المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة البقرة (2) : آية 196] - التحرير والتنوير - جـ ٢

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 142]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 143]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 144]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 145]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 146]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 147]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 148]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 149 إِلَى 150]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 151]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 152]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 153 إِلَى 154]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 155 إِلَى 157]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 158]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 159 إِلَى 160]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 161 إِلَى 162]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 163]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 164]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 165]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 166 إِلَى 167]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 168 إِلَى 169]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 170]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 171]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 172]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 173]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 174]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 175]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 176]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 177]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 178]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 179]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 180]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 181]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 182]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 183 الى 184]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 185]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 186]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 187]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 188]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 189]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 190]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 191]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 192]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 193]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 194]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 195]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 196]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 197]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 198]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 199]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 200 إِلَى 202]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 203]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 204 إِلَى 206]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 207]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 208 إِلَى 209]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 210]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 211]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 212]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 213]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 214]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 215]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 216]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 217]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 218]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 219]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 220]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 221]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 222]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 223]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 224]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 225]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 226 إِلَى 227]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 228]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 229]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 230]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 231]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 232]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 233]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 234]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 235]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 236 إِلَى 237]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 238]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 239]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 240]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 241]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 242]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 243 إِلَى 244]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 245]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 246]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 247]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 248]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 249 الى 251]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 252]

الفصل: ‌[سورة البقرة (2) : آية 196]

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَحْسِنُوا الْإِحْسَانُ فِعْلُ النَّافِعِ الْمُلَائِمِ، فَإِذَا فَعَلَ فِعْلًا نَافِعًا مُؤْلِمًا لَا يَكُونُ مُحْسِنًا فَلَا تَقُولَ إِذَا ضَرَبْتَ رَجُلًا تَأْدِيبًا: أَحْسَنْتُ إِلَيْهِ وَلَا إِذَا جَارَيْتَهُ فِي مَلَذَّاتٍ مُضِرَّةٍ أَحْسَنْتُ إِلَيْهِ، وَكَذَا إِذَا فَعَلَ فِعْلًا مُضِرًّا مُلَائِمًا لَا يُسَمَّى مُحْسِنًا.

وَفِي حَذْفِ مُتَعَلِّقِ أَحْسِنُوا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِحْسَانَ مَطْلُوبٌ فِي كُلِّ حَالٍ وَيُؤَيِّدُهُ

قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»

. وَفِي الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَمْرِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمُعْتَدِي وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ هَاتِهِ الْأَحْوَالِ يُلَابِسُهَا الْإِحْسَانُ وَيَحُفُّ بِهَا، فَفِي الِاعْتِدَاءِ يَكُونُ الْإِحْسَانُ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ الْحُدُودِ وَالِاقْتِصَادِ فِي الِاعْتِدَاءِ وَالِاقْتِنَاعِ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الصَّلَاحُ الْمَطْلُوبُ، وَفِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ الْإِحْسَانُ بِالرِّفْقِ بِالْأَسِيرِ وَالْمَغْلُوبِ وَبِحِفْظِ أَمْوَالِ الْمَغْلُوبِينَ وَدِيَارِهِمْ مِنَ التَّخْرِيبِ وَالتَّحْرِيقِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ:«مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ» ، وَالْحَذَرُ مِنَ الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ إِحْسَانٌ.

وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تَذْيِيلٌ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْإِحْسَانِ، لِأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ عَبْدَهُ غَايَةُ مَا يَطْلُبُهُ النَّاسُ إِذْ مَحَبَّةُ اللَّهِ الْعَبْدَ سَبَبَ الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ دُنْيَا وَآخِرَةً، وَاللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ وَالْمُرَادُ الْمُحْسِنُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.

[196]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 196]

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196)

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ.

هَذَا عَوْدٌ إِلَى الْكَلَامِ عَلَى الْعُمْرَةِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها [الْبَقَرَة: 189] إِلَخْ وَمَا بَيْنَهُمَا اسْتِطْرَادٌ أَوِ اعْتِرَاضٌ، عَلَى أَنَّ عَطْفَ الْأَحْكَامِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ لِلْمُنَاسَبَةِ طَرِيقَةٌ قُرْآنِيَّةٌ فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَطْفًا عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا عَطْفَ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ.

وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ حِينَ صَدَّ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْبَيْتِ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، وَقَدْ كَانُوا نَاوِينَ الْعُمْرَةَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْحَجُّ،

ص: 216

فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ الْعُمْرَةُ وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْحَجُّ عَلَى وَجْهِ الْإِدْمَاجِ

تَبْشِيرًا بِأَنَّهُمْ سَيَتَمَكَّنُونَ مِنَ الْحَجِّ فِيمَا بَعْدُ، وَهَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ.

وَالْإِتْمَامُ إِكْمَالُ الشَّيْءِ وَالْإِتْيَانُ عَلَى بَقَايَا مَا بَقِيَ مِنْهُ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَهُ.

وَمِثْلُ هَذَا الْأَمْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِوَصْفِ فِعْلٍ يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ تَحْصِيلَ وَصْفٍ خَاصٍّ لِلْفِعْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ الْوَصْفُ كَالْإِتْمَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ أَيْ كَمِّلُوهُ إِنْ شَرَعْتُمْ فِيهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [الْبَقَرَة: 187] عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ [التَّوْبَة:

4] وَمِثْلُهُ أَنْ تَقُولَ: أَسْرِعِ السِّيَرَ لِلَّذِي يَسِيرُ سَيْرًا بَطِيئًا، وَثَانِيهِمَا أَنْ يَجِيءَ الْأَمْرُ بِوَصْفِ الْفِعْلِ مُرَادًا بِهِ تَحْصِيلُ الْفِعْلِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَة: 150]، وَذَلِكَ كَقَوْلِكَ: أَسْرِعِ السَّيْرَ فَادْعُ لِي فُلَانًا تُخَاطِبُ بِهِ مُخَاطَبًا لَمْ يَشْرَعْ فِي السَّيْرِ بَعْدُ، فَأَنْتَ تَأْمُرُهُ بِإِحْدَاثِ سَيْرٍ سَرِيعٍ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ:

«وَسِّعْ فَمَ الرَّكِيَّةِ، وَقَوْلُهُمْ: وَسِّعْ كُمَّ الْجُبَّةِ وَضَيِّقْ جَيْبَهَا» أَيْ أَوْجِدْهَا كَذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ التَّعْبِيرِ لَيْسَ بِكِنَايَةٍ وَلَا مَجَازٍ، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ بِمَجْمُوعِ شَيْئَيْنِ وَهُوَ أَقَلُّ لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ ابْتِدَاءً هُوَ الْحَدَثُ الَّذِي مِنْهُ مَادَّةُ تِلْكَ الصِّيغَةِ.

وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُ الِاسْتِعْمَالَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهِيَ أَمْرٌ بِإِكْمَالِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، بِمَعْنَى أَلَّا يَكُونَ حَجًّا وَعُمْرَةً مَشُوبَيْنِ بِشَغَبٍ وَفِتْنَةٍ وَاضْطِرَابٍ أَوْ هِيَ أَمْرٌ بِإِكْمَالِهِمَا وَعَدَمِ الرُّجُوعِ عَنْهُمَا بَعْدَ الْإِهْلَالِ بِهِمَا وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنْهُمَا شَنَآنُ الْعَدُوِّ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهِيَ أَمْرٌ بِالْإِتْيَانِ بِهِمَا تَامَّيْنِ أَيْ مُسْتَكْمِلَيْنِ مَا شُرِعَ فِيهِمَا.

وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَنْسَبُ بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَكَأَنَّ هَذَا التَّحْرِيضَ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ هُنَا هُمَا الصَّرُورَةُ فِي الْحَجِّ وَكَذَا فِي الْعُمْرَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِهَا.

وَاللَّامُ فِي (الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ) لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، وَهُمَا عِبَادَتَانِ مَشْهُورَتَانِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ مُتَمَيِّزَتَانِ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَجْنَاسِ، فَالْحَجُّ هُوَ زِيَارَةُ الْكَعْبَةِ فِي مَوْسِمٍ مُعَيَّنٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، لِلْجَمَاعَةِ وَفِيهِ وُقُوفُ عَرَفَةَ، وَالْعُمْرَةُ زِيَارَةُ الْكَعْبَةِ فِي غَيْرِ مَوْسِمٍ مُعَيَّنٍ وَهِيَ لِكُلِّ فَرْدٍ بِخُصُوصِهِ.

وَأَصْلُ الْحَجِّ فِي اللُّغَةِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا تَكَرُّرُ الْقَصْدِ إِلَى الشَّيْءِ أَوْ كَثْرَةُ قَاصِدِيهِ.

وَعَنِ

ص: 217

ابْنِ السِّكِّيتِ: الْحَجُّ كَثْرَةُ الِاخْتِلَافِ وَالتَّرَدُّدِ يُقَالُ حَجَّ بَنُو فُلَانٍ فُلَانًا أَطَالُوا الِاخْتِلَافَ إِلَيْهِ وَفِي «الْأَسَاسِ» : فُلَانٌ تَحُجُّهُ الرِّفَاقُ أَي تقصده اهـ. فَجَعَلَهُ مُفِيدًا بِقَصْدٍ مِنْ جَمَاعَةٍ كَقَوْلِ الْمُخَبَّلِ السَّعْدِيِّ وَاسْمُهُ الرَّبِيعُ:

وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً

يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرَقَانِ الْمُزَعْفَرَا

وَالْحَجُّ مِنْ أَشْهُرِ الْعِبَادَاتِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهُوَ مِمَّا وَرِثُوهُ عَنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام كَمَا حَكَى اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الْحَج: 27] الْآيَةَ حَتَّى قِيلَ: إِنَّ الْعَرَبَ هُمْ أَقْدَمُ أُمَّةٍ عُرِفَتْ عِنْدَهَا عَادَةُ الْحَجِّ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ زِيَارَةَ الْكَعْبَةِ سَعْيٌ لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ النَّابِغَةُ يَصِفُ الْحَجِيجَ وَرَوَاحِلَهُمْ:

عَلَيْهِنَّ شُعْثٌ عَامِدُونَ لِرَبِّهِمْ

فَهُنَّ كَأَطْرَافِ الْحَنِيِّ خَوَاشِعُ

وَكَانُوا يَتَجَرَّدُونَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ مِنْ مَخِيطِ الثِّيَابِ وَلَا يَمَسُّونَ الطِّيبَ وَلَا يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ وَلَا يَصْطَادُونَ، وَكَانَ الْحَجُّ طَوَافًا بِالْبَيْتِ وَسَعْيًا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَوُقُوفًا بِعَرَفَةَ وَنَحْرًا بِمِنًى. وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ لَا يَأْكُلُ مُدَّةَ الْحَجِّ أَقْطًا وَلَا سَمْنًا- أَيْ لِأَنَّهُ أَكْلُ الْمُتَرَفِّهِينَ- وَلَا يَسْتَظِلُّ بِسَقْفٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحُجُّ مُتَجَرِّدًا مِنَ الثِّيَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَظِلُّ مِنَ الشَّمْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحُجُّ صَامِتًا لَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَهُمْ فِي الْحَجِّ مَنَاسِكُ وَأَحْكَامٌ ذَكَرْنَاهَا فِي «تَارِيخِ الْعَرَبِ» .

وَكَانَ لِلْأُمَمِ الْمُعَاصِرَةِ لِلْعَرَبِ حُجُوجٌ كَثِيرَةٌ، وَأَشْهَرُ الْأُمَمِ فِي ذَلِكَ الْيَهُودُ فَقَدْ كَانُوا يَحُجُّونَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ تَابُوتُ الْعَهْدِ أَيْ إِلَى هَيْكَلِ (أُورْشَلِيمَ) وَهُوَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي السَّنَةِ لِيَذْبَحُوا هُنَاكَ فَإِنَّ الْقَرَابِينَ لَا تَصِحُّ إِلَّا هُنَاكَ وَمِنْ هَذِهِ الْمَرَّاتِ مَرَّةٌ فِي عِيدِ الْفِصْحِ.

وَاتَّخَذَتِ النَّصَارَى زِيَارَاتٍ كَثِيرَةٍ، حَجًّا، أَشْهَرُهَا زِيَارَاتُهُمْ لِمَنَازِلِ وِلَادَةِ عِيسَى عليه السلام وَزِيَارَةِ (أُورْشَلِيمَ) ، وَكَذَا زِيَارَةُ قَبْرِ (مَارْبُولِسْ) وَقَبْرِ (مَارْبُطْرُسْ) بِرُومَةَ، وَمِنْ حَجِّ النَّصَارَى الَّذِي لَا يَعْرِفْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ أَقْدَمُ حَجِّهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ يَحُجُّونَ إِلَى مَدِينَةِ (عَسْقَلَانَ) مِنْ بِلَادِ السَّوَاحِلِ الشَّامِيَّةِ، وَالْمَظْنُونُ أَنَّ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا حَجَّهَا هُمْ نَصَارَى الشَّامِ مِنَ الْغَسَاسِنَةِ لِقَصْدِ صَرْفِ النَّاسِ عَنْ زِيَارَةِ الْكَعْبَةِ وَقَدْ ذَكَرَهُ سُحَيْمٌ عَبْدُ بَنِي الْحِسْحَاسِ وَهُوَ مِنَ الْمُخَضْرَمِينَ فِي قَوْلِهِ يَصِفُ وُحُوشًا جَرَفَهَا السَّيْلُ:

كَأَنَّ الْوُحُوشَ بِهِ عَسْقَلَا

نُ صَادَفْنَ فِي قَرْنِ حَجٍّ ذِيَافَا

ص: 218

أَيْ أَصَابَهُنَّ سُمٌّ فَقَتَلَهُنَّ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ.

وَقَدْ كَانَ لِلْمِصْرِيِّينَ وَالْكِلْدَانِ حَجٌّ إِلَى الْبُلْدَانِ الْمُقَدَّسَةِ عِنْدَهُمْ، وَلِلْيُونَانِ زِيَارَاتٌ كَثِيرَةٌ لِمَوَاقِعَ مُقَدَّسَةٍ مِثْلَ أُولُمْبِيَا وَهَيْكَلِ (زِفِسْ) وَلِلْهُنُودِ حُجُوجٌ كَثِيرَةٌ.

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِتْمَامُ الْعُمْرَةِ الَّتِي خَرَجُوا لِقَضَائِهَا، وَذِكْرُ الْحَجِّ مَعَهَا إِدْمَاجٌ (1) ، لِأَنَّ الْحَجَّ لَمْ يَكُنْ قَدْ وَجَبَ يَوْمَئِذٍ، إِذْ كَانَ الْحَجُّ بِيَدِ الْمُشْرِكِينَ فَفِي ذِكْرِهِ بِشَارَةٌ بِأَنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَصِيرَ فِي قَبْضَةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّعْمِيرِ وَهُوَ شَغْلُ الْمَكَانِ ضِدُّ الْإِخْلَاءِ وَلَكِنَّهَا بِهَذَا الْوَزْنِ لَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى زِيَارَةِ الْكَعْبَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ وَكَانُوا يَجْعَلُونَ مِيقَاتَهَا مَا عَدَا أَشْهُرَ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ وَصَفَرٍ، فَكَانُوا يَقُولُونَ «إِذَا بَرِئَ الدُّبُرُ، وَعَفَا الْأَثَرُ، وَخَرَجَ صَفَرٌ، حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرَ» وَلَعَلَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ لِتَكُونَ الْعُمْرَةُ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنَ الْحَجِّ وَإِرَاحَةِ الرَّوَاحِلِ.

وَاصْطَلَحَ الْمُضَرِيُّونَ عَلَى جَعْلِ رَجَبٍ هُوَ شَهْرُ الْعُمْرَةِ وَلِذَلِكَ حَرَّمَتْهُ مُضَرٌ فَلُقِّبَ بِرَجَبِ مُضَرٍ، وَتَبِعَهُمْ بَقِيَّةُ الْعَرَبِ، لِيَكُونَ الْمُسَافِرُ لِلْعُمْرَةِ آمِنًا مِنْ عَدُوِّهِ وَلِذَلِكَ لَقَّبُوا رَجَبًا (مُنْصِلَ الْأَسِنَّةِ) وَيَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فُجُورًا.

وَقَوْلُهُ لِلَّهِ أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَالْعَرَبُ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَنْوُونَ الْحَجَّ إِلَّا لِلَّهِ وَلَا الْعُمْرَةَ إِلَّا لَهُ، لِأَنَّ الْكَعْبَةَ بَيْتُ اللَّهِ وَحَرَمُهُ، فَالتَّقْيِيدُ هُنَا بِقَوْلِهِ لِلَّهِ تَلْوِيحٌ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لَيْسَا لِأَجْلِ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِيهِمَا مَنْفَعَةٌ وَكَانُوا هُمْ سَدَنَةَ الْحَرَمِ، وَهُمُ الَّذِينَ مَنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ، كَيْ لَا يَسْأَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْحَجِّ الَّذِي لَاقَوْا فِيهِ أَذَى الْمُشْرِكِينَ، فَقِيلَ لَهُمْ إِنَّ ذَلِكَ لَا يَصُدُّ عَنِ الرَّغْبَةِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِأَنَّكُمْ إِنَّمَا تَحُجُّونَ لِلَّهِ لَا لِأَجْلِ الْمُشْرِكِينَ وَلِأَنَّ الشَّيْءَ الصَّالِحَ الْمَرْغُوبَ فِيهِ إِذَا حَفَّ بِهِ مَا يكدره لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صَارِفًا عَنْهُ، بَلْ يَجِبُ إِزَالَةُ ذَلِكَ الْعَارِضِ عَنْهُ، وَمِنْ طُرُقِ إِزَالَتِهِ الْقِتَالُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْآيَاتِ السَّابِقَةِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: لِلَّهِ لِتَجْرِيدِ النِّيَّةِ مِمَّا كَانَ يُخَامِرُ نَوَايَا النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى الْأَصْنَامِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا وَضَعُوا هُبَلًا عَلَى الْكَعْبَةِ وَوَضَعُوا إِسَافًا وَنَائِلَةَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَدْ أَشْرَكُوا بِطَوَافِهِمْ وَسَعْيِهِمُ الْأَصْنَامَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ يَكُونُ الْقَصْدُ مِنْ هَذَا التَّقْيِيدِ كِلْتَا الْفَائِدَتَيْنِ.

(1) فِي «كشاف اصْطِلَاحَات الْفُنُون» للتهانوي، مَادَّة إدماج، ج (1/ 464) : الإدماج فِي اصْطِلَاح يهل البديع: أَن يضمن كَلَام سيق لمعنء» ، معنى آخر، وَهَذَا الْمَعْنى الآخر يجب أَن لَا يكون مُصَرحًا بِهِ وَلَا يكون فِي الْكَلَام إِشْعَار بِأَنَّهُ مسوق لأَجله.

ص: 219

وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ حُجَّةٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ وَلَا الْعُمْرَةِ وَلَكِنْ دَلِيلُ حُكْمِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عِنْدَهُمَا غَيْرُ هَذِهِ الْآيَة، وَعَلِيهِ فمجمل الْآيَةِ عِنْدَهُمَا عَلَى وُجُوبِ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ لِمَنْ أَحْرَمَ لَهُمَا، فَأَمَّا مَالِكٌ فَقَدْ عَدَّهُمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَجِبُ بِالشُّرُوعِ فِيهَا وَهِيَ سَبْعُ عِبَادَاتٍ عِنْدَنَا هِيَ الصَّلَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالِاعْتِكَافُ، وَالْحَجُّ، وَالْعمْرَة، وَالطّواف، والائتمام، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ أَوْجَبَ النَّوَافِلَ كُلَّهَا بِالشُّرُوعِ.

وَمَنْ لَمْ يَرَ وُجُوبَ النَّوَافِلِ بِالشُّرُوعِ وَلَمْ يَرَ الْعُمْرَةَ وَاجِبَةً يَجْعَلُ حُكْمَ إِتْمَامِهَا كَحُكْمِ أَصْلِ الشُّرُوعِ فِيهَا وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْإِتْمَامِ فِي الْآيَةِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنَ الطَّلَبِ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرَائِنِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَرَأَ، (وَالْعُمْرَةُ) بِالرَّفْعِ حَتَّى لَا تَكُونَ فِيمَا شَمَلَهُ الْأَمْرُ بِالْإِتْمَامِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ فَيُخْتَصُّ بِالْحَجِّ.

وَجَعَلَهَا الشَّافِعِيَّةُ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ الْعُمْرَةِ كَالْحَجِّ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ لَهُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِإِتْمَامِهَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْإِتْمَامِ مُرَادًا بِهِ الْإِتْيَانُ بِهِمَا تَامَّيْنِ أَيْ مُسْتَجْمِعِي الشَّرَائِطِ وَالْأَرْكَانِ، فَالْمُرَادُ بِالْإِتْمَامِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ عَلَى أَحَدِ الِاسْتِعْمَالَيْنِ السَّابِقَيْنِ، قَالُوا: إِذْ لَيْسَ هُنَا كَلَامٌ عَلَى الشُّرُوعِ حَتَّى يُؤْمَرَ بِالْإِتْمَامِ، وَلِأَنَّهُ مَعْضُودٌ بِقِرَاءَةِ «وَأَقِيمُوا الْحَجَّ» وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِتْمَامِ هُنَا الْإِتْيَانَ عَلَى آخِرِ الْعِبَادَةِ فَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالشُّرُوعِ، لِأَنَّ الْإِتْمَامَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الشُّرُوعِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْإِتْمَامِ كِنَايَةً عَنِ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ.

وَالْحَقُّ أَنَّ حَمْلَ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ بِأَصْلِ الْمَاهِيَّةِ لَا بِصِفَتِهَا اسْتِعْمَالٌ قَلِيلٌ كَمَا عَرَفْتَ، وَقِرَاءَةُ:«وَأَقِيمُوا» لِشُذُوذِهَا لَا تَكُونُ دَاعِيًا لِلتَّأْوِيلِ، وَلَا تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ خَبَرِ الْآحَادِ، إِذَا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهَا إِلَى مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ وَأَمَّا عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ التَّكَنِّيَ بِالْإِتْمَامِ عَنْ إِيجَابِ الْفِعْلِ مصير إِلَى خلال الظَّاهِرِ مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِلْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنَى: إِذَا شَرَعْتُمْ فَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَيَكُونُ مِنْ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ وَيَكُونُ حَقِيقَةً وَإِيجَازًا بَدِيعًا، وَهُوَ الَّذِي يُؤْذِنُ بِهِ السِّيَاقُ كَمَا قَدَّمْنَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا نَوَوُا الْعُمْرَةَ، عَلَى أَنَّ شَأْنَ إِيجَابِ الْوَسِيلَةِ بِإِيجَابِ الْمُتَوَسِّلِ إِلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْمَنْصُوصُ عَلَى وُجُوبِهِ هُوَ الْمَقْصِدَ فَكَيْفَ

يَدَّعِي الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ أَتِمُّوا هَنَا مُرَادٌ مِنْهُ إِيجَابُ الشُّرُوعِ، لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ كَمَا أَشَارَ لَهُ الْعِصَامُ.

ص: 220

فَالْحَقُّ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ دَلِيلًا لِحُكْمِ الْعُمْرَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِهَا: فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ قَالَ مَالِكٌ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَخَّصَ فِي تَرْكِهَا وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ جَابِرِ ابْن عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالنَّخَعِيِّ مِنَ التَّابِعِينَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ الْجَهْمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى وُجُوبِهِمَا، وَبِه قَالَ عَمْرو ابْن عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الصَّحَابَة وَعَطَاء، وطاووس، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو بُرْدَةَ، وَمَسْرُوقٌ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.

وَدَلِيلُنَا

حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ مِثْلَ الْحَجِّ فَقَالَ:

لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرُوا فَهُوَ أَفْضَلُ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ

، لِأَن عِبَادَةً مِثْلَ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَأَمَرَ بِهَا النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَثْبُتُ وُجُوبُهَا بِتَلْفِيقَاتٍ ضَعِيفَةٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:

لَوْلَا التَّحَرُّجُ وَأَنِّي لَمْ أَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَقُلْتُ: الْعمرَة وَاجِبَة اهـ مَحَلُّ الِاحْتِجَاجِ قَوْلُهُ: لَمْ أَسْمَعْ إِلَخْ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمرَان: 97] وَلَمْ يَذْكُرِ الْعُمْرَةَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ عِبَادَتَانِ وَاجَبَتَانِ هُمَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ. وَلِأَنَّ شَأْنَ الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ أَنْ تَكُونَ مُؤَقَّتَةً.

وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا أَيْضًا

بِحَدِيثِ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ»

وَحَدِيثِ جِبْرِيلَ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَلم يذكر فيهمَا الْعُمْرَةَ،

وَحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ: «لَا أَزْيَدُ وَلَا أَنْقُصُ: فَقَالَ: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ»

وَلَمْ يَذْكُرِ الْعُمْرَةَ وَلَمْ يَحْتَجَّ الشَّافِعِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، إِذْ قُرِنَتْ فِيهَا مَعَ الْحَجِّ، وَبِقَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَبِالِاحْتِيَاطِ.

وَاحْتَجَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَنْعِ التَّمَتُّعِ وَهُوَ الْإِحْرَامُ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ الْحِلِّ مِنْهَا فِي مُدَّةِ الْحَجِّ ثُمَّ الْحَجِّ فِي عَامَّةِ ذَلِكَ قَبْلَ الرُّجُوعِ إِلَى بَلَدِهِ،

فَفِي الْبُخَارِيِّ أَخْرَجَ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَوْمٍ بِالْيَمَنِ فَجِئْتُ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ (عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ) فَقَالَ: بِمَ أَهْلَلْتَ؟ فَقُلْتُ: أَهْلَلْتُ كَإِهْلَالِ النَّبِيءِ قَالَ: أَحْسَنْتَ هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْيٍ! قُلْتُ: لَا، فَأَمَرَنِي فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وبالصفا والمروة ثُمَّ أَمَرَنِي فَأَحْلَلْتُ فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَّطَتْنِي أَوْ غَسَلَتْ رَأْسِي، ثُمَّ أَهَلَلْتُ بِالْحَجِّ فَكُنْتُ أُفْتِي النَّاسَ بِهِ حَتَّى خِلَافَةِ عُمَرَ فَذَكَرْتُهُ لَهُ فَقَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ، قَالَ تَعَالَى:

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيُ

مَحِلَّهُ

، يُرِيدُ عُمَرُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ أَبَا مُوسَى أَهَّلَ بِإِهْلَالٍ النَّبِيءِ صَلَّى اللَّهُ

ص: 221

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّبِيءُ كَانَ مُهِلًّا بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا فَهُوَ قَارِنٌ وَالْقَارِنُ مُتَلَبِّسٌ بِحَجٍّ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحِلَّ فِي أَثْنَاءِ حَجِّهِ وَتَمَسَّكَ بِفِعْلِ الرَّسُولِ عليه السلام أَنَّهُ كَانَ قَارنا وَلمن يُحِلَّ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ تَخْصِيصِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ كَمَا هُوَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ ابْنَةِ قَيْسٍ فِي النَّفَقَةِ.

وَقَوْلُهُ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ عَطْفٌ عَلَى أَتِمُّوا، وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ الذِّكْرِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ذَكَرَ حُكْمَ مَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ الْإِتْمَامِ.

وَلَا سِيَّمَا الْحَجِّ لِأَنَّ وَقْتَهُ يَفُوتُ غَالِبًا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْمَانِعِ، بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ.

وَالْإِحْصَارُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَنْعُ الذَّاتِ مِنْ فِعْلٍ مَا، يُقَالُ: أَحْصَرَهُ مَنْعَهُ مَانِعٌ قَالَ تَعَالَى:

لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 273] أَيْ مَنَعَهُمُ الْفَقْرُ مِنَ السَّفَرِ لِلْجِهَادِ وَقَالَ ابْنُ مَيَّادَةَ:

وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ

عَلَيْكَ وَلَا أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ

وَهُوَ فِعْلٌ مَهْمُوزٌ لَمْ تُكْسِبْهُ هَمْزَتُهُ تَعْدِيَةً، لِأَنَّهُ مُرَادِفُ حَصَرَهُ وَنَظِيرُهُمَا صَدَّهُ وَأَصَدَّهُ.

هَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، وَلَكِنْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ أَحْصَرَ الْمَهْمُوزِ فِي الْمَنْعِ الْحَاصِلِ مِنْ غَيْرِ الْعَدُوِّ، وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ حَصَرَ الْمُجَرَّدِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْعَدُوِّ، قَالَ: وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ [التَّوْبَة: 5] فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَيَيْنِ وَلَكِنَّ الِاسْتِعْمَالَ غَلَّبَ أَحدهمَا فِي أَحَدَهُمَا كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» ، وَمِنَ اللُّغَوِيِّينَ مَنْ قَالَ: أَحْصَرَ حَقِيقَةٌ فِي مَنْعِ غَيْرِ الْعَدُوِّ وَحصر حَقِيقَةٌ فِي مَنْعِ الْعَدُوِّ وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجِ، وَمِنَ اللُّغَوِيِّينَ مَنْ عَكَسَ وَهُوَ ابْنُ فَارِسٍ لَكِنَّهُ شَاذٌّ جِدًّا.

وَجَاءَ الشَّرْطُ بِحَرْفِ (إِنْ) لِأَنَّ مَضْمُونَ الشَّرْطِ كَرِيهٌ لَهُمْ فَأَلْقَى إِلَيْهِمُ الْكَلَامَ إِلْقَاءَ الْخَبَرِ الَّذِي يُشَكُّ فِي وُقُوعِهِ، وَالْمَقْصُودُ إِشْعَارُهُمْ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَيَمْنَعُونَهُمْ مِنَ الْعُمْرَةِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْإِحْصَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى نَحْوِ الِاخْتِلَافِ فِي الْوَضْعِ أَوْ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ الْإِحْصَارَ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى مَا يَعُمُّ الْمَنْعَ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى عَقِبَهُ: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْأَمْنُ مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ، وَأَنَّ هَذَا التَّعْمِيمَ فِيهِ قَضَاءُ حَقِّ الْإِيجَازِ فِي جَمْعِ أَحْكَامِ الْإِحْصَارِ ثُمَّ تَفْرِيقِهَا كَمَا سَأُبَيِّنُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا أَمِنْتُمْ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَرَاهُ مَالِكٌ رحمه الله، وَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجَّ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَلَى حُكْمِ الْإِحْصَارِ بِغَيْرِ عَدُوٍّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا

احْتَجَّ بِالسُّنَّةِ. وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أُرِيدَ بِهَا الْمَنْعُ الْحَاصِلُ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ دُونَ مَنْعِ الْعَدُوِّ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ الْإِحْصَارِ عَلَى هَذَا الْمَنْعِ هُوَ الْأَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ. وَلِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جَعَلَتْ عَلَى الْمَحْصَرِ هَدْيًا وَلَمْ تَرِدِ السُّنَّةُ بِمَشْرُوعِيَّةِ الْهَدْيِ فِيمَنْ حَصَرَهُ الْعَدُوُّ

ص: 222

أَيْ مَشْرُوعِيَّةِ الْهَدْيِ لِأَجْلِ الْإِحْصَارِ أَمَّا مَنْ سَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ فَعَلَيْهِ نُسُكُهُ لَا لِأَجْلِ الْإِحْصَارِ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ بِوُجُوبِ الْهَدْيِ عَلَى مَنْ أُحْصِرَ بِمَرَضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ كَسْرٍ مِنْ كُلِّ مَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَقِفَ الْمَوْقِفَ مَعَ النَّاسِ مَعَ وُجُوبِ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ عِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ مِنْ قَابِلٍ لِمَا فِي «الْمُوَطَّأِ» مِنْ حَدِيثِ مَعْبَدِ بْنِ حُزَابَةَ الْمَخْزُومِيِّ أَنَّهُ صُرِعَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَسَأَلَ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ الزُّبَيْرِ وَمَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فَكُلُّهُمْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَدَاوَى وَيَفْتَدِيَ، فَإِذَا أَصَحَّ اعْتَمَرَ، فَحَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ ثُمَّ عَلَيْهِ حَجُّ قَابِلٍ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَمَرَ بِذَلِكَ أَبَا أَيُّوبَ وَهَبَّارَ بْنَ الْأَسْوَدِ حِينَ فَاتَهُمَا وُقُوفُ عَرَفَةَ، بِخِلَافِ حِصَارِ الْعَدُوِّ، وَاحْتَجَّ فِي «الْمُوَطَّأِ» بِأَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا مَنْ كَانَ مَعَهُ أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا وَلَا أَنْ يَعُودُوا لِشَيْءٍ، وَوَجَّهَ أَصْحَابُنَا ذَلِكَ بِالتَّفْرِقَةِ لِأَنَّ الْمَانِعَ فِي الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ مِنْ ذَاتِ الْحَاجِّ فَلِذَلِكَ كَانَ مُطَالَبًا بِالْإِتْمَامِ، وَأَمَّا فِي إِحْصَارِ الْعَدُوِّ فَالْمَانِعُ خَارِجِيٌّ، وَالْأَظْهَرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْآيَةَ وَإِنْ صَلُحَتْ لِكُلِّ مَنْعٍ لَكِنَّهَا فِي مَنْعِ غَيْرِ الْعَدُوِّ أَظْهَرُ وَقَدْ تَأَيَّدَتْ أَظْهَرِيَّتُهَا بِالسُّنَّةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا قَضَاءَ فِيهِمَا وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ لِلِاقْتِصَارِ عَلَى الْهَدْيِ وَهُوَ اقْتِصَارٌ عَلَى مَفْهُومِ الْآيَةِ وَمُخَالَفَةُ مَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كُلُّ مَنْعٍ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ فِيهِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ وَالْهَدْيِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ طَوَافٌ وَلَا سَعْيٌ بَعْدَ زَوَالِ عُذْرِهِ بَلْ إِنْ نَحَرَ هَدْيَهُ حَلَّ وَالْقَضَاءُ عَلَيْهِ. وَلَا يَلْزَمُهُ مَا يَقْتَضِيهِ حَدِيثُ الْحُدَيْبِيَةِ لِأَنَّ الْآيَةَ إِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ بَعْدَهُ فَعُمُومُهَا نَسَخَ خُصُوصَ الْحَدِيثِ، وَإِنْ نَزَلَتْ قَبْلَهُ فَهُوَ آحَادٌ لَا يُخَصِّصُ الْقُرْآنَ عِنْدَهُ، عَلَى أَنَّ حَدِيثَ الْحُدَيْبِيَةِ مُتَوَاتِرٌ لِأَنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ يَزِيدُونَ عَلَى عَدَدِ التَّوَاتُرِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ مِمَّا تَتَوَافَرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُرَادُ هُنَا مَنْعُ الْعَدُوِّ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فَإِذا أَمِنْتُمْ وَلِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ إِحْصَارُ عَدُوٍّ وَلِذَلِكَ أَوْجَبَ الْهَدْيَ عَلَى الْمُحْصِرِ أَمَّا مُحْصَرُ الْعَدُوِّ فَبِنَصِّ الْآيَةِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَبِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ. وَعَلَيْهِ: إِنْ زَالَ عُذْرُهُ فَعَلَيْهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيُ، وَلَمْ يَقُلْ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ وَلَا فِي الْحَدِيثِ.

وَقَوْلُهُ: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ جَوَابُ الشَّرْطِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَحَدِ رُكْنَيِ الْإِسْنَادِ

ص: 223

وَهُوَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ دُونَ الْمُسْنَدِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مِنَ الْهَدْيِ وَقَدَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» فَعَلَيْكُمْ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَدِّرَ فِعْلَ أَمْرٍ أَيْ فَاهْدُوا مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَكِلَا التَّقْدِيرَيْنِ دَالٌّ عَلَى وُجُوبِ الْهَدْيِ. وَوُجُوبُهُ فِي الْحَجِّ ظَاهِرٌ وَفِي الْعُمْرَةِ كَذَلِكَ بِأَنَّهَا مِمَّا يَجِبُ إِتْمَامُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِاتِّفَاقِ الْجُمْهُورِ.

وَ (اسْتَيْسَرَ) هُنَا بِمَعْنَى يَسُرَ فَالسِّينُ وَالتَّاء للتَّأْكِيد كاستعصب عَلَيْهِ بِمَعْنَى صَعُبَ أَيْ مَا أَمْكَنَ مِنَ الْهَدْيِ بِإِمْكَانِ تَحْصِيلِهِ وَإِمْكَانِ تَوْجِيهِهِ، فَاسْتَيْسَرَ هَنَا مُرَادٌ جَمِيعُ وُجُوهِ التَّيَسُّرِ.

وَالْهَدْيُ اسْمُ الْحَيَوَانِ الْمُتَقَرَّبِ بِهِ لِلَّهِ فِي الْحَجِّ فَهُوَ فِعْلٌ مِنْ أَهْدَى، وَقِيلَ هُوَ جَمْعُ هَدِيَّةٍ كَمَا جُمِعَتْ جَدِيَّةِ السَّرْجِ عَلَى جَدْيٍ (1) ، فَإِنْ كَانَ اسْما فَمن بَيَانِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ جمعا فَمن تَبْعِيضِيَّةٌ، وَأَقَلُّ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ مِنَ الْهَدْيِ الْغَنَمُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُبَيِّنْهُ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا، وَهَذَا الْهَدْيُ إِنْ كَانَ قَدْ سَاقَهُ قَاصِدُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعَهُ ثُمَّ أُحْصِرَ فَالْبَعْثُ بِهِ إِنْ أَمْكَنَ وَاجِبٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَهُ مَعَهُ فَعَلَيْهِ تَوْجِيهُهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي حُكْمِهِ مِنْ وُجُوبِهِ وَعَدَمِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَحْصِيلُ بَعْضِ مَصَالِحِ الْحَجِّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، فَإِذَا فَاتَتِ الْمَنَاسِكُ لَا يَفُوتُ مَا يَنْفَعُ فَقُرَاءَ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا.

وَقَوْلُهُ: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ الْآيَةَ بَيَانٌ لِمُلَازَمَةِ حَالَةِ الْإِحْرَامِ حَتَّى يَنْحَرَ الْهَدْيَ، وَإِنَّمَا خَصَّ النَّهْيَ عَنِ الْحَلْقِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ مُنَافَيَاتِ الْإِحْرَامِ كَالطِّيبِ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ وَيُعْلَمُ اسْتِمْرَارُ حُكْمِ الْإِحْرَامِ فِي الْبَقِيَّةِ بِدَلَالَةِ الْقِيَاسِ وَالسِّيَاقِ وَهَذَا مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ وَلَيْسَ بِكِنَايَةٍ عَنِ الْإِحْلَالِ لِعَدَمِ وُضُوحِ الْمُلَازَمَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَحْصِيلُ بَعْضِ مَا أَمْكَنَ مِنْ أَحْوَالِ الْمَنَاسِكِ وَهُوَ اسْتِبْقَاءُ الشَّعَثِ الْمَقْصُودِ فِي الْمَنَاسِكِ.

وَالْمَحِلُّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْحَاءِ مَكَانُ الْحُلُولِ أَوْ زَمَانِهِ يُقَالُ: حَلَّ بِالْمَكَانِ يَحِلُّ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَهُوَ مَقَامُ الشَّيْءِ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَبْلَغُهُ وَهُوَ ذَبْحُهُ لِلْفُقَرَاءِ، وَقِيلَ مَحِلُّهُ: هُوَ مَحِلُّ ذَبْحِ الْهَدَايَا وَهُوَ مِنًى وَالْأَوَّلُ قَوْلُ مَالِكٍ.

وَقَوْلُهُ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ الْآيَةَ، الْمُرَادُ مَرَضٌ يَقْتَضِي الْحَلْقَ سَوَاءٌ كَانَ الْمَرَضُ بِالْجَسَدِ أَمْ بِالرَّأْسِ، وَقَوْلُهُ: أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ كِنَايَةٌ عَنِ

الْوَسَخِ الشَّدِيدِ وَالْقَمْلِ، لِكَرَاهِيَةِ التَّصْرِيحِ بِالْقَمْلِ. وَكَلِمَةُ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ أَيْ أَذًى نَاشِئٌ عَنْ رَأْسِهِ.

(1) جدية السرج شَيْء محشو يَجْعَل تَحت دفتي السرج. [.....]

ص: 224

وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: «حُمِلْتُ إِلَى النَّبِيءِ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ مَا كُنْتُ أَرَى الْجُهْدَ قَدْ بَلَغَ بِكَ هَذَا، أَمَا تَجِدُ شَاةً؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ وَاحْلِقْ رَأْسَكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ

فِيَّ خَاصَّةً وَهِيَ لكم عَامَّة اهـ» وَمِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ تَرْكُ التَّصْرِيحِ بِمَا هُوَ مَرْذُولٌ مِنَ الْأَلْفَاظِ.

وَقَوْلُهُ: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ مَحْذُوفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِظُهُورِهِ أَيْ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى فَلْيَحْلِقْ رَأْسَهُ وَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ، وَقَرِينَةُ الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ وَقَدْ أَجْمَلَ اللَّهُ الْفِدْيَةَ وَمِقْدَارَهَا وَبَيَّنَهُ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ.

وَالنُّسُكُ بِضَمَّتَيْنِ وَبِسُكُونِ السِّينِ مَعَ تَثْلِيثِ النُّونِ الْعِبَادَةُ وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّبِيحَةِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا التَّعَبُّدُ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا مُشْتَقٌّ مِنْ نَسَكَ كَنَصَرَ وَكَرُمَ إِذَا عَبَدَ وَذَبَحَ لِلَّهِ وَسُمِّيَ الْعَابِدُ نَاسِكًا، وَأَغْلَبُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الذَّبِيحَةِ الْمُتَقَرَّبِ بِهَا إِلَى مَعْبُودٍ

وَفِي الْحَدِيثِ: «وَالْآخَرُ يَوْمٌ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ»

يَعْنِي الضَّحِيَّةَ.

فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.

الْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى أُحْصِرْتُمْ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَمْنِ زَوَالَ الْإِحْصَارِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ فُرِضَ الْحَجُّ، لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ التَّمَتُّعِ وَذِكْرَ صِيَامِ الْمُتَمَتِّعِ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي مُدَّةِ الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أُفُقِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَمَكُّنِهِمْ مِنْ فِعْلِ الْحَجِّ. وَالْفَاءُ لِمُجَرَّدِ التَّعْقِيبِ الذكري.

وَجِيء بإذا لِأَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ مَرْغُوبٌ فِيهِ، وَالْأَمْنُ ضِدُّ الْخَوْفِ، وَهُوَ أَيْضًا السَّلَامَةُ مِنْ كُلِّ مَا يُخَافُ مِنْهُ أَمِنَ كَفَرِحَ أَمْنًا، أَمَانًا، وَأَمْنًا، وَأَمَنَةً وَإِمْنًا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ قَاصِرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَأْمُونِ مِنْهُ فيتعدى بِمن تَقُولُ: أَمِنْتُ مِنَ الْعَدُوِّ، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْمَأْمُونِ تَقُولُ: أَمِنْتُ فُلَانًا إِذَا جَعَلْتَهُ آمِنًا مِنْكَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَمْنَ ضِدُّ الْخَوْفِ مِنَ الْعَدُوِّ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِمُتَعَلِّقِهِ وَفِي الْقُرْآنِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التَّوْبَة: 6] فَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ مُتَعَلِّقٌ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ الْخَوْفِ مِنَ الْقِتَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً [الْبَقَرَة: 126] .

ص: 225

وَهَذَا دَلِيلٌ على أَن الْمُرَادِ بِالْإِحْصَارِ فِيمَا تَقَدَّمَ مَا يَشْمَلُ مَنْعَ الْعَدُوِّ وَلِذَلِكَ قِيلَ (إِذَا أَمِنْتُمْ) وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا مَفْهُومَ لِلشَّرْطِ هُنَا لِأَنَّهُ خَرَجَ لِأَجْلِ حَادِثَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى حُكْمِ الْعُمْرَةِ، لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ الْأَمْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ جَاءُوا فِي عَامِ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مُعْتَمِرِينَ وَنَاوِينَ إِنْ مُكِّنُوا مِنَ الْحَجِّ أَنْ يَحُجُّوا، وَيُعْلَمُ حُكْمُ الْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ إِذَا زَالَ عَنْهُ الْمَانِعُ بِالْقِيَاسِ عَلَى حُكْمِ الْخَائِفِ.

وَقَوله: فَمن تمنع جَوَابُ (إِذَا) وَالتَّقْدِيرُ فَإِذَا أَمِنْتُمْ بَعْدَ الْإِحْصَارِ وَفَاتَكُمْ وَقْتُ الْحَجِّ وَأَمْكَنَكُمْ أَنْ تَعْتَمِرُوا فَاعْتَمِرُوا وَانْتَظرُوا الْحَج إِلَى عَامِ قَابِلٍ، وَاغْتَنِمُوا خَيْرَ الْعُمْرَةِ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ عِوَضًا عَنْ هَدْيِ الْحَجِّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ صَدْرَ الْآيَةِ أُرِيدَ بِهِ الْإِحْصَارُ الَّذِي لَا يَتَمَكَّنُ مَعَهُ الْمُحْصَرُ مِنْ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِذا أَمِنْتُمْ أُرِيدَ بِهِ حُصُولُ الْأَمْنِ مَعَ إِمْكَانِ الْإِتْيَانِ بِعُمْرَةٍ وَقَدْ فَاتَ وَقْتُ الْحَجِّ، أَيْ أَنَّهُ فَاتَهُ الْوَقْتُ وَلَمْ يَفُتْهُ مَكَانُ الْحَجِّ، وَيُعْلَمُ أَنَّ مَنْ أَمِنَ وَقَدْ بَقِيَ مَا يَسَعُهُ بِأَنْ يَحُجَّ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ.

وَمَعْنَى تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ انْتَفَعَ بِالْعُمْرَةِ عَاجِلًا، وَالِانْتِفَاعُ بِهَا إِمَّا بِمَعْنَى الِانْتِفَاعِ بِثَوَابِهَا، أَوْ بِسُقُوطِ وُجُوبِهَا إِنْ قِيلَ إِنَّهَا وَاجِبَةٌ مَعَ إِسْقَاطِ السَّفَرِ لَهَا إِذْ هُوَ قَدْ أَدَّاهَا فِي سَفَرِ الْحَجِّ، وَإِمَّا بِمَعْنَى الِانْتِفَاعِ بِالْحِلِّ مِنْهَا ثُمَّ إِعَادَةُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَانْتَفَعَ بِأَلَّا يَبْقَى فِي كُلْفَةِ الْإِحْرَامِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَهَذَا رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ أَبَاحَ الْعُمْرَةَ فِي مُدَّةِ الْحَجِّ بَعْدَ أَنْ كَانَ ذَلِكَ مَحْظُورًا فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَعْظَمِ الْفُجُورِ.

فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْعُمْرَةِ صِلَةُ فِعْلِ تَمَتَّعَ، وَقَوْلُهُ: إِلَى الْحَجِّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ معنى (إِلَى) تَقْدِيره مُتَرَبِّصًا إِلَى وَقْتِ الْحَجِّ أَوْ بَالِغًا إِلَى وَقْتِ الْحَجِّ أَيْ أَيَّامِهِ وَهِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ وَقَدْ فُهِمْ مِنْ كَلِمَةِ (إِلَى) أَنَّ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ زَمَنًا لَا يَكُونُ فِيهِ الْمُعْتَمِرُ مُحْرِمًا وَهُوَ الْإِحْلَالُ الَّذِي بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، فَعَلَيهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ لِأَجْلِ الْإِحْلَالِ الَّذِي بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ، وَهَذَا حَيْثُ لَمْ يَهْدِ وَقْتَ الْإِحْصَارِ فِيمَا أَرَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالْآيَةُ جَاءَتْ بِلَفْظِ التَّمَتُّعِ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ أَيْ الِانْتِفَاعِ وَأَشَارَتْ إِلَى مَا سَمَّاهُ الْمُسْلِمُونَ بِالتَّمَتُّعِ وَبِالْقِرَانِ وَهُوَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الَّتِي أَبْطَلَ بِهَا شَرِيعَةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَاسْمُ التَّمَتُّعِ يَشْمَلُهَا لَكِنَّهُ خَصَّ التَّمَتُّعَ بِأَنْ يُحْرِمَ الْحَاجُّ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يَحِلُّ مِنْهَا ثُمَّ

يَحُجُّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ قَبْلَ الرُّجُوعِ إِلَى أُفُقِهِ، وَخَصَّ الْقرَان بِأَن يقرن الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي إِهْلَالٍ وَاحِدٍ وَيَبْدَأَ فِي فِعْلِهِ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ يَحِلَّ مِنْهَا وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُرْدِفَ الْحَجَّ

ص: 226

عَلَى الْعُمْرَةِ كُلُّ ذَلِكَ شَرَعَهُ اللَّهُ رُخْصَةً لِلنَّاسِ، وَإِبْطَالًا لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ مَنْعِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَفَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْهَدْيَ جَبْرًا لِمَا كَانَ يَتَجَشَّمُهُ مِنْ مَشَقَّةِ الرُّجُوعِ إِلَى مَكَّةَ لِأَدَاءِ الْعُمْرَةِ كَمَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ تَمَتُّعًا.

وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي التَّمَتُّعِ وَفِي صِفَتِهِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهِ، وَأَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يُحْرِمُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَجَّةٍ فِي عَامِهِ ذَلِكَ، وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ لَا يَرَى التَّمَتُّعَ وَيَنْهَى عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ بِمِثْلِ مَا تَأَوَّلَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا، وَخَالَفَهُ عَلِيٌّ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ تَمَتَّعْنَا على عهد النَّبِي وَنَزَلَ الْقُرْآنُ ثُمَّ قَالَ رجل من بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ (يُرِيدُ عُثْمَانَ) ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَا يَرَى لِلْقَارِنِ إِذَا أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَبِحَجَّةٍ مَعًا وَتَمَّمَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ حَتَّى يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِ حَجِّهِ فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ إِنِّي جِئْتُ مِنَ الْيَمَنِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ بِمَكَّةَ مُحْرِمًا (أَيْ عَامَ الْوَدَاعِ) فَقَالَ لِي بِمَ أَهَلَلْتَ؟ قُلْتُ أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيءِ فَقَالَ لِي هَلْ مَعَكَ هَدْيٌ قُلْتُ لَا فَأَمَرَنِي فطفت وسعيت ثمَّ أَمرنِي فَأَحْلَلْتُ وَغَسَلْتُ رَأْسِي وَمَشَّطَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَلَمَّا حَدَّثَ أَبُو مُوسَى عُمَرَ بِهَذَا قَالَ عُمَرُ:«إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ يَأْمُرُنَا بِالْإِتْمَامِ وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ رَسُولِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيَ مَحِلَّهُ» ، وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ يُخَالِفُونَ رَأْيَ عُمَرَ وَيَأْخُذُونَ بِخَبَرِ أَبِي مُوسَى-

وَبِحَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ»

، وَقَدْ يَنْسِبُ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى عُمَرَ أَنَّهُ لَا يَرَى جَوَازَ التَّمَتُّعِ وَهُوَ وَهْمٌ إِنَّمَا رَأْيُ عُمَرَ لَا يَجُوزُ الْإِحْلَالُ مِنَ الْعُمْرَةِ فِي التَّمَتُّعِ إِلَى أَنْ يَحِلَّ مِنَ الْحَجِّ وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، فَلَعَلَّهُ رَأَى الْإِحْلَالَ لِلْمُتَلَبِّسِ بِنِيَّةِ الْحَجِّ مُنَافِيًا لِنِيَّتِهِ وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِتْمَامِ وَلَعَلَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْآحَادَ مُخَصِّصًا لِلْمُتَوَاتِرِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ لِأَنَّ فِعْلَ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم هُنَا مُتَوَاتِرٌ، إِذْ قَدْ شَهِدَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَنَقَلُوا حَجَّهُ وَأَنه أهل بهما جَمِيعًا.

نَعَمْ، كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَرَيَانِ إِفْرَادَ الْحَجِّ أَفْضَلَ مِنَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَنَّهُ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْحَدِيثَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ بِعَمَلِ الشَّيْخَيْنِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه يَرَى التَّمَتُّعَ خَاصًّا بِالْمُحْصَرِ إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ بَعْدَ أَنْ فَاتَهُ وُقُوفُ

ص: 227

عَرَفَةَ فَيَجْعَلُ حَجَّتَهُ عُمْرَةً وَيَحُجُّ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَهُ

تَعَالَى إِلَى الْحَجِّ أَيْ إِلَى وَقْتِ الْحَجِّ الْقَابِلِ وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ إِلَى الْحَجِّ أَيْ إِلَى أَيَّامِ الْحَجِّ.

وَقَوْلُهُ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ الْآيَةَ عُطِفَتْ عَلَى فَمَنْ تَمَتَّعَ، لِأَنَّ فَمَنْ تَمَتَّعَ مَعَ جَوَابِهِ وَهُوَ فَمَا اسْتَيْسَرَ مُقَدَّرٌ فِيهِ مَعْنَى فَمَنْ تَمَتَّعَ واجدا الْهَدْي فعطف عَلَيْهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ.

وَجَعَلَ اللَّهُ الصِّيَامَ بَدَلًا عَنِ الْهَدْيِ زِيَادَةً فِي الرُّخْصَةِ وَالرَّحْمَةِ وَلِذَلِكَ شَرَعَ الصَّوْمَ مُفَرَّقًا فَجَعَلَهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثَلَاثَةً مِنْهَا فِي أَيَّامِ الْحَجِّ وَسَبْعَةً بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنَ الْحَجِّ.

فَقَوْلُهُ: فِي الْحَجِّ أَيْ فِي أَشْهُرِهِ إِن كَانَ قد أَمْكَنَهُ الِاعْتِمَارُ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْحَجِّ، فَإِنْ لَمْ يُدْرِكِ الْحَجَّ وَاعْتَمَرَ فَتِلْكَ صِفَةٌ أُخْرَى لَا تَعَرُّضَ إِلَيْهَا فِي الْآيَةِ.

وَقَوْلُهُ: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ فَذْلَكَةُ الْحِسَابِ (1) أَيْ جَامِعَتُهُ فَالْحَاسِبُ إِذَا ذَكَرَ عَدَدَيْنِ فَصَاعِدًا قَالَ عِنْدَ إِرَادَةِ جَمْعِ الْأَعْدَادِ فَذَلِكَ أَيِ الْمَعْدُودُ كَذَا فَصِيغَتْ لِهَذَا الْقَوْلِ صِيغَةَ نَحْتٍ مِثْلَ بَسْمَلَ إِذَا قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ وَحَوْقَلَ إِذَا قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَحُرُوفُ فَذْلَكَةَ مُتَجَمِّعَةٌ مِنْ حُرُوفِ فَذَلِكَ كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:

ثَلَاثٌ بِالْغَدَاةِ فَهُنَّ حَسْبِي

وَسِتٌّ حِينَ يُدْرِكُنِي الْعِشَاءُ

فَذَلِكَ تِسْعَةٌ فِي الْيَوْمِ رَيِّي

وَشُرْبُ الْمَرْءِ فَوْقَ الرَّيِّ دَاءُ

فَلَفْظُ فَذْلَكَةَ كَلِمَةٌ مُوَلَّدَةٌ لَمْ تُسْمَعْ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ غَلَبَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْفَذْلَكَةِ عَلَى خُلَاصَةِ جَمْعِ الْأَعْدَادِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ الْمَحْكِيُّ جَرَى بِغَيْرِ كَلِمَةِ «ذَلِكَ» كَمَا نَقُولُ فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ إِنَّهَا فَذْلَكَةٌ مَعَ كَوْنِ الْوَاقِعِ فِي الْمَحْكِيِّ لَفْظُ «تِلْكَ» لَا لَفْظُ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقَ:

ثَلَاثٌ وَاثْنَتَانِ فَتِلْكَ خَمْسٌ

وَسَادِسَةٌ تَمِيلُ إِلَى الشِّمَامِ

(أَيْ إِلَى الشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ) وَفِي وَجْهِ الْحَاجَةِ إِلَى الْفَذْلَكَةِ فِي الْآيَةِ وُجُوهٌ، فَقِيلَ هُوَ مُجَرَّدُ تَوْكِيدٍ كَمَا تَقُولُ كَتَبْتُ بِيَدِي يَعْنِي أَنَّهُ جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ مَا وَقَعَ فِي شِعْرِ الْأَعْشَى أَيْ أَنَّهُ جَاءَ عَلَى أُسْلُوبٍ عَرَبِيٍّ وَلَا يُفِيدُ إِلَّا تَقْرِيرَ الْحُكْمِ فِي الذِّهْنِ مَرَّتَيْنِ وَلِذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لَمَّا ذَكَرَ مِثْلَهُ

كَقَوْلِ الْعَرَبِ عِلْمَانِ خَيْرٌ مِنْ عِلْمٍ. وَعَنِ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ بَقِيَ شَيْءٌ مِمَّا يَجِبُ صَوْمُهُ.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ قَدْ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الْمُرَادَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أَوْ سَبْعَةِ أَيَّامٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ بَدَلًا

(1) نصّ عَلَيْهِ فِي الْبَيْضَاوِيّ وحاشيته لمولانا عِصَام الدَّين.

ص: 228

مِنَ الثَّلَاثَةِ أُزِيلُ ذَلِكَ بِجَلِيَّةِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ عَشَرَةٌ وَتَبِعَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فَقَالَ «الْوَاوُ قَدْ تَجِيءُ لِلْإِبَاحَةِ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ: جَالَسَ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ فَفَذْلَكْتُ نَفْيًا لتوهم الْإِبَاحَة اهـ» وَهُوَ يُرِيدُ مِنَ الْإِبَاحَةِ أَنَّهَا لِلتَّخْيِيرِ الَّذِي يَجُوزُ مَعَهُ الْجَمْعُ وَلَا يَتَعَيَّنُ.

وَفِي كِلَا الْكَلَامَيْنِ حَاجَةٌ إِلَى بَيَانِ مَنْشَأِ تَوَهُّمِ مَعْنَى التَّخْيِيرِ فَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْأَصْلِ فِي الْوَاوِ حَتَّى زَعَمَ ابْنُ هِشَامٍ أَنَّ الْوَاوَ لَا تَرِدُ لَهُ، وَأَنَّ التَّخْيِيرَ يُسْتَفَادُ مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ لَا أَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ فِي حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَجَعَلَ أَقَلَّ الْعَدَدَيْنِ لِأَشَقِّ الْحَالَتَيْنِ وَأَكْثَرَهُمَا لِأَخَفِّهِمَا، فَلَا جَرَمَ طَرَأَ تَوَهُّمُ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ صَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَقَطْ وَأَنَّ السَّبْعَةَ رُخْصَةٌ لِمَنْ أَرَادَ التَّخْيِيرَ، فَبَيَّنَ اللَّهُ مَا يَدْفَعُ هَذَا التَّوَهُّمَ، بَلِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى إِيجَابُ صَوْمِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَإِنَّمَا تَفْرِيقُهَا رُخْصَةٌ وَرَحْمَةٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، فَحَصَلَتْ فَائِدَةُ التَّنْبِيهِ عَلَى الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ.

وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الْأَعْرَاف: 142] إِذْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ مُوسَى عليه السلام مُنَاجَاةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَلَكِنَّهُ أَبْلَغَهَا إِلَيْهِ مُوَزَّعَةً تَيْسِيرًا.

وَقَدْ سُئِلْتُ عَنْ حِكْمَةِ كَوْنِ الْأَيَّامِ عَشَرَةً فَأَجَبْتُ بِأَنَّهُ لَعَلَّهُ نَشَأَ مِنْ جَمْعِ سَبْعَةٍ وَثَلَاثَةٍ لِأَنَّهُمَا عَدَدَانِ مُبَارَكَانِ، وَلَكِنْ فَائِدَةُ التَّوْزِيعِ ظَاهِرَةٌ، وَحِكْمَةُ كَوْنِ التَّوْزِيعِ كَانَ إِلَى عَدَدَيْنِ مُتَفَاوِتَيْنِ لَا مُتَسَاوِيَيْنِ ظَاهِرَةٌ لِاخْتِلَافِ حَالَةِ الِاشْتِغَالِ بِالْحَجِّ فَفِيهَا مَشَقَّةٌ، وَحَالَةُ الِاسْتِقْرَارِ بِالْمَنْزِلِ. وَفَائِدَةُ جَعْلِ بَعْضِ الصَّوْمِ فِي مُدَّةِ الْحَجِّ جَعْلُ بَعْضِ الْعِبَادَةِ عِنْدَ سَبَبِهَا، وَفَائِدَةُ التَّوْزِيعِ إِلَى ثَلَاثَةٍ وَسَبْعَةٍ أَنَّ كِلَيْهِمَا عَدَدٌ مُبَارَكٌ ضُبِطَتْ بِمِثْلِهِ الْأَعْمَالُ دِينِيَّةً وقضائية.

وَأما قَوْله: كامِلَةٌ فَيُفِيدُ التَّحْرِيضَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِصِيَامِ الْأَيَّامِ كُلِّهَا لَا يَنْقُصُ مِنْهَا شَيْءٌ، مَعَ التَّنْوِيهِ بِذَلِكَ الصَّوْمِ وَأَنَّهُ طَرِيقُ كَمَالٍ لِصَائِمِهِ، فَالْكَمَالُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.

وَقَوْلُهُ: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِشَارَةٌ إِلَى أَقْرَبِ شَيْءٍ

فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ هَدْيُ التَّمَتُّعِ أَوْ بَدَلُهُ وَهُوَ الصِّيَامُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْهَدْيَ عَلَى الْغَرِيب عَن مَكَّةَ كَيْ لَا يُعِيدَ السَّفَرَ لِلْعُمْرَةِ فَأَمَّا الْمَكِّيُّ فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ إِعَادَةِ السَّفَرِ فَلِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ هَدْيٌ، وَهَذَا

ص: 229

قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمَا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ هَدْيٌ فِي التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، لِأَنَّهُمْ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِمْ فِي إِعَادَةِ الْعُمْرَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:

الْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ مَا يَتَضَمَّنُهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهُوَ التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ مَعَ الْحَجِّ وَوُجُوبُ الْهَدْيِ، فَهُوَ لَا يَرَى التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَهُوَ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ.

وَحَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُمْ أَهْلُ بَلْدَةِ مَكَّةَ وَمَا جَاوَرَهَا، وَاخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ مَا جَاوَرَهَا فَقَالَ مَالِكٌ: مَا اتَّصَلَ بِمَكَّةَ ذَلِك مِنْ ذِي طوى وَهُوَ عَلَى أَمْيَالٍ قَلِيلَةٍ مِنْ مَكَّةَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ كَانَ مِنْ مَكَّةَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَنَسَبَهُ ابْنُ حَبِيبٍ إِلَى مَالِكٍ وَغَلَّطَهُ شُيُوخُ الْمَذْهَبِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ عَرَفَةَ، وَمَرٍّ، وَعُرَنَةَ، وَضَجْنَانَ، وَالرَّجِيعِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ يَوْمٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَهْلُ مَكَّةَ، وَذِي طُوًى، وَفَجٍّ، وَمَا يَلِي ذَلِك. وَقَالَ طَاوُوس: حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كُلُّ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْحَرَمِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُمْ مَنْ كَانُوا دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ سَوَاءٌ كَانُوا مَكِّيِّينَ أَوْ غَيْرَهُمْ سَاكِنِي الْحَرَمِ أَوِ الْحِلِّ.

وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.

وِصَايَةٌ بِالتَّقْوَى بَعْدَ بَيَانِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا تَخْلُو عَن مَشَقَّةٍ لِلتَّحْذِيرِ مِنَ التَّهَاوُنِ بِهَا، فَالْأَمْرُ بِالتَّقْوَى عَامٌّ، وَكَوْنُ الْحَجِّ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْعُمُومِ وَهُوَ أَجْدَرُ أَفْرَادِ الْعُمُومِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ.

وَقَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ افْتُتِحَ بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا اهْتِمَامًا بِالْخَبَرِ فَلَمْ يَقْتَصِرْ بِأَنْ يُقَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فَإِنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لَحَصَلَ الْعِلْمُ الْمَطْلُوبُ، لِأَنَّ الْعِلْمَ يَحْصُلُ مِنَ الْخَبَرِ، لَكِن لَمَّا أُرِيدَ تَحْقِيقُ الْخَبَرِ افْتُتِحَ بِالْأَمْرِ بِالْعِلْمِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى تَحْقِيقِ الْخَبَرِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَشُكُّوا فِي ذَلِكَ، فَأَفَادَ مُفَادَ إِنَّ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة

ص: 230