المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة البقرة (2) : الآيات 168 إلى 169] - التحرير والتنوير - جـ ٢

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 142]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 143]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 144]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 145]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 146]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 147]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 148]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 149 إِلَى 150]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 151]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 152]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 153 إِلَى 154]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 155 إِلَى 157]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 158]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 159 إِلَى 160]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 161 إِلَى 162]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 163]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 164]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 165]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 166 إِلَى 167]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 168 إِلَى 169]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 170]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 171]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 172]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 173]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 174]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 175]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 176]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 177]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 178]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 179]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 180]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 181]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 182]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 183 الى 184]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 185]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 186]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 187]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 188]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 189]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 190]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 191]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 192]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 193]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 194]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 195]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 196]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 197]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 198]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 199]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 200 إِلَى 202]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 203]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 204 إِلَى 206]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 207]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 208 إِلَى 209]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 210]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 211]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 212]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 213]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 214]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 215]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 216]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 217]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 218]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 219]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 220]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 221]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 222]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 223]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 224]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 225]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 226 إِلَى 227]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 228]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 229]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 230]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 231]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 232]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 233]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 234]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 235]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 236 إِلَى 237]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 238]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 239]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 240]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 241]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 242]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 243 إِلَى 244]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 245]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 246]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 247]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 248]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 249 الى 251]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 252]

الفصل: ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 168 إلى 169]

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ [هود: 91]- وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا [هود:29]- وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الْأَنْعَام: 107] فَالْوَجْهُ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْمُشْتَقِّ لَا يُفِيدُ بِذَاتِهِ التَّخْصِيصَ وَقَدْ يُسْتَفَادُ مِنْ بَعْضِ مَوَاقِعِهِ مَعْنَى التَّخْصِيصِ بِالْقَرَائِنِ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ. مَا يُفِيدُ التَّخْصِيصَ وَلَا يَدْعُو إِلَيْهِ.

[168، 169]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 168 إِلَى 169]

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ هُوَ كَالْخَاتِمَةِ لِتَشْوِيهِ أَحْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ وَفُرُوعِهِ الَّتِي ابْتَدَأَ الْكَلَامُ فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ [الْبَقَرَة: 161] الْآيَةَ، إِذْ ذَكَرَ كُفْرَهُمْ إِجْمَالًا ثُمَّ أَبْطَلَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الْبَقَرَة: 163] وَاسْتَدَلَّ عَلَى إِبْطَالِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْبَقَرَة:

164] الْآيَاتِ ثُمَّ وَصَفَ كُفْرَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 165] ، وَوَصَفَ حَالَهُمْ وَحَسْرَتَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَوَصَفَ هُنَا بَعْضَ مَسَاوِئِ دِينِ أَهْلِ الشِّرْكِ فِيمَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِمَّا أَخْرَجَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَنَاسَبَ ذِكْرَهُ هُنَا أَنه وَقع بعد مَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَالِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ بِنِعْمَتِهِ بِقَوْلِهِ:

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ [الْبَقَرَة: 164] الْآيَةَ، وَهُوَ تَمْهِيدٌ وَتَلْخِيصٌ لِمَا يَعْقُبُهُ مَنْ ذِكْرِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا الَّتِي سَتَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ [الْبَقَرَة: 172] .

فالخطاب بيا أَيُّهَا النَّاسُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَمَا هُوَ شَأْنُ خطاب الْقُرْآن بيا أَيُّهَا النَّاسُ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلْوُجُوبِ وَلَا لِلْإِبَاحَةِ، إِذْ لَيْسَ الْكُفَّارُ بِأَهْلٍ لِلْخِطَابِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فَقَوْلُهُ: كُلُوا تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ.

ص: 101

وَقَوْلُهُ: حَلالًا طَيِّباً تَعْرِيضٌ بِتَحْمِيقِهِمْ فِيمَا أَعْنَتُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ فَحَرَمُوهَا مِنْ نِعَمٍ طَيِّبَةٍ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى عِلَّةِ إِبَاحَتِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَتَعْلِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَوْصَافِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحِلِّ وَالتَّحْرِيمِ.

وَالْمَقْصُودُ إِبْطَالُ مَا اخْتَلَقُوهُ مِنْ مَنْعِ أَكْلِ الْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ، وَالْوَصِيلَةِ، وَالْحَامِي، وَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مِنْ قَوْلِهِ: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ [الْأَنْعَام: 138] الْآيَاتِ. قِيلَ نَزَلَتْ فِي ثَقِيفٍ وَبَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَخُزَاعَةَ وَبَنِي مُدْلِجٍ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْأَنْعَامِ أَيْ مِمَّا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.

وَمن فِي قَوْلِهِ: مِمَّا فِي الْأَرْضِ لِلتَّبْعِيضِ، فَالتَّبْعِيضُ رَاجِعٌ إِلَى كَوْنِ الْمَأْكُولِ بَعْضًا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ وَلَيْسَ رَاجِعًا إِلَى كَوْنِ الْمَأْكُولِ أَنْوَاعًا دُونَ أَنْوَاعٍ، لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ غَرَضَ الْآيَةِ، فَمَا فِي الْأَرْضِ عَامٌّ خَصَّصَهُ الْوَصْفُ بِقَوْلِهِ: حَلالًا طَيِّباً فَخَرَجَتِ الْمُحَرَّمَاتُ الثَّابِتُ تَحْرِيمُهَا بِالْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ.

وَقَوْلُهُ: حَلالًا طَيِّباً حَالَانِ مِنْ (مَا) الْمَوْصُولَةِ، أَوَّلُهُمَا لِبَيَانِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَالثَّانِي لِبَيَانِ عِلَّتِهِ لِأَنَّ الطَّيِّبَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ تَقْصِدَهُ النُّفُوسُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ فَإِذَا ثَبَتَ الطَّيِّبُ ثَبَتَتِ الْحِلِّيَةُ لِأَنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ بِعِبَادِهِ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِمَّا فِيهِ نَفْعُهُمُ الْخَالِصُ أَوِ الرَّاجِحُ.

وَالْمُرَادُ بِالطَّيِّبِ هُنَا مَا تستطيبه النُّفُوسُ بِالْإِدْرَاكِ الْمُسْتَقِيمِ السَّلِيمِ مِنَ الشُّذُوذِ وَهِيَ النُّفُوسُ الَّتِي تَشْتَهِي الْمُلَائِمَ الْكَامِلَ أَوِ الرَّاجِحَ بِحَيْثُ لَا يَعُودُ تَنَاوُلُهُ بِضُرٍّ جُثْمَانِيٍّ أَوْ رُوحَانِيٍّ وَسَيَأْتِي مَعْنَى الطَّيِّبِ لُغَةً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [الْمَائِدَة: 4] فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ.

وَفِي هَذَا الْوَصْفِ مَعْنًى عَظِيمٌ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى قَاعِدَةِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّ حُكْمَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَمْ يَنُصَّ الشَّرْعُ فِيهَا بِشَيْءٍ أَنْ أَصْلَ الْمَضَارِّ مِنْهَا التَّحْرِيمُ وَأَصْلَ الْمَنَافِعِ الْحِلُّ، وَهَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِ الشَّيْءِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ عَوَارِضِهِ كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ الْمُوجِبِ تَحْرِيمَهُ، إِذِ التَّحْرِيمُ حِينَئِذٍ حُكْمٌ لِلْعَارِضِ لَا لِلْمَعْرُوضِ.

وَقَدْ فُسِّرَ الطَّيِّبُ هُنَا بِمَا يُبِيحُهُ الشَّرْعُ وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى التَّكْرَارِ، وَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي اسْتِعْمَالَ لَفْظٍ فِي مَعْنًى غَيْرِ مُتَعَارَفٍ عِنْدَهُمْ.

وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ الضَّمِيرُ لِلنَّاسِ لَا مَحَالَةَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُتَلَبِّسُونَ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ دَوْمًا، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَحَظُّهُمْ مِنْهُ التَّحْذِيرُ وَالْمَوْعِظَةُ.

ص: 102

وَاتِّبَاعُ الْخُطْوَاتِ تَمْثِيلِيَّةٌ، أَصْلُهَا أَنَّ السَّائِرَ إِذَا رَأَى آثَارَ خُطْوَاتِ السَّائِرِينَ تَبِعَ ذَلِكَ الْمَسْلَكَ عِلْمًا مِنْهُ بِأَنَّهُ مَا سَارَ فِيهِ السَّائِرُ قَبْلَهُ إِلَّا لِأَنَّهُ مُوَصِّلٌ لِلْمَطْلُوبِ، فَشَبَّهَ الْمُقْتَدِي الَّذِي لَا دَلِيلَ لَهُ سِوَى الْمُقْتَدَى بِهِ وَهُوَ يَظُنُّ مَسْلَكَهُ مُوَصِّلًا، بِالَّذِي يَتَّبِعُ خُطْوَاتِ السَّائِرِينَ وَشَاعَتْ هَاتِهِ

التَّمْثِيلِيَّةُ حَتَّى صَارُوا يَقُولُونَ هُوَ يَتَّبِعُ خُطَا فُلَانٍ بِمَعْنَى يَقْتَدِي بِهِ وَيَمْتَثِلُ لَهُ.

وَالْخُطْوَاتُ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ جَمْعُ خُطْوَةٍ- مِثْلُ الْغُرْفَةِ وَالْقُبْضَةِ بِضَمِّ أَوَّلَهِمَا بِمَعْنَى الْمَخْطُوِّ- وَالْمَغْرُوفِ وَالْمَقْبُوضِ، فَهِيَ بِمَعْنَى مَخْطُوَّةٍ اسْمٌ لِمَسَافَةٍ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ عِنْدَ مَشْيِ الْمَاشِي فَهُوَ يَخْطُوهَا، وَأَمَّا الْخَطْوَةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ فَهِيَ الْمَرَّةُ مِنْ مَصْدَرِ الْخَطْوِ وَتُطْلَقُ عَلَى الْمَخْطُوِّ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (خُطْوَاتِ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ عَلَى أَصْلِ جَمْعِ السَّلَامَةِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَقُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ الْخَاءِ وَالطَّاءِ عَلَى الْإِتْبَاعِ، وَالْإِتْبَاعُ يُسَاوِي السُّكُونَ فِي الْخِفَّةِ عَلَى اللِّسَانِ.

وَالِاقْتِدَاءُ بِالشَّيْطَانِ إِرْسَالُ النَّفْسِ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا يُوَسْوِسُهُ لَهَا من الخواطر الشرية، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ مَوْجُودَاتٌ مُدْرَكَةٌ لَهَا اتِّصَالٌ بِالنُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ لَعَلَّهُ كَاتِّصَالِ الْجَاذِبِيَّةِ بِالْأَفْلَاكِ وَالْمِغْنَاطِيسِ بِالْحَدِيدِ، فَإِذَا حَصَلَ التَّوَجُّهُ مِنْ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ بِأَسْبَابٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ حَدَثَتْ فِي النَّفْسِ خَوَاطِرُ سَيِّئَةٌ، فَإِنْ أَرْسَلَ الْمُكَلَّفُ نَفْسَهُ لِاتِّبَاعِهَا وَلَمْ يَرْدَعْهَا بِمَا لَهُ مِنَ الْإِرَادَةِ وَالْعَزِيمَةِ حققها فِي فَاعله، وَإِنْ كَبَحَهَا وَصَدَّهَا عَنْ ذَلِكَ غَلَبَهَا. وَلِذَلِكَ أَوْدَعَ اللَّهُ فِينَا الْعَقْلَ وَالْإِرَادَةَ وَالْقُدْرَةَ وَكَمَّلَ لَنَا ذَلِكَ بِالْهُدَى الدِّينِيِّ عَوْنًا وَعِصْمَةً عَنْ تَلْبِيَتِهَا لِئَلَّا تُضِلَّنَا الْخَوَاطِرُ الشَّيْطَانِيَّةُ حَتَّى نَرَى حَسَنًا مَا لَيْسَ بِالْحَسَنِ، وَلِهَذَا

جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً»

لِأَنَّهُ لَمَّا هَمَّ بِهَا فَذَلِكَ حِينَ تَسَلَّطَتْ عَلَيْهِ الْقُوَّةُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَلَمَّا عَدَلَ عَنْهَا فَذَلِكَ حِينَ غَلَّبَ الْإِرَادَةَ الْخَيْرِيَّةَ عَلَيْهَا، وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي الْخَوَاطِرِ الْخَيْرِيَّةِ وَهِيَ النَّاشِئَةُ عَنِ التَّوَجُّهَاتِ الْمَلَكِيَّةِ، فَإِذَا تَنَازَعَ الدَّاعِيَانِ فِي نُفُوسِنَا احْتَجْنَا فِي التَّغَلُّبِ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِعُقُولِنَا وَآرَائِنَا وَقُدْرَتِنَا، وَهُدَى اللَّهِ تَعَالَى إِيَّانَا وَذَلِكَ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ بِالْكَسْبِ، وَعَنْهُ يَتَرَتَّبُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ.

وَاللَّامُ فِي الشَّيْطانِ لِلْجِنْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ، وَيَكُونَ الْمُرَادُ إِبْلِيسَ وَهُوَ أَصْلُ الشَّيَاطِينِ وَآمِرُهُمْ فَكُلُّ مَا يَنْشَأُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ الَّذِي خَطَا الْخُطْوَاتِ الْأُولَى.

ص: 103

وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، (إِنَّ) لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَالنَّاسِ مَعْلُومَةٌ مُتَقَرِّرَةٌ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَقَدْ كَانُوا فِي الْحَجِّ يَرْمُونَ الْجِمَارَ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يَرْجُمُونَ الشَّيْطَانَ، أَوْ تُجْعَلُ (إِنَّ) لِلتَّأْكِيدِ بِتَنْزِيلِ غَيْرِ الْمُتَرَدِّدِ فِي الْحُكْمِ

مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ أَوِ الْمُنْكَرِ لِأَنَّهُمْ لِاتِّبَاعِهِمُ الْإِشَارَاتِ الشَّيْطَانِيَّةَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُنْكِرُ عَدَاوَتَهُ كَمَا قَالَ عَبْدَةُ:

إِنَّ الَّذِينَ تُرَوْنَهُمْ إِخْوَانَكُمْ

يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمْ أَنْ تُصْرَعُوا

وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِنَّ تُفِيدُ مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَالرَّبْطِ فِي مِثْلِ هَذَا وَتُغْنِي غَنَاءَ الْفَاءِ وَهُوَ شَأْنُهَا بَعْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى مَا فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» وَمِثْلُهُ قَوْلُ بَشَّارٍ:

بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الْهَجِيرِ

إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ

وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ.

وَإِنَّمَا كَانَ عَدُوًّا لِأَنَّ عُنْصُرَ خِلْقَتِهِ مُخَالِفٌ لِعُنْصُرِ خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ فَاتِّصَالُهُ بِالْإِنْسَانِ يُؤْثِرُ خِلَافَ مَا يُلَائِمُهُ، وَقَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ تَمْثِيلُ الشَّيْطَانِ فِي صُورَةِ الْعَدُوِّ الْمُتَرَبِّصِ بِنَا الدَّوَائِرَ لِإِثَارَةِ دَاعِيَةِ مُخَالَفَتِهِ فِي نُفُوسِنَا كَيْ لَا نَغْتَرَّ حِينَ نَجِدُ الْخَوَاطِرَ الشِّرِّيرَةَ فِي أَنْفُسِنَا فَنَظُنُّهَا مَا نَشَأَتْ فِينَا إِلَّا وَهِيَ نَافِعَةٌ لَنَا لِأَنَّهَا تَوَلَّدَتْ مِنْ نُفُوسِنَا، وَلِأَجْلِ هَذَا أَيْضًا صُوِّرَتْ لَنَا النَّفْسُ فِي صُورَةِ الْعَدُوِّ فِي مِثْلِ هَاتِهِ الْأَحْوَالِ.

وَمَعْنَى الْمُبِينِ الظَّاهِرُ الْعَدَاوَةِ مِنْ أَبَانَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى بَانَ وَلَيْسَ مِنْ أَبَانَ الَّذِي هَمْزَتُهُ لِلتَّعْدِيَةِ بِمَعْنَى أَظْهَرَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يُظْهِرُ لَنَا الْعَدَاوَةَ بَلْ يُلَبِّسُ لَنَا وَسْوَسَتَهُ فِي لِبَاسِ النَّصِيحَةِ أَوْ جَلْبِ الْمُلَائِمِ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ وَلِيًّا فَقَالَ: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً [النِّسَاء: 119] ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ فَضَحَهُ فَلَمْ يَبْقَ مُسْلِمٌ تَرُوجُ عَلَيْهِ تَلْبِيسَاتُهُ حَتَّى فِي حَالِ اتِّبَاعِهِ لِخُطْوَاتِهِ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا وَسَاوِسُهُ الْمُضِرَّةُ إِلَّا أَنَّهُ تَغْلِبُهُ شَهْوَتُهُ وَضَعْفُ عَزِيمَتِهِ وَرِقَّةُ دِيَانَتِهِ.

وَقَوْلُهُ: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَيَئُولُ إِلَى كَوْنِهِ عِلَّةً لِلْعِلَّةِ إِذْ يَسْأَلُ السَّامِعُ عَنْ ثُبُوتِ الْعَدَاوَةِ مَعَ عَدَمِ سَبْقِ الْمَعْرِفَةِ وَمَعَ بُعْدِ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَقِيلَ إِنَّما يَأْمُرُكُمْ أَيْ لِأَنَّهُ لَا يَأْمُرُكُمْ إِلَّا بِالسُّوءِ إِلَخْ أَيْ يُحَسِّنُ لَكُمْ مَا فِيهِ مَضَرَّتُكُمْ لِأَنَّ عَدَاوَتَهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ عَرَفْنَاهُ مِنْ آثَارِ أَفْعَالِهِ.

وَالْأَمْرُ فِي الْآيَةِ مَجَازٌ عَنِ الْوَسْوَسَةِ وَالتَّزْيِينِ إِذْ لَا يَسْمَعُ أَحَدٌ صِيَغَ أَمْرٍ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ تَمْثِيلِيَّةً بِتَشْبِيهِ حَالِهِ وَحَالِهِمْ فِي التَّسْوِيلِ وَالْوَسْوَسَةِ وَفِي تَلَقِّيهِمْ

ص: 104

مَا يُوَسْوِسُ لَهُمْ بِحَالِ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ وَيَكُونُ لَفْظُ يَأْمُرُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ مُفِيدا مَعَ ذَلِك الرَّمْزِ إِلَى أَنَّهُمْ لَا إِرَادَةَ لَهُمْ وَلَا يَمْلِكُونَ أَمْرَ أَنْفُسِهِمْ وَفِي هَذَا زِيَادَةُ

تَشْنِيعٍ لِحَالِهِمْ وَإِثَارَةٌ لِلْعَدَاوَةِ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَبَيْنَهُمْ.

وَالسُّوءُ الضُّرُّ مِنْ سَاءَهُ سَوْءًا، فَالْمَصْدَرُ بِفَتْحِ السِّينِ وَأَمَّا السُّوءُ بِضَمِّ السِّينِ فَاسْمٌ لِلْمَصْدَرِ.

وَالْفَحْشَاءُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ فَحُشَ إِذَا تَجَاوَزَ الْحَدَّ الْمَعْرُوفَ فِي فِعْلِهِ أَوْ قَوْلِهِ وَاخْتُصَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِمَا تَجَاوَزَ حَدَّ الْآدَابِ وَعَظُمَ إِنْكَارُهُ، لِأَنَّ وَسَاوِسَ النَّفْسِ تَئُولُ إِلَى مَضَرَّةٍ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَتْلِ الْمُفْضِي لِلثَّأْرِ أَوْ إِلَى سَوْأَةٍ وَعَارٍ كَالزِّنَا وَالْكَذِبِ، فَالْعَطْفُ هُنَا عَطْفٌ لِمُتَغَايِرَيْنِ بِالْمَفْهُومِ وَالذَّاتِ لَا مَحَالَةَ بِشَهَادَةِ اللُّغَةِ وَإِنْ كَانَا مُتَّحِدَيْنِ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِدُخُولِ كِلَيْهِمَا تَحْتَ وَصْفِ الْحَرَامِ أَوِ الْكَبِيرَةِ وَأَمَّا تَصَادُقُهُمَا مَعًا فِي بَعْضِ الذُّنُوبِ كَالسَّرِقَةِ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ كَسَائِرِ الْكُلِّيَّاتِ الْمُتَصَادِقَةِ.

وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ يُشِيرُ إِلَى مَا اخْتَلَقَهُ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الضَّلَالِ مِنْ رُسُومِ الْعِبَادَاتِ وَنِسْبَةِ أَشْيَاءَ لِدِينِ اللَّهِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهَا. وَخَصَّهُ بِالْعَطْفِ مَعَ أَنَّهُ بَعْضُ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَهُوَ الشِّرْكُ وَالِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ.

وَمَفْعُولُ تَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ وَهُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى (مَا) وَهُوَ رَابِطُ الصِّلَةِ، وَمَعْنَى مَا لَا تَعْلَمُونَ لَا تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: عَلَى اللَّهِ أَيْ لَا تَعْلَمُونَ أَنَّهُ يُرْضِيهِ وَيَأْمُرُ بِهِ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ رِضَا اللَّهِ وَأَمْرِهِ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْوَحْيِ وَإِلَى مَا يَتَفَرَّعُ عَنْهُ مِنَ الْقِيَاسِ وَأَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ الْمُسْتَقْرَاةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ الْأُصُولِيُّونَ: يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَقُولَ فِيمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ: إِنَّهُ دِينُ اللَّهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ قَالَهُ اللَّهُ، لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ مُقَدِّمَةٌ قَطْعِيَّةٌ مُسْتَقْرَاةٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا وَهِيَ وُجُوبُ عَمَلِهِ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ بِأَنْ يَعْمَلَ بِهِ فِي الْفَتْوَى وَالْقَضَاءِ وَخَاصَّةِ نَفْسِهِ فَهُوَ إِذَا أَفْتَى بِهِ وَأَخْبَرَ فَقَدْ قَالَ عَلَى اللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى بِحَسَبِ مَا كُلِّفَ بِهِ من الظَّن (1) .

[170]

(1) قَالَ الألوسي عِنْد شرح وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ «وَظَاهر الْآيَة الْمَنْع من اتِّبَاع الظَّن رَأْسا لِأَن الظَّن مُقَابل للْعلم لُغَة وعرفاه وَيشكل عَلَيْهِ أَن الْمُجْتَهد يعْمل بِمُقْتَضى ظَنّه الْحَاصِل عِنْده من النُّصُوص فَكيف يسوغ اتِّبَاعه للمقلد، وَأجِيب بِأَن الحكم المظنون للمجتهد يجب الْعَمَل بِهِ للدليل الْقَاطِع وَهُوَ الْإِجْمَاع وكل حكم يجب الْعَمَل بِهِ قطعا علم قطعا بِأَنَّهُ حكم الله تَعَالَى: وَإِلَّا لم يجب الْعَمَل بِهِ قطعا، وكل مَا علم قطعا أَنه حكم الله تَعَالَى فَهُوَ مَعْلُوم قطعا، فَالْحكم المظنون للمجتهد مَعْلُوم قطعا وخلاصته أَن الظَّن كَاف فِي طَرِيق تَحْصِيله ثمَّ بِوَاسِطَة الْإِجْمَاع على وجوب

ص: 105