَسْجِدِ مِنًى أَيْ مَوْضِعِهِ وَهُوَ مَسْجِدُ الْخَيْفِ وَبَيْنَ الْجَبَلِ (أَيْ جَبَلِ مِنًى الَّذِي مَبْدَؤُهُ الْعَقَبَةُ الَّتِي تُرْمَى بِهَا الْجَمْرَةُ) فَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ.

وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ» عَنِ السُّدِّيِّ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُومُ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ أَبِي كَانَ عَظِيمَ الْقُبَّةِ عَظِيمَ الْجَفْنَةِ كَثِيرَ الْمَالِ فَأَعْطِنِي مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُ، فَلَا يَذْكُرُ غَيْرَ أَبِيهِ وَذَكَرَ أَقْوَالًا

نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ.

وَالْمُرَادُ تَشْبِيهُ ذِكْرِ اللَّهِ بِذِكْرِ آبَائِهِمْ فِي الْكَثْرَةِ وَالتَّكْرِيرِ وَتَعْمِيرِ أَوْقَاتِ الْفَرَاغِ بِهِ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُؤْذِنُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ وَذِكْرِ الْآبَاءِ.

وَقَوْلُهُ: أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً أضلّ أَوْ أَنَّهَا لِلتَّخْيِيرِ وَلَمَّا كَانَ الْمَعْطُوفُ بِهَا فِي مِثْلِ مَا هُنَا أَوْلَى بِمَضْمُونِ الْفِعْلِ الْعَامِلِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَفَادَتْ (أَوْ) مَعْنًى مِنَ التَّدَرُّجِ إِلَى أَعْلَى، فَالْمَقْصُودُ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا، وَشُبِّهَ أَوَّلًا بِذِكْرِ آبَائِهِمْ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ يشتغلون فِي ذَلِك الْمَنَاسِكِ بِذِكْرٍ لَا يَنْفَعُ وَأَنَّ الْأَجْدَرَ بِهِمْ أَنْ يُعَوِّضُوهُ بِذِكْرِ اللَّهِ فَهَذَا تَعْرِيضٌ بِإِبْطَالِ ذِكْرِ الْآبَاءِ بِالتَّفَاخُرِ. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَابْنُ جِنِّيٍّ: إِنَّ (أَوْ) فِي مِثْلِ هَذَا لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ وَنَفَيَا اشْتِرَاطَ تَقَدُّمِ نَفْيٍ أَوْ شَبَهِهِ وَاشْتِرَاطَ إِعَادَةِ الْعَامِلِ. وَعَلَيْهِ خَرَجَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: 147] ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ مِنَ التَّشْبِيهِ أَوَّلًا إِظْهَارُ أَنَّ اللَّهَ حَقِيقٌ بِالذِّكْرِ هُنَالِكَ مِثْلَ آبَائِهِمْ ثُمَّ بَيَّنَ بِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ يَكُونُ أَشَدَّ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالذِّكْرِ.

وَ (أَشَدَّ) لَا يَخْلُو عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَصْدَرٍ مُقَدَّرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ تَقْدِيرُهُ: كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ فَتَكُونُ فَتْحَةُ أَشَدَّ الَّتِي فِي آخِرِهِ فَتْحَةَ نَصْبٍ، فَنَصْبُهُ بِالْعَطْفِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ كَذِكْرِكُمْ وَالتَّقْدِيرُ:

ص: 245

ذِكْرًا كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَنَصْبُ ذِكْراً يَظْهَرُ أَنَّهُ تَمْيِيزٌ لِأَشَدَّ، وَإِذْ قَدْ كَانَ (أَشَدَّ) وَصْفًا لِذِكْرٍ الْمُقَدَّرِ صَارَ مَآلُ التَّمْيِيزِ إِلَى أَنَّهُ تَمْيِيزُ الشَّيْءِ بِمُرَادِفِهِ وَذَلِكَ يُنَافِي الْقَصْدَ مِنَ التَّمْيِيزِ الَّذِي هُوَ لِإِزَالَةِ الْإِبْهَامِ، إِلَّا أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يَقَعُ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا قِلَّةً لَا تُنَافِي الْفَصَاحَةَ اكْتِفَاءً بِاخْتِلَافِ صُورَةِ اللَّفْظَيْنِ الْمُتَرَادِفَيْنِ، مَعَ إِفَادَةِ التَّمْيِيزِ حِينَئِذٍ تَوْكِيدَ الْمُمَيَّزِ كَمَا حَكَى سِيبَوَيْهَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هُوَ أَشَحُّ النَّاسِ رَجُلًا، وَهُمَا خَيْرُ النَّاسِ اثْنَيْنِ، وَهَذَا مَا دَرَجَ عَلَيْهِ الزَّجَّاجُ فِي «تَفْسِيرِهِ» ، قُلْتُ:

وَقَرِيبٌ مِنْهُ اسْتِعْمَالُ تَمْيِيزِ (نِعْمَ) توكيدا فِي قَوْله جَرِيرٍ:

تَزَوُّدْ مِثْلَ زَادِ أَبِيكَ فِينَا

فَنِعْمَ الزَّادُ زَادَ أَبِيكَ زَادَا

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُ أَشَدَّ عَلَى الْحَال من (ذكر) الْمُوَالِي لَهُ وَأَنَّ أَصْلَ أَشَدَّ نَعْتٌ لَهُ وَكَانَ نَظْمُ الْكَلَامِ: أَوْ ذِكْرًا أَشَدَّ، فَقَدَّمَ النَّعْتَ فَصَارَ حَالًا، وَالدَّاعِي إِلَى تَقْدِيمِ النَّعْتِ حِينَئِذٍ هُوَ الِاهْتِمَامُ بِوَصْفِ كَوْنِهِ أَشَدَّ، وَلِيَتَأَتَّى إِشْبَاعُ حَرْفِ الْفَاصِلَةِ عِنْدَ الْوَقْفِ عَلَيْهِ، وَلِيُبَاعِدْ مَا بَيْنَ كَلِمَاتِ الذِّكْرِ الْمُتَكَرِّرَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. أَوْ أَنْ يَكُونَ

(أَشَدَّ) مَعْطُوفًا على (ذكر) الْمَجْرُورِ بِالْكَافِ مِنْ قَوْلِهِ: كَذِكْرِكُمْ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا قِيلَ مِنِ امْتِنَاعِ الْعَطْفِ عَلَى الْمَجْرُورِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ النَّحْوِ، فَالْكُوفِيُّونَ لَا يَمْنَعُونَهُ وَوَافَقَهُمْ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِثْلَ ابْنِ مَالِكٍ وَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ [النِّسَاء: 1] بِجَرِّ الْأَرْحَامِ وَقَدْ أَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً فِي [سُورَةِ النِّسَاءِ: 77] أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ، وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ جَوَّزَهُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْجَرُّ بِالْإِضَافَةِ لَا بِالْحَرْفِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «إِيضَاحِ الْمُفَصَّلِ» ، وَعَلَيْهِ فَفَتْحَةُ أَشَدَّ نَائِبَةٌ عَنِ الْكَسْرَةِ، لِأَنَّ أَشَدَّ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَانْتِصَابُ ذِكْراً عَلَى التَّمْيِيزِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَالزَّجَّاجِ.

وَلِصَاحِبِ «الْكَشَّافِ» تَخْرِيجَانِ آخَرَانِ لِإِعْرَابِ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فِيهِمَا تَعَسُّفٌ دَعَاهُ إِلَيْهِمَا الْفِرَارُ مِنْ تَرَادُفِ التَّمْيِيزِ وَالْمُمَيَّزِ، وَلِابْنِ جِنِّي تَبَعًا لِشَيْخِهِ أَبِي عَلِيٍّ تَخْرِيجٌ آخَرُ، دَعَاهُ إِلَيْهِ مِثْلُ الَّذِي دَعَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَكَانَ تَخْرِيجُهُ أَشَدَّ تَعَسُّفًا ذَكَرَهُ عَنْهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي «الِانْتِصَافِ» ، وَسَلَكَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ غَرَائِبِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ، وَنَظِيرَتُهَا آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ، قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ

ص: 246

فِي «تَفْسِيرِهِ» «وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ طَوِيلَةٌ عَوِيصَةٌ مَا رَأَيْتُ مَنْ يَفْهَمُهَا مِنَ الشُّيُوخِ إِلَّا ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ وَابْنَ الْحُبَابِ وَمَا قَصَّرَ الطَّيْبِيُّ فِيهَا وَهُوَ الَّذِي كَشَفَ الْقِنَاعَ عَنْهَا هُنَا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي [سُورَةِ النِّسَاءِ: 77] يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَكَلَامُهُ فِي تِلْكَ الْآيَةِ هُوَ الَّذِي حَمَلَ التُّونِسِيِّينَ عَلَى نَسْخِهِ لِأَنِّي كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ لَمَّا قَدِمَ الْوَاصِلُ بِكِتَابِ الطَّيْبِيِّ فَقُلْتُ لَهُ: نَنْظُرُ مَا قَالَ: فِي أَشَدَّ خَشْيَةً فَنَظَّرْنَاهُ فَوَجَدْنَا فِيهِ زِيَادَةً عَلَى مَا قَالَ النَّاسُ فَحَضَّ الشَّيْخُ إِذْ ذَاكَ على نسخهَا اهـ» .

وَقَوْلُهُ: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِلَخ، الْفَاء للتفصيل لِأَن مَا بعْدهَا تَقْسِيم لفريقين من النَّاس المخاطبين بقوله: فَاذْكُرُوا اللَّهَ إِلَخْ فَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُونَ أَنَّ الذِّكْرَ يَشْمَلُ الدُّعَاءَ لِأَنَّهُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَخَاصَّةً فِي مَظَانِّ الْإِجَابَةِ مِنَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، لِأَنَّ الْقَاصِدِينَ لِتِلْكَ الْبِقَاعِ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ مَا يَقْصِدُونَ إِلَّا تَيَمُّنًا وَرَجَاءً فَكَانَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيرٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا وَادْعُوهُ، ثُمَّ أُرِيدُ تَفْصِيلُ الدَّاعِينَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَفَاوُتِ الَّذِينَ تَجْمَعُهُمْ تِلْكَ الْمَنَاسِكُ، وَإِنَّمَا لم يفعل الذِّكْرَ الْأَعَمَّ مِنَ الدُّعَاءِ، لِأَنَّ الذِّكْرَ الَّذِي لَيْسَ بِدُعَاءٍ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ تَمْجِيدُ اللَّهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى

تَفْصِيلِهِ تَفْصِيلًا يُنَبِّهُ إِلَى مَا لَيْسَ بِمَحْمُودٍ، وَالْمُقَسَّمُ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعُ النَّاسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ تَحْجِيرِ الْحَجِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِآيَةِ بَرَاءَةَ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ لَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ هُمُ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يُهْمِلُونَ الدُّعَاءَ لِخَيْرِ الْآخِرَةِ مَا بَلَغَتْ بِهِمُ الْغَفْلَةُ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ التَّعْرِيضُ بِذَمِّ حَالَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ.

وَقَوْلُهُ: آتِنا تَرَكَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِتَنْزِيلِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ مَا لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِبَيَانِهِ أَيْ أَعْطِنَا عَطَاءً فِي الدُّنْيَا، أَوْ يُقَدَّرُ الْمَفْعُولُ بِأَنَّهُ الْإِنْعَامُ أَوِ الْجَائِزَةُ أَوْ مَحْذُوفٌ لِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: حَسَنَةً فِيمَا بَعْدُ، أَيْ آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً.

و «الخلاق» بِفَتْحِ الْخَاءِ الْحَظُّ مِنَ الْخَيْرِ وَالنَّفِيسُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَلَاقَةِ وَهِيَ الْجَدَارَةُ، يُقَالُ خَلُقَ بِالشَّيْءِ بِضَمِّ اللَّامِ إِذَا كَانَ جَدِيرًا بِهِ، وَلَمَّا كَانَ مَعْنَى الْجَدَارَةِ مُسْتَلْزِمًا نَفَاسَةَ مَا بِهِ الْجَدَارَةُ دَلَّ مَا اشْتُقَّ مِنْ مُرَادِفِهَا عَلَى النَّفَاسَةِ سَوَاءٌ قُيِّدَ بِالْمَجْرُورِ كَمَا هُنَا أَمْ أُطْلِقَ كَمَا

فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ خَلَاقَ لَهُ»

أَي من الْخَيْرِ وَقَوْلُ الْبُعَيْثِ بْنِ حُرَيْثٍ:

وَلَسْتُ وَإِنْ قُرِّبْتُ يَوْمًا بِبَائِعٍ

خَلَاقِي وَلَا دِينِي ابْتِغَاءَ التَّحَبُّبِ

ص: 247

وَجُمْلَةُ وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ مَنْ يَقُولُ فَهِيَ ابْتِدَائِيَّةٌ مِثْلُهَا، وَالْمَقْصُودُ: إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ هَذَا الْفَرِيقِ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ الْكُفَّارُ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَلَّا يَدْعُوا إِلَّا بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا إِذْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ الْآخِرَةَ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَالْمَعْنَى مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ فِي حَالِ كَوْنِهِ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَلَعَلَّ الْحَالَ لِلتَّعْجِيبِ.

وحَسَنَةً أَصْلُهَا صِفَةٌ لِفِعْلَةٍ أَوْ خَصْلَةٍ، فَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ وَنَزَّلَ الْوَصْفَ مَنْزِلَةَ الِاسْمِ مِثْلَ تَنْزِيلِهِمُ الْخَيْرَ مَنْزِلَةَ الِاسْمِ مَعَ أَنَّ أَصْلَهُ شَيْءٌ مَوْصُوفٌ بِالْخَيْرِيَّةِ، وَمِثْلُ تَنْزِيلِ صَالِحَةٍ مَنْزِلَةَ الِاسْمِ فِي قَوْلِ الْحُطَيْئَةِ:

كَيْفَ الْهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ

مِنْ آلِ لَأْمٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينِي

وَوَقَعَتْ حَسَنَةً فِي سِيَاقِ الدُّعَاءِ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ يُقْصَدُ بِهِ الْعُمُومُ كَقَوْلِ الْحَرِيرِيِّ:

يَا أَهْلَ ذَا الْمَغْنَى وُقِيتُمْ ضُرَّا

وَهُوَ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ بِحَسَبِ مَا يَصْلُحُ لَهُ كُلُّ سَائِلٍ مِنَ الْحَسَنَتَيْنِ.

وَإِنَّمَا زَادَ فِي الدُّعَاءِ وَقِنا عَذابَ النَّارِ لِأَنَّ حُصُولَ الْحَسَنَةِ فِي الْآخِرَةِ قَدْ يَكُونُ بَعْدَ عَذَابٍ مَا فَأُرِيدَ التَّصْرِيحُ فِي الدُّعَاءِ بِطَلَبِ الْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ.

وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرِيقِ الثَّانِي، وَالنَّصِيبُ: الْحَظُّ الْمُعْطَى لِأَحَدٍ فِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا وَوَزْنُهُ عَلَى صِيغَةِ فَعِيلٍ، وَلَمْ أَدْرِ أَصْلَ اشْتِقَاقِهِ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا إِذَا عَيَّنُوا الْحَظَّ لِأَحَدٍ يَنْصَبُ لَهُ وَيَظْهَرُ وَيَشْخَصُ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي «الْأَسَاسِ» وَالرَّاغِبِ فِي «مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ» أَوْ هُوَ اسْمٌ جَاءَ عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ وَلَمْ يُقْصَدْ مِنْهُ مَعْنَى فَاعِلٍ وَلَا مَعْنَى مَفْعُولٍ، وَإِطْلَاقُ النَّصِيبِ عَلَى الشِّقْصِ الْمُشَاعِ فِي قَوْلِهِمْ نَصِيبُ الشَّفِيعِ مَجَازٌ بِالْأَوَّلِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» فِي مَادَّةِ (كَفَلَ) أَنَّهُ لَا يُقَالُ هَذَا نَصِيبُ فُلَانٍ حَتَّى يَكُونَ قَدْ أُعِدَّ لِغَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ مُفْرَدًا فَلَا يُقَالُ نَصِيبٌ وَهَذَا غَرِيبٌ لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ سِوَى أَنَّ الْفَخْرَ نَقَلَ مِثْلَهُ عَنِ ابْنِ الْمُظَفَّرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها فِي [سُورَةِ النِّسَاءِ:

85] . وَوَقَعَ فِي كَلَامِ

ص: 248

الزَّجَّاجِ وَابْنِ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [الْأَنْعَام: 136] قَالَ الزَّجَّاجُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ جَعَلُوا لِلَّهِ نَصِيبًا وَلِشُرَكَائِهِمْ نَصِيبًا، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَوْلُهُمْ جَعَلَ مِنْ كَذَا وَكَذَا نَصِيبًا يَتَضَمَّنُ بَقَاءَ نَصِيبٍ آخَرَ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي حكم الأول اهـ.

وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِجَابَةِ دُعَاءِ الْمُسْلِمِينَ الدَّاعِينَ فِي تِلْكَ الْمَوَاقِفِ الْمُبَارَكَةِ إِلَّا أَنَّهُ وَعَدَ بِإِجَابَةِ شَيْءٍ مِمَّا دُعُوا بِهِ بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ أَحْوَالُهُمْ وَحِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِأَلَّا يَجُرَّ إِلَى فَسَادٍ عَامٍّ لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلِذَلِكَ نُكِّرَ (نَصِيبٌ) لِيَصْدُقَ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَأَمَّا إِجَابَةُ الْجَمِيعِ إِذَا حَصَلَتْ فَهِيَ أَقْوَى وَأَحْسَنُ. وكسبوا بِمَعْنَى طَلَبُوا، لِأَنَّ كَسَبَ بِمَعْنَى طَلَبَ مَا يَرْغَبُ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْكَسْبِ هُنَا الْعَمَل وبالنصيب نَصِيبُ الثَّوَابِ فَتَكُونُ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةً.

وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُشِيرٌ إِلَى النَّاسِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً لِلتَّنْبِيهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى أَنَّ اتِّصَافَهُمْ بِمَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ شَيْءٌ اسْتَحَقُّوهُ بِسَبَبِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِمَا قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ لَهُمْ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ بِالْآخِرَةِ فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ دُعَاءَ الْكَافِرِينَ فِي ضَلَالٍ.

وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ تَذْيِيلٌ قُصِدَ بِهِ تَحْقِيقُ الْوَعْدِ بِحُصُولِ الْإِجَابَةِ، وَزِيَادَةُ تَبْشِيرٍ لِأَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ، لِأَنَّ إِجَابَةَ الدُّعَاءِ فِيهِ سَرِيعَةُ الْحُصُولِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْحِسَابَ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى مُرَاعَاةِ الْعَمَلِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهِ.

وَالْحِسَابُ فِي الْأَصْلِ الْعَدُّ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى عَدِّ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُرَادُ الْجَزَاءُ عَلَيْهَا أَوْ قَضَاؤُهَا، فَصَارَ الْحِسَابُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْحَقِّ يُقَالُ حَاسَبَهُ أَيْ كَافَأَهُ أَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ حَقَّهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمَ الْحِسَابِ وَقَالَ تَعَالَى: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي [الشُّعَرَاء: 113] وَقَالَ جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً [النبأ: 36] أَيْ وِفَاقًا لِأَعْمَالِهِمْ، وَهَاهُنَا أَيْضًا أُرِيدَ بِهِ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ وَإِيصَالُ الْمَوْعُودِ بِهِ، فَاسْتِفَادَةُ التَّبْشِيرِ بِسُرْعَةِ حُصُولِ مَطْلُوبِهِمْ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ لِأَنَّ إِجَابَتَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ حِسَابِ اللَّهِ تَعَالَى عِبَادَهُ عَلَى مَا وَعَدَهُمْ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْعُمُومُ.

وَالْمَعْنَى فَإِذَا أَتْمَمْتُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مَنَاسِكَ حَجِّكُمْ فَلَا تَنْقَطِعُوا عَنْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ بِتَعْظِيمِهِ وَحَمْدِهِ، وَبِالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ لِتَحْصِيلِ خَيْرِ الدُّنْيَا وَخَيْرِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَشْتَغِلُوا بِالتَّفَاخُرِ،

ص: 249

فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ ذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ كَمَا كُنْتُمْ تَذْكُرُونَهُمْ بَعْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَكَمَا يَذْكُرُهُمُ الْمُشْرِكُونَ الْآنَ. وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ إِلَّا بِطَلَبِ خَيْرِ الدُّنْيَا وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْحَيَاةَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّكُمْ إِنْ سَأَلْتُمُوهُ أَعْطَاكُمْ نَصِيبًا مِمَّا سَأَلْتُمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ إِن اللَّهَ يُعَجِّلُ باستجابة دعائكم.

ص: 250