الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَمَّا الْخِطْبَةُ فِي الْعِدَّةِ وَالْمُوَاعَدَةُ فَحَرَامٌ مُوَاجَهَةُ الْمَرْأَةِ بِهَا، وَكَذَلِكَ مُوَاجَهَةُ الْأَبِ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ، وَأَمَّا مُوَاجَهَةُ وَلِيٍّ غَيْرِ مُجْبَرٍ فَالْكَرَاهَةُ، فَإِذَا لَمْ يَقَعِ الْبِنَاءُ فِي الْعِدَّةِ بَلْ بَعْدَهَا، فَقَالَ مَالِكٌ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِطَلْقَةٍ وَلَا يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهَا، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ: فِرَاقُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْخِطْبَةُ حَرَامٌ، وَالنِّكَاحُ الْوَاقِعُ بَعْدَ الْعِدَّةِ صَحِيحٌ.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.
عَطْفٌ عَلَى الْكَلَام السَّابِق فِي قَوْلِهِ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ إِلَى قَوْلِهِ: حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَابْتُدِئَ الْخِطَابُ بِاعْلمَوُا لَمَّا أُرِيدَ قَطْعُ هَوَاجِسِ التَّسَاهُلِ وَالتَّأَوُّلِ، فِي هَذَا الشَّأْنِ، لِيَأْتِيَ النَّاسُ مَا شَرَعَ اللَّهُ لَهُمْ عَنْ صَفَاءِ سَرِيرَةٍ مِنْ كُلِّ دخل وحيلة، وَقدم تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [الْبَقَرَة: 223] .
وَقَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ تَذْيِيلٌ، أَيْ فَكَمَا يُؤَاخِذُكُمْ عَلَى مَا تُضْمِرُونَ مِنَ الْمُخَالَفَةِ يَغْفِرُ لَكُمْ مَا وَعَدَ بِالْمَغْفِرَةِ عَنْهُ كَالتَّعْرِيضِ لِأَنَّهُ حَلِيمٌ بِكُمْ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِبَاحَةَ التَّعْرِيضِ رُخْصَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا، وَأَنَّ الذَّرِيعَةَ تَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ، لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَشَقَّةَ تَحْرِيمِهِ عَلَى النَّاسِ لِلْوُجُوهِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، فَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَغْفِرَةِ هُنَا التَّجَاوُزُ لَا مَغْفِرَةُ الذَّنْبِ لِأَنَّ التَّعْرِيضَ لَيْسَ بِإِثْمٍ، أَوْ يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْأَعَمُّ الشَّامِلُ لِمَغْفِرَةِ الذَّنْبِ وَالتَّجَاوُزُ عَنِ الْمَشَاقِّ، وَشَأْنُ التذييل التَّعْمِيم.
[236، 237]
[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 236 إِلَى 237]
لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
(237)
اسْتِئْنَافُ تَشْرِيعٍ لِبَيَانِ حُكْمِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الطَّلَاقِ مِنْ دَفْعِ الْمَهْرِ، كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَسُقُوطِهِ وَحُكْمِ الْمُتْعَةِ مَعَ إِفَادَةِ إِبَاحَةِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِهَا لَا تَخْفَى، فَإِنَّهُ لَمَّا جَرَى الْكَلَامُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ عَلَى الطَّلَاقِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الْعِدَّةُ، وَهُوَ طَلَاقُ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ، عَرَجَ هُنَا عَلَى الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَهُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ الْآيَةَ، فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [49] ، وَذَكَرَ مَعَ ذَلِكَ هُنَا تَنْصِيفَ الْمَهْرِ
وَالْعَفْوَ عَنْهُ.
وَحَقِيقَةُ الْجُنَاحِ الْإِثْمُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [الْبَقَرَة:
158] . وَلَا يُعْرَفُ إِطْلَاقُ الْجُنَاحِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى الْإِثْمِ، وَلِذَلِكَ حَمَلَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا عَلَى نَفْيِ الْإِثْمِ فِي الطَّلَاقِ، وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» تَفْسِيرُ الْجُنَاحِ بِالتَّبِعَةِ فَقَالَ: لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ لَا تَبِعَةَ عَلَيْكُمْ مِنْ إِيجَابِ الْمَهْرِ ثُمَّ قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْجُنَاحَ تَبِعَةُ الْمَهْرِ، قَوْلُهُ: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ إِلَى قَوْلِهِ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ فَقَوْلُهُ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِثْبَاتٌ لِلْجُنَاحِ الْمَنْفِيِّ ثَمَّةَ» وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَالَ قَوْمٌ: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ مَعْنَاهُ لَا طَلَبَ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ فَعَلِمْنَا أَنَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» مَسْبُوقٌ بِهَذَا التَّأْوِيلِ، وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ فِي «الْأَسَاسِ» هَذَا الْمَعْنَى لِلْجُنَاحِ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، فَإِنَّمَا تَأَوَّلَهُ مَنْ تَأَوَّلَهُ تَفْسِيرًا لِمَعْنَى الْكَلَامِ كُلِّهِ لَا لِكَلِمَةِ جُناحَ وَفِيهِ بُعْدٌ، وَمَحْمَلُهُ عَلَى أَنَّ الْجُنَاحَ كِنَايَةٌ بَعِيدَةٌ عَنِ التبعة بِدفع الْمهْر. وَالْوَجْهُ مَا حَمَلَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لَفْظَ الْجُنَاحِ، وَهُوَ مَعْنَاهُ الْمُتَعَارَفُ، وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» عَنْ مَكِّيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ «لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الْبِنَاءِ لِأَنَّهُ قَدْ يَقَعُ الْجُنَاحُ عَلَى الْمُطَلِّقِ بَعْدَ أَنْ كَانَ قَاصِدًا للذوق، وَذَلِكَ مَأْمُون قَبْلَ الْمَسِيسِ» وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي الطِّيبِيِّ عَنِ الرَّاغِبِ- أَيْ فِي «تَفْسِيرِهِ» -.
فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ تَفْصِيلُ أَحْوَالِ دَفْعِ الْمَهْرِ أَوْ بَعْضِهِ أَوْ سُقُوطِهِ، وَكَأَنَّ قَوْلَهُ: لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ إِلَى آخِرِهِ تَمْهِيدٌ لِذَلِكَ وَإِدْمَاجٌ لِإِبَاحَةِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ لِأَنَّهُ بَعِيدٌ عَنْ قَصْدِ التَّذَوُّقِ، وَأَبْعَدُ مِنَ الطَّلَاقِ بَعْدَ الْمَسِيسِ عَنْ إِثَارَةِ الْبَغْضَاءِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ بِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ الطَّلَاقَ قَبْلِ الْبِنَاءِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ لِكَثْرَة مَا خص الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنْ يَقْصِدُوا مِنَ التَّزَوُّجِ دَوَامَ الْمُعَاشَرَةِ، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ فِعْلِ الذَّوَّاقِينَ
الَّذِينَ يُكْثِرُونَ تَزَوُّجَ النِّسَاءِ وَتَبْدِيلَهُنَّ، وَيَكْثُرُ النَّهْيُ عَنِ الطَّلَاقِ حَتَّى قَدْ يُظَنُّ مُحَرَّمًا، فَأَبَانَتِ الْآيَةُ إِبَاحَتَهُ بِنَفْيِ الْجُنَاحِ بِمَعْنَى الْوِزْرِ.
وَالنِّسَاءُ: الْأَزْوَاجُ، وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، فَهُوَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِلْعُمُومِ، أَيْ لَا جُنَاحَ فِي تَطْلِيقِكِمُ الْأَزْوَاجَ، وَ (مَا) ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَسِيسُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ قُرْبَانِ الْمَرْأَةِ.
وَ (أَو) فِي قَوْله: أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً عاطفة على تَمَسُّوهُنَّ الْمَنْفِيّ، و (أَوْ) إِذَا وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تُفِيدُ مُفَادَ وَاوِ الْعَطْفِ فَتَدُلُّ عَلَى انْتِفَاء الْمَعْطُوف والمعطوق عَلَيْهِ
مَعًا، وَلَا تُفِيدُ الْمُفَادَ الَّذِي تُفِيدُهُ فِي الْإِثْبَاتِ، وَهُوَ كَوْنُ الْحُكْمِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْخُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «أَمَالِيهِ» وَصَرَّحَ بِهِ التَّفْتَازَانِيُّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الرَّاغِبِ، وَهُوَ التَّحْقِيقُ لِأَنَّ مُفَادَ «أَوْ» فِي الْإِثْبَاتِ نَظِيرُ مُفَادِ النَّكِرَةِ وَهُوَ الْفَرْدُ الْمُبْهَمُ، فَإِذَا دَخَلَ النَّفْيُ اسْتَلْزَمَ نَفْيَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَلِهَذَا كَانَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الْإِنْسَان: 24] النَّهْيَ عَنْ طَاعَةِ كِلَيْهِمَا، لَا عَنْ طَاعَةِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا انْبَنَتِ الْمَسْأَلَةُ الْأُصُولِيَّةُ وَهِيَ: هَلْ وَقَعَ فِي اللُّغَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمٍ وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِحَرْفِ أَوْ، وَإِنَّ أَوْ إِذَا وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ كَانَتْ كَالَّتِي تَقَعُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ.
وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» (أَوْ) فِي قَوْلِهِ: أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً بِمَعْنَى إِلَّا أَوْ حَتَّى، وَهِيَ الَّتِي يَنْتَصِبُ الْمُضَارِعُ بَعْدَهَا بِأَنْ وَاجِبَةَ الْإِضْمَارِ، بِنَاءً عَلَى إِمْكَانِهِ هُنَا وَعَلَى أَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الْخَفَاءِ فِي دَلَالَةِ أَوْ الْعَاطِفَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، عَلَى انْتِفَاءِ كِلَا الْمُتَعَاطِفَيْنِ إِذْ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا لِنَفْيِ أَحَدِهِمَا كَشَأْنِهَا فِي الْإِثْبَاتِ، وَبِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَنْسَبُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً حَيْثُ اقْتَصَرَ فِي التَّفْصِيلِ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: وَهُوَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الْمَسِيسِ مَعَ فَرْضِ الصَّدَاقِ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ أَوْ بَعْدَهُ، وَقَبْلَ فَرْضِ الصَّدَاقِ، فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الصُّورَةَ لَمْ تَدْخُلْ فِي التَّقْسِيمِ السَّابِقِ، وَذَلِكَ أَنْسَبُ بِأَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِثْنَاءِ أَوِ الْغَايَةِ، لَا لِلْعَطْفِ، وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ صَاحِبَ الْكَشَّافِ أَهْمَلَ تَقْدِيرَ الْعَطْفِ لِعَدَمِ اسْتِقَامَتِهِ، بَلْ لِأَنَّ غَيْرَهُ هُنَا أَوْضَحُ وَأَنْسَبُ، يَعْنِي وَالْمُرَادُ قَدْ ظَهَرَ مِنَ الْآيَةِ ظُهُورًا لَا يَدْعُ لِتَوَهُّمِ قَصْدِ نَفْيِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ خُطُورًا بِالْأَذْهَانِ، وَلِهَذَا اسْتَدْرَكَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فَجَوَّزَ تَقْدِيرَهَا عَاطِفَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَدْ أَفَادَتِ الْآيَةُ حُكْمًا بِمَنْطُوقِهَا وَهُوَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الْبِنَاءِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ لَهَا مَهْرٌ لَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَنَّ لَهَا نِصْفَ صَدَاقِ أَمْثَالِهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنْ لَيْسَ لَهَا إِلَّا الْمُتْعَةُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهَا كَمَا سَيَأْتِي. وَهَذَا الْحُكْمُ دَلَّنَا عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدِ اعْتَبَرَتِ النِّكَاحَ عَقْدًا لَازِمًا بِالْقَوْلِ، وَاعْتَبَرَتِ الْمَهْرَ الَّذِي هُوَ من متمماته غَيْرَ لَازِمٍ بِمُجَرَّدِ صِيغَةِ النِّكَاحِ، بَلْ يَلْزَمُ بِوَاحِدٍ مِنْ أَمْرَيْنِ إِمَّا بِصِيغَةٍ تَخُصُّهُ، وَهِيَ تَعْيِينُ مِقْدَارِهِ بِالْقَوْلِ، وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِي الْفِقْهِ بِنِكَاحِ التَّسْمِيَةِ، وَإِمَّا بِالْفِعْلِ وَهُوَ الشُّرُوعُ فِي اجْتِنَاءِ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ ابْتِدَاءً مِنَ النِّكَاحِ وَهِيَ الْمَسِيسُ، فَالْمَهْرُ إِذَنْ مِنْ تَوَابِعِ الْعُقُودِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ ثُبُوتِ
مَتْبُوعِهَا، بَلْ تَحْتَاجُ إِلَى مُوجِبٍ آخَرَ كَالْحَوْزِ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالنَّفْسُ لِقَوْلِ حَمَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَمْيَلُ.
وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ أَصْلِ الطَّلَاقِ، لَمَّا أَشْعَرَتْ بِنَفْيِ الْجُنَاحِ عَنِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَحَيْثُ أَشْعَرَتْ بِإِبَاحَةِ بَعْضِ أَنْوَاعِهِ: بِالتَّصَدِّي لِبَيَانِ أَحْكَامِهَا، وَلَمَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَنَا مَوْضِعٌ هُوَ أَنْسَبُ بِذِكْرِ مَشْرُوعِيَّةِ الطَّلَاقِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَنَحْنُ نَبْسُطُ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ:
إِنَّ الْقَانُونَ الْعَامَّ لِانْتِظَامِ الْمُعَاشَرَةِ هُوَ الْوِفَاقُ فِي الطَّبَائِعِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْأَمْيَالِ، وَقَدْ وَجَدْنَا الْمُعَاشَرَةَ نَوْعَيْنِ: أَوَّلُهُمَا مُعَاشَرَةٌ حَاصِلَةٌ بِحُكْمِ الضَّرُورَةِ، وَهِيَ مُعَاشَرَةُ النَّسَبِ، الْمُخْتَلِفَةُ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، بِحَسَبِ شِدَّةِ قُرْبِ النّسَب وَبعده كمعاشرة الْآبَاءِ مَعَ الْأَبْنَاءِ، وَالْإِخْوَةِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَأَبْنَاءِ الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ، وَاخْتِلَافُهَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ يَسْتَتْبِعُ اخْتِلَافَهَا فِي اسْتِغْرَاقِ الْأَزْمَانِ، فَنَجِدُ فِي قِصَرِ زَمَنِ الْمُعَاشَرَةِ، عِنْدَ ضَعْفِ الْآصِرَةِ، مَا فِيهِ دَافِعٌ لِلسَّآمَةِ وَالتَّخَالُفِ النَّاشِئَيْنِ عَمَّا يَتَطَرَّقُ إِلَى الْمُتَعَاشِرِينَ مِنْ تَنَافُرٍ فِي الْأَهْوَاءِ وَالْأَمْيَالِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي مِقْدَارِ قُرْبِ النَّسَبِ تَأْثِيرًا فِي مِقْدَارِ الْمُلَاءَمَةِ لِأَنَّهُ بِمِقْدَارِ قُرْبِ النَّسِيبِ، يَكُونُ الْتِئَامُ الذَّاتِ مَعَ الْأُخْرَى أَقْوَى وَأَتَمَّ، وَتَكُونُ الْمُحَاكَّةُ وَالْمُمَارَسَةُ وَالتَّقَارُبُ أَطْوَلَ، فَنَشَأَ مِنَ السَّبَبَيْنِ الْجِبِلِّيِّ، وَالِاصْطِحَابِيِّ، مَا يُقَوِّي اتِّحَادَ النُّفُوسِ فِي الْأَهْوَاءِ وَالْأَمْيَالِ بِحُكْمِ الْجِبِلَّةِ، وَحُكْمِ التَّعَوُّدِ وَالْإِلْفِ، وَهَكَذَا يَذْهَبُ ذَلِكَ السَّبَبَانِ يَتَبَاعَدَانِ بِمِقْدَارِ مَا يَتَبَاعَدُ النَّسِيبُ.
النَّوْع الثَّانِي: مُعَاشَرَةٌ بِحُكْمِ الِاخْتِيَارِ وَهِيَ مُعَاشَرَةُ الصُّحْبَةِ وَالْخَلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ، وَمَا هِيَ إِلَّا مُعَاشَرَةٌ مُؤَقَّتَةٌ تَطُولُ أَوْ تَقْصُرُ، وَتَسْتَمِرُّ أَوْ تَغِبُ، بِحَسَبِ قُوَّةِ الدَّاعِي
وَضَعْفِهِ، وَبِحَسَبِ اسْتِطَاعَةِ الْوَفَاءِ بِحُقُوقِ تِلْكَ الْمُعَاشَرَةِ، وَالتَّقْصِيرِ فِي ذَلِكَ، وَالتَّخَلُّصُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مُمْكِنٌ إِذَا لَمْ تَتَّحِدِ الطِّبَاعُ. وَمُعَاشَرَةُ الزَّوْجَيْنِ فِي التَّنْوِيعِ، هِيَ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي، وَفِي الْآثَارِ مُحْتَاجَةٌ إِلَى آثَارِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَيَنْقُصُهَا مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ سَبَبُهُ الْجُبْلِيُّ لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ يَكْثُرُ أَلَّا يَكُونَا قَرِيبَيْنِ وَسَبَبُهُ الِاصْطِحَابِيُّ، فِي أَوَّلِ عَقْدِ التَّزَوُّجِ حَتَّى تَطُولَ الْمُعَاشَرَةُ وَيَكْتَسِبَ كُلٌّ مِنَ الْآخَرِ خُلُقَهُ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جعل فِي رَغْبَةَ الرَّجُلِ فِي الْمَرْأَةِ إِلَى حَدِّ أَنْ خَطَبَهَا، وَفِي مَيْلِهِ إِلَى الَّتِي يَرَاهَا، مُذِ انْتَسَبَتْ بِهِ وَاقْتَرَنَتْ، وَفِي نِيَّتِهِ مُعَاشَرَتُهَا مُعَاشَرَةً طَيِّبَةً، وَفِي مُقَابَلَةِ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ بِمِثْلِ ذَلِك مَا يغرز فِي نَفْسِ الزَّوْجَيْنِ نَوَايَا وَخَوَاطِرَ شَرِيفَةً وَثِقَةً بِالْخَيْرِ، تَقُومُ مَقَامَ السَّبَبِ الْجُبْلِيِّ، ثُمَّ تَعْقُبُهَا مُعَاشَرَةٌ وَإِلْفٌ تَكْمُلُ مَا يَقُومُ مَقَامَ السَّبَبِ الِاصْطِحَابِيِّ، وَقَدْ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى هَذَا السِّرِّ النَّفْسَانِيِّ
الْجَلِيلِ، بِقَوْلِهِ: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الرّوم: 21] .
وَقَدْ يُعْرَضُ مِنْ تَنَافُرِ الْأَخْلَاقِ وَتَجَافِيهَا مَا لَا يُطْمَعُ مَعَهُ فِي تَكْوِينِ هَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَاحْتِيجَ إِلَى وَضْعِ قَانُونٍ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ هَذِهِ الصُّحْبَةِ، لِئَلَّا تَنْقَلِبَ سَبَبَ شِقَاقٍ وَعَدَاوَةٍ فَالتَّخَلُّصُ قَدْ يَكُونُ مَرْغُوبًا لِكِلَا الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَرْغُوبًا لِأَحَدِهِمَا وَيَمْتَنِعُ مِنْهُ الْآخَرِ، فَلَزِمَ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَهُوَ جَانِبُ الزَّوْجِ لِأَنَّ رَغْبَتَهُ فِي الْمَرْأَةِ أَشَدُّ، كَيْفَ وَهُوَ الَّذِي سَعَى إِلَيْهَا وَرَغِبَ فِي الِاقْتِرَانِ بِهَا وَلِأَنَّ الْعَقْلَ فِي نَوْعِهِ أَشَدُّ، وَالنَّظَرَ مِنْهُ فِي الْعَوَاقِبِ أَسَدُّ، وَلَا أَشَدَّ احْتِمَالًا لِأَذًى وَصَبْرًا عَلَى سُوءِ خُلُقٍ مِنَ الْمَرْأَةِ، فَجَعَلَ الشَّرْعُ التَّخَلُّصَ مِنْ هَذِهِ الْوَرْطَةِ بِيَدِ الزَّوْجِ، وَهَذَا التَّخَلُّصِ هُوَ الْمُسَمَّى:
بِالطَّلَاقِ، فَقَدْ يَعْمِدُ إِلَيْهِ الرَّجُلُ بَعْدَ لَأْيٍ، وَقَدْ تَسْأَلُهُ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ، وَكَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ الطَّلَاقَ فَيُطَلِّقُهَا، قَالَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ يَذْكُرُ زَوْجَتَيْهِ:
تِلْكَ عُرْسَايَ تَنْطِقَانِ عَلَى عَمْ
…
دٍ إِلَى الْيَوْمِ قَوْلَ زُورٍ وَهَتْرِ
سَالَتَانِي الطَّلَاق أَن رأتاما
…
لِي قَلِيلًا قَدْ جِئْتُمَانِي بِنُكْرِ
وَقَالَ عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ:
تِلْكَ عُرْسِي غَضْبَى تُرِيدُ زِيَالِي
…
أَلِبَيْنٍ تُرِيدُ أَمْ لِدَلَالِ
إِنْ يَكُنْ طِبُّكِ الْفِرَاقَ فَلَا أَحْ
…
فُلُ أَنْ تَعْطِفِي صُدُورَ الْجِمَالِِِ
وَجَعَلَ الشَّرْعُ لِلْحَاكِمِ إِذَا أَبَى الزَّوْجُ الْفِرَاقَ وَلَحِقَ الزَّوْجَةَ الضُّرُّ مِنْ عِشْرَتِهِ، بَعْدَ ثُبُوتِ مُوجِبَاتِهِ، أَنْ يُطَّلِقَهَا عَلَيْهِ. فَالطَّلَاقُ فَسْخٌ لِعُقْدَةِ النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ، إِلَّا أَنَّهُ فَسْخٌ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ رِضَا كِلَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَلِ اكْتُفِيَ بِرِضَا وَاحِدٍ: وَهُوَ الزَّوْجُ، تَسْهِيلًا لِلْفِرَاقِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ، وَمُقْتَضَى هَذَا الْحُكْمِ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الْبِنَاءِ بِالْمَرْأَةِ مَمْنُوعًا إِذْ لَمْ تَقَعْ تَجْرِبَةُ الْأَخْلَاقِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الدَّاعِي إِلَى الطَّلَاقِ قَبْلَ الْبِنَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِسَبَبٍ عَظِيمٍ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْعُقَلَاءِ تُصَانُ عَنِ الْعَبَثِ، كَيْفَ يَعْمِدُ رَاغِبٌ فِي امْرَأَةٍ، بَاذِلٌ لَهَا مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَى طَلَاقِهَا قَبْلَ التَّعَرُّفِ بِهَا، لَوْلَا أَنْ قَدْ عَلِمَ مِنْ شَأْنِهَا مَا أَزَالَ رَجَاءَهُ فِي مُعَاشَرَتِهَا، فَكَانَ التَّخَلُّصُ وَقْتَئِذٍ قَبْلَ التَّعَارُفِ، أَسْهَلَ مِنْهُ بَعْدَ التَّعَارُفِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) - بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ- مُضَارِعُ مَسَّ الْمُجَرَّدِ، وَقَرَأَ
حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ، (تُمَاسُّوهُنَّ) - بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَبِأَلِفٍ بَعْدَ الْمِيمِ مُضَارِعُ مَاسَّ لِأَنَّ كِلَا الزَّوْجَيْنِ يَمَسُّ الْآخَرَ.
وَقَوْلُهُ: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ الْآيَةَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ عَطْفُ التَّشْرِيعِ عَلَى التَّشْرِيعِ، عَلَى أَنَّ الِاتِّحَادَ بِالْإِنْشَائِيَّةِ وَالْخَبَرِيَّةِ غَيْرُ شَرْطٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى النِّسَاءِ الْمَعْمُولُ لِلْفِعْلِ الْمُقَيَّدِ بِالظَّرْفِ وَهُوَ: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، أَيْ مَتِّعُوا الْمُطَلَّقَاتِ قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَقَبْلَ الْفَرْضِ، وَلَا أَحْسَبُ أَحَدًا يَجْعَلُ مُعَادَ الضَّمِيرِ عَلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا مَا يُوجَدُ مِنَ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِ الْمُتْعَةِ لِلْمُطَلَّقَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا، فَذَلِكَ لِأَدِلَّةٍ أُخْرَى غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَمَتِّعُوهُنَّ ظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ لِأَنَّ أَصْلَ الصِّيغَةِ لِلْوُجُوبِ مَعَ قَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ لِأَنَّ كَلِمَةَ حَقًّا تُؤَكِّدُ الْوُجُوبَ، وَالْمُرَادُ بِالْمُحْسِنِينَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ، فَالْمُحْسِنُ بِمَعْنَى الْمُحْسِنِ إِلَى نَفْسِهِ بِإِبْعَادِهَا عَنِ الْكُفْرِ، وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْمُتْعَةَ لِلْمُطَلَّقَةِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمُسَمَّى لَهَا مَهْرٌ وَاجِبَةً، وَهُوَ الْأَرْجَحُ لِئَلَّا يَكُونَ عَقْدُ نِكَاحِهَا خَلِيًّا عَنْ عِوَضِ الْمَهْرِ.
وَجَعَلَ جَمَاعَةٌ الْأَمْرَ هُنَا لِلنَّدْبِ لِقَوْلِهِ بَعْدُ: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فَإِنَّهُ قَرِينَةٌ عَلَى صَرْفِ الْأَمْرِ إِلَى أَحَدِ مَا يَقْتَضِيهِ، وَهُوَ نَدْبٌ خَاصٌّ مُؤَكِّدٌ لِلنَّدْبِ الْعَامِّ فِي مَعْنَى الْإِحْسَانِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَشُرَيْحٍ، فَجَعَلَهَا حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَجَعَلَهَا حَقًّا عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَمَفْهُومُ جَعَلَهَا حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ أَنَّهَا لَيْسَتْ حَقًّا عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ الْمُتَّقِينَ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ، لِأَنَّ الْمُتَّقِيَ هُوَ كَثِيرُ الِامْتِثَالِ، عَلَى أَنَّنَا لَوْ حَمَلْنَا الْمُتَّقِينَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ لَكَانَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تَعَارُضُ الْمَفْهُومِ وَالْعُمُومِ، فَإِنَّ الْمَفْهُومَ الْخَاصَّ يُخَصِّصُ الْعُمُومَ.
وَفِي «تَفْسِير الأبي» عَنِ ابْنِ عَرَفَةَ: «قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: الْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ يُقْضَى بِهَا إِذْ لَا يَأْبَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَلَا مِنَ الْمُتَّقِينَ إِلَّا رَجُلُ سُوءٍ، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ عَنِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ قَالَ بِتَقْدِيمِ الْعُمُومِ عَلَى الْمَفْهُومِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، وَأَنَّهُ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، قُلْتُ: فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْقَائِلَ بِالْمَفْهُومِ لَا بُدَّ أَنْ يُخَصَّصَ بِخُصُوصِهِ عُمُومُ الْعَامِّ إِذَا تَعَارَضَا، على أَن لمَذْهَب مَالِكٍ أَنَّ الْمُتْعَة عَطِيَّة
ومؤاساة، والمؤاساة فِي مَرْتَبَةِ التَّحْسِينِيِّ، فَلَا تَبْلُغُ مَبْلَغَ الْوُجُوبِ، وَلِأَنَّهَا مَالٌ بُذِلَ فِي غَيْرِ عِوَضٍ، فَيَرْجِعُ إِلَى التَّبَرُّعَاتِ، وَالتَّبَرُّعَاتُ مَنْدُوبَةٌ لَا وَاجِبَةٌ، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فَإِنَّ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْإِحْسَانِ لَا مِنَ الْحُقُوقِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ نَفَى اللَّهُ الْجُنَاحَ عَنِ الْمُطَلِّقِ ثُمَّ أَثْبَتَ الْمُتْعَةَ، فَلَوْ كَانَتِ الْمُتْعَةُ وَاجِبَةً لَانْتَقَضَ نَفْيُ الْجُنَاحِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْجُنَاحَ نَفْيٌ لِأَنَّ الْمَهْرَ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ، قَدْ يُجْحِفُ بِالْمُطَلِّقِ بِخِلَافِ الْمُتْعَةِ، فَإِنَّهَا عَلَى حَسَبِ وُسْعِهِ وَلِذَلِكَ نَفَى مَالِكٌ نَدْبَ الْمُتْعَةِ لِلَّتِي طُلِّقَتْ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَقَدْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا، قَالَ: فَحَسْبُهَا مَا فُرِضَ لَهَا أَيْ لِأَنَّ اللَّهَ قَصَرَهَا عَلَى ذَلِكَ، رِفْقًا بِالْمُطَلِّقِ، أَيْ فَلَا تندب لَهَا ندب خَاصًّا، بِأَمْرِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: بِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الْمَدْخُولَ بِهَا يُسْتَحَبُّ تَمْتِيعُهَا، أَيْ بِقَاعِدَةِ الْإِحْسَانِ الْأَعَمِّ وَلِمَا مَضَى مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ.
وَقَوْلُهُ: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ الْمُوَسِعُ مَنْ أُوسِعَ إِذَا صَارَ ذَا سَعَةٍ، وَالْمُقْتِرُ مَنْ أُقْتِرَ إِذَا صَارَ ذَا قَتْرٍ وَهُوَ ضِيقُ الْعَيْشِ، وَالْقَدْرُ- بِسُكُونِ الدَّالِ وَبِفَتْحِهَا- مَا بِهِ تَعْيِينُ ذَاتِ الشَّيْءِ أَوْ حَالِهِ، فَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُسَاوِي الشَّيْءَ مِنَ الْأَجْرَامِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُسَاوِيهِ فِي الْقِيمَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْحَالُ الَّتِي يَقْدِرُ بِهَا الْمَرْءُ فِي مَرَاتِبِ النَّاسِ فِي الثَّرْوَةِ، وَهُوَ
الطَّبَقَةُ مِنَ الْقَوْمِ، وَالطَّاقَةُ مِنَ الْمَالِ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِسُكُونِ الدَّالِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ الدَّالِ.
وَقَوْلُهُ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ إِيجَازًا لِظُهُورِ الْمَعْنَى، أَيْ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ لَهُنَّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ لَا يَحْسُنُ فِيهَا إِلَّا هَذَا الْوَجْهُ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى قَوْلِهِ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا حِينَئِذٍ لَا مُتْعَةَ لَهَا.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ أَيْ إِلَّا فِي حَالَةِ عَفْوِهِنَّ أَيِ النِّسَاءِ بِأَنْ يُسْقِطْنَ هَذَا النِّصْفَ، وَتَسْمِيَةُ هَذَا الْإِسْقَاطِ عَفْوًا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ نِصْفَ الْمَهْرِ حَقٌّ وَجَبَ عَلَى الْمُطَلِّقِ لِلْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ بِمَا اسْتَخَفَّ بِهَا، أَوْ بِمَا أَوْحَشَهَا، فَهُوَ حَقٌّ وَجَبَ لَغُرْمِ ضُرٍّ، فَإِسْقَاطُهُ عَفْوٌ لَا مَحَالَةَ، أَوْ عِنْدَ عَفْوِ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ.
وأل فِي النِّكَاحِ لِلْجِنْسِ، وَهُوَ مُتَبَادِرٌ فِي عَقْدِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ لَا فِي قَبُولِ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ كِلَاهُمَا سُمِّيَ عَقْدًا، فَهُوَ غَيْرُ النِّسَاءِ لَا مَحَالَةَ لِقَوْلِهِ: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ فَهُوَ ذَكَرٌ، وَهُوَ غَيْرُ الْمُطَلِّقِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُطَلِّقَ، لَقَالَ: أَوْ تَعْفُو بِالْخِطَابِ، لِأَنَّ قَبْلَهُ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ وَلَا دَاعِيَ إِلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ.
وَقِيلَ: جِيءَ بِالْمَوْصُولِ تَحْرِيضًا عَلَى عَفْوِ الْمُطَلِّقِ، لِأَنَّهُ كَانَتْ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ فَأَفَاتَهَا بِالطَّلَاقِ، فَكَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْ إِمْسَاكِ النِّصْفِ، وَيَتْرُكَ لَهَا جَمِيعَ صَدَاقِهَا، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى، لَقَالَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي كَانَ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهِ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ بِيَدِهِ عُقْدَةَ نِكَاحِهَا إِذْ لَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُهَا إِلَّا بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْوَلِيَّ الْمُجْبِرَ وَهُوَ الْأَبُ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ، وَالسَّيِّدُ فِي أَمَتِهِ، فَكَوْنُهُ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ظَاهِرٌ، إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ صِفَتِهِ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، إِذْ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مُطْلَقَ الْوَلِيِّ، فَكَوْنُهُ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، مِنْ حَيْثُ تَوَقُّفُ عَقْدِ الْمَرْأَةِ عَلَى حُضُورِهِ، وَكَانَ شَأْنُهُمْ أَنْ يَخْطُبُوا الْأَوْلِيَاءَ فِي وَلَايَاهُمْ فَالْعَفْوُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَقِيقَةٌ، وَالِاتِّصَافُ بِالصِّلَةِ مَجَازٌ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ إِذْ جَعَلَ فِي «الْمُوَطَّأِ» : الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الْأَبُ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ وَالسَّيِّدُ فِي أَمَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ ذَكَرَتْ عَفْوَ الرَّشِيدَةِ وَالْمُوَلَّى عَلَيْهَا، وَنُسِبَ مَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَلْقَمَةُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَقِيلَ: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الْمُطَلِّقُ لِأَنَّ بِيَدِهِ عَقْدَ نَفْسِهِ وَهُوَ الْقَبُولُ، وَنُسِبَ هَذَا إِلَى عَليّ وَشُرَيْح وطاووس وَمُجَاهِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَمَعْنَى بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكاحِ أَنَّ بِيَدِهِ التَّصَرُّفَ فِيهَا بِالْإِبْقَاءِ، وَالْفَسْخِ بِالطَّلَاقِ، وَمَعْنَى عَفْوِهِ: تَكْميِلُهُ الصَّدَاقَ، أَيْ إِعْطَاؤُهُ كَامِلًا.
وَهَذَا قَوْلٌ بَعِيدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ فِعْلَ الْمُطَلِّقِ حِينَئِذٍ لَا يُسَمَّى عَفْوًا بَلْ تَكْمِيلًا وَسَمَاحَةً لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَدْفَعَ الصَّدَاقَ كَامِلًا، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«وَتَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَقِّ عَفْوًا فِيهِ نَظَرٌ» إِلَّا أَنْ يُقَالَ: كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسُوقَ إِلَيْهَا الْمَهْرَ عِنْدَ التَّزَوُّجِ، فَإِذَا طَلَّقَهَا اسْتَحَقَّ أَنْ يُطَالِبَهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ فَقَدْ عَفَا، أَوْ سَمَّاهُ عَفْوًا عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ.
الثَّانِي أَنَّ دَفْعَ الْمُطَلِّقِ الْمَهْرَ كَامِلًا لِلْمُطَلَّقَةِ إِحْسَانٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَشْرِيعٍ مَخْصُوصٍ، بِخِلَافِ عَفْوِ الْمَرْأَةِ أَوْ وَلِيِّهَا، فَقَدْ يَظُنُّ أَحَدٌ أَنَّ الْمَهْرَ لَمَّا كَانَ رُكْنًا مِنَ الْعَقْدِ لَا يَصِحُّ إِسْقَاطُ شَيْءٍ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى تَذْيِيلٌ أَيِ الْعَفْوُ مِنْ حَيْثُ هُوَ، وَلِذَلِكَ حَذَفَ الْمَفْعُولَ، وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَجِيءَ بِجَمْعِ الْمُذَكَّرِ لِلتَّغْلِيبِ، وَلَيْسَ خِطَابًا لِلْمُطَلِّقِينَ، وَإِلَّا لَمَا شَمِلَ عَفْوَ النِّسَاءِ مَعَ أَنَّهُ كُلَّهُ مَرْغُوبٌ فِيهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنِ اسْتَظْهَرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ الْمُطَلِّقُ، لِأَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تَعْفُوا وَهُوَ
ظَاهِرٌ فِي الْمُذَكَّرِ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ مَوَاقِعِ التَّذْيِيلِ فِي آيِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النِّسَاء: 128] .
وَمَعْنَى كَوْنِ الْعَفْوِ أَقْرَبَ لِلتَّقْوَى: أَنَّ الْعَفْوَ أَقْرَبُ إِلَى صِفَةِ التَّقْوَى مِنَ التَّمَسُّكِ بِالْحَقِّ لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْحَقِّ لَا يُنَافِي التَّقْوَى لَكِنَّهُ يُؤْذِنُ بِتَصَلُّبِ صَاحِبِهِ وَشِدَّتِهِ، وَالْعَفْوُ يُؤْذِنُ بِسَمَاحَةِ صَاحِبِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَالْقَلْبُ الْمَطْبُوعُ عَلَى السَّمَاحَةِ وَالرَّحْمَةِ أَقْرَبُ إِلَى التَّقْوَى مِنَ الْقَلْبِ الصُّلْبِ الشَّدِيدِ، لِأَنَّ التَّقْوَى تَقْرُبُ بِمِقْدَارِ قُوَّةِ الْوَازِعِ، وَالْوَازِعُ شَرْعِيٌّ وَطَبِيعِيٌّ، وَفِي الْقَلْبِ الْمَفْطُورِ عَلَى الرَّأْفَةِ وَالسَّمَاحَةِ لِينٌ يَزَعُهُ عَنِ الْمَظَالِمِ وَالْقَسَاوَةِ، فَتَكُونُ التَّقْوَى أَقْرَبَ إِلَيْهِ، لِكَثْرَةِ أَسْبَابِهَا فِيهِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ تَذْيِيلٌ ثَانٍ، مَعْطُوفٌ عَلَى التَّذْيِيلِ الَّذِي قَبْلَهُ، لِزِيَادَةِ التَّرْغِيبِ فِي الْعَفْوِ بِمَا فِيهِ مِنَ التَّفَضُّلِ الدُّنْيَوِيِّ، وَفِي الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ حُبُّ الْفَضْلِ.