المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة البقرة (2) : آية 145] - التحرير والتنوير - جـ ٢

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 142]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 143]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 144]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 145]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 146]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 147]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 148]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 149 إِلَى 150]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 151]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 152]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 153 إِلَى 154]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 155 إِلَى 157]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 158]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 159 إِلَى 160]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 161 إِلَى 162]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 163]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 164]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 165]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 166 إِلَى 167]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 168 إِلَى 169]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 170]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 171]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 172]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 173]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 174]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 175]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 176]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 177]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 178]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 179]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 180]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 181]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 182]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 183 الى 184]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 185]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 186]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 187]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 188]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 189]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 190]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 191]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 192]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 193]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 194]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 195]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 196]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 197]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 198]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 199]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 200 إِلَى 202]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 203]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 204 إِلَى 206]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 207]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 208 إِلَى 209]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 210]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 211]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 212]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 213]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 214]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 215]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 216]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 217]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 218]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 219]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 220]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 221]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 222]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 223]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 224]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 225]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 226 إِلَى 227]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 228]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 229]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 230]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 231]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 232]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 233]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 234]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 235]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 236 إِلَى 237]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 238]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 239]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 240]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 241]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 242]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 243 إِلَى 244]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 245]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 246]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 247]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 248]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 249 الى 251]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 252]

الفصل: ‌[سورة البقرة (2) : آية 145]

وَيَسْتَلْزِمُ وَعِيدًا لِلْكَافِرِينَ عَلَى

عَكْسِ مَا تَقْتَضِيهِ الْقِرَاءَةُ السَّابِقَةُ وَعَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فَهُوَ تَذْيِيلٌ إِجْمَالِيٌّ لِيَأْخُذَ كُلٌّ حَظَّهُ مِنْهُ وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا وَجُمْلَةِ: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْبَقَرَة: 145] الْآيَةَ.

وَفِي قَوْلِهِ: لَيَعْلَمُونَ وَقَوْلِهِ: عَمَّا يَعْمَلُونَ [الْبَقَرَة: 96] الْجِنَاسُ التَّامُّ الْمُحَرَّفُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَالْجِنَاسُ النَّاقِصُ الْمُضَارِعُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَمَنْ وَافَقَهُ.

[145]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 145]

وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)

وَلَئِنْ أَتَيْتَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 144] ، وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّهُمْ يعلمُونَ وَلَا يعْملُونَ فَلَمَّا أُفِيدَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي إِفَادَتِهِ التَّعْرِيضَ بِأَنَّهُمْ مُكَابِرُونَ نَاسَبَتْ أَنْ يُحَقِّقَ نَفْيُ الطَّمَعِ فِي اتِّبَاعِهِمُ الْقِبْلَةَ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَطْمَعَ السَّامِعُ بِاتِّبَاعِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَحَقِّيَّتَهَا، فَلِذَا أُكِّدَتِ الْجُمْلَةُ الدَّالَّةُ عَلَى نَفْيِ اتِّبَاعِهِمْ بِالْقَسَمِ وَاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ، وَبِالتَّعْلِيقِ عَلَى أَقْصَى مَا يُمْكِنُ عَادَة.

وَالْمرَاد بالذين أُوتُوا الْكِتَابَ عَيْنُ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ مَا يَفْعَلُهُ أَحْبَارُهُمْ يَكُونُ قُدْوَةً لِعَامَّتِهِمْ فَإِذَا لَمْ يَتَّبِعْ أَحْبَارُهُمْ قِبْلَةَ الْإِسْلَامِ فَأَجْدَرُ بِعَامَّتِهِمْ أَنْ لَا يَتِّبِعُوهَا.

وَوَجْهُ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامَ الْإِضْمَارِ هُنَا الْإِعْلَانُ بِمَذَمَّتِهِمْ حَتَّى تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ صَرِيحَةً فِي تَنَاوُلِهِمْ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْإِظْهَارِ فِي مَوْقِعِ الْإِضْمَارِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ زِيَادَةَ الْعِنَايَةِ وَالتَّمَكُّنِ فِي الذِّهْنِ.

وَالْمُرَادُ بِكُلِّ آيَةٍ آيَاتٌ مُتَكَاثِرَةٌ وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْحُجَّةُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ هُوَ قِبْلَةُ الْحَنِيفِيَّةِ. وَإِطْلَاقُ لَفْظِ (كُلِّ) عَلَى الْكَثْرَةِ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

ص: 35

فَيَا لَكَ مِنْ لَيْلٍ كَأَنَّ نُجُومَهُ

بِكُلِّ مُغَارِ الْفَتْلِ شُدَّتْ بِيَذْبُلِ

وَأَصْلُهُ مَجَازٌ لِجَعْلِ الْكَثِيرِ مِنْ أَفْرَادِ شَيْءٍ مُشَابِهًا لِمَجْمُوعِ عُمُومِ أَفْرَادِهِ، ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ فَصَارَ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي كُلِّ لَا يَحْتَاجُ اسْتِعْمَاله إِلَى قرينَة وَلَا إِلَى اعْتِبَارِ

تَشْبِيهِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ بِعُمُومِ جَمِيعِ أَفْرَادِهِ حَتَّى إِنَّهُ يَرِدُ فِيمَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ عُمُومُ أَفْرَادٍ، مِثْلُ قَوْلِهِ هُنَا بِكُلِّ آيَةٍ فَإِنَّ الْآيَاتِ لَا يُتَصَوَّرُ لَهَا عَدَدٌ يُحَاطُ بِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [النَّحْل: 69] وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ [يُونُس: 96] وَقَالَ النَّابِغَةُ:

بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَخَنْسَاءَ تَرْعَوِي

إِلَى كُلِّ رَجَّافٍ مِنَ الرَّمْلِ فَارِدِ

وَتَكَرَّرَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي قَوْلِ عَنْتَرَةَ:

جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ بِكْرٍ حُرَّةٍ

فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرَارَةٍ كَالدِّرْهَمِ

سَحًّا وَتَسْكَابًا فَكُلُّ عَشِيَّةٍ

يَجْرِي إِلَيْهَا الْمَاءُ لَمْ يَتَصَرَّمِ

وَصَاحِبُ «الْقَامُوسِ» قَالَ فِي مَادَّةِ كُلِّ «وَقَدْ جَاءَ اسْتِعْمَالُ كُلِّ بِمَعْنَى بَعْضِ ضِدٌّ» فَأَثْبَتَ الْخُرُوجَ عَنْ مَعْنَى الْإِحَاطَةِ وَلَكِنَّهُ جَازَفَ فِي قَوْلِهِ «بِمَعْنَى بَعْضِ» وَكَانَ الْأَصْوَبُ أَنْ يَقُولَ بِمَعْنَى كَثِيرٍ.

وَالْمَعْنَى أَنَّ إِنْكَارَهُمْ أَحَقِّيَّةُ الْكَعْبَةِ بِالِاسْتِقْبَالِ لَيْسَ عَنْ شُبْهَةٍ حَتَّى تُزِيلَهُ الْحُجَّةُ وَلَكِنَّهُ مُكَابَرَةٌ وَعِنَادٌ فَلَا جَدْوَى فِي إِطْنَابِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ.

وَإِضَافَةُ قِبْلَةٍ إِلَى ضَمِيرِ الرَّسُولِ لِأَنَّهَا أَخَصُّ بِهِ لِكَوْنِهَا قِبْلَةَ شَرْعِهِ، وَلِأَنَّهُ سَأَلَهَا بِلِسَانِ الْحَالِ.

وَإِفْرَادُ الْقِبْلَةِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ مَعَ كَوْنِهِمَا قِبْلَتَيْنِ، إِنْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قِبْلَةٌ مُعَيَّنَةٌ، وَأَكْثَرُ مِنْ قِبْلَةٍ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ قِبْلَةٌ مُعَيَّنَةٌ وَكَانُوا مُخَيَّرِينَ فِي اسْتِقْبَالِ الْجِهَاتِ، فَإِفْرَادُ لَفْظِ (قِبْلَتِهِمْ) عَلَى مَعْنَى التَّوْزِيعِ لِأَنَّهُ إِذَا اتَّبَعَ قِبْلَةَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ كَانَ غَيْرَ مُتَّبِعٍ قِبْلَةَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى.

وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ إِظْهَارُ مُكَابَرَتِهِمْ تَأْيِيسًا مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَمِنْ قَوْلِهِ: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ تَنْزِيهُ النَّبِيءِ وَتَعْرِيضٌ لَهُمْ بِالْيَأْسِ من رُجُوع الْمُؤمنِينَ إِلَى

ص: 36

اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ تَأْنِيسٌ لِلنَّبِيءِ بِأَنَّ هَذَا دَأْبُهُمْ وَشِنْشِنَتُهُمْ مِنَ الْخِلَافِ فَقَدِيمًا خَالَفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي قِبْلَتِهِمْ حَتَّى خَالَفَتِ النَّصَارَى قِبْلَةَ الْيَهُودِ مَعَ أَنَّ شَرِيعَةَ الْيَهُودِ هِيَ أَصْلُ النَّصْرَانِيَّةِ.

وَجُمْلَةُ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْعَطْفِ بعد الْإِخْبَار بِأَنَّهُ لَا يُتَّبَعُ قِبْلَتُهُمْ زِيَادَةُ تَأْكِيدِ الْأَمْرِ

بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ التَّهَاوُنِ فِي ذَلِكَ بِحَيْثُ يُفْرَضُ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَوِ اتَّبَعَ أَهْوَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ لَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلِذَلِكَ كَانَ الْموقع لإن لِأَنَّ لَهَا مَوَاقِعَ الشَّكِّ وَالْفَرْضُ فِي وُقُوعِ الشَّرْطِ.

وَقَوْلُهُ: مِنَ الْعِلْمِ بَيَان لما جَاءَك أَي من بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ وَالَّذِي هُوَ الْعِلْمُ فَجَعَلَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ هُوَ الْعِلْمَ كُلَّهُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ.

وَالْأَهْوَاءُ جَمْعُ هَوًى وَهُوَ الْحُبُّ الْبَلِيغُ بِحَيْثُ يَقْتَضِي طَلَبَ حُصُولِ الشَّيْءِ الْمَحْبُوبِ وَلَوْ بِحُصُولِ ضُرٍّ لِمُحَصِّلِهِ، فَلِذَلِكَ غَلَبَ إِطْلَاقُ الْهَوَى عَلَى حُبٍّ لَا يَقْتَضِيهِ الرُّشْدُ وَلَا الْعَقْلُ وَمِنْ ثَمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْعِشْقِ، وَشَاعَ إِطْلَاقُ الْهَوَى فِي الْقُرْآنِ عَلَى عَقِيدَةِ الضَّلَالِ وَمِنْ ثَمَّ سَمَّى عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ أَهْلَ الْعَقَائِدِ الْمُنْحَرِفَةِ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ.

وَقَدْ بُولِغَ فِي هَذَا التَّحْذِيرِ بِاشْتِمَالِ مَجْمُوعِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ عَلَى عِدَّةِ مُؤَكِّدَاتٍ أَوْمَأَ إِلَيْهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَفَصَّلَهَا صَاحِبُ «الْكَشْفِ» إِلَى عَشْرَةٍ وَهِيَ: الْقَسَمُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِاللَّامِ، وَاللَّامُ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ لِأَنَّهَا تَزِيدُ الْقَسَمَ تَأْكِيدًا، وَحَرْفُ التَّوْكِيدِ فِي جُمْلَةِ الْجَزَاءِ، وَلَامُ الِابْتِدَاءِ فِي خَبَرِهَا، وَاسْمِيَّةُ الْجُمْلَةِ، وَجَعْلُ حَرْفِ الشَّرْطِ الْحَرْفَ الدَّالَّ عَلَى الشَّكِّ وَهُوَ (إِنِ) الْمُقْتَضِي إِنَّ أَقَلَّ جُزْءٍ مِنَ اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ كَافٍ فِي الظُّلْمِ، وَالْإِتْيَانُ بِإِذَنِ الدَّالَّةِ عَلَى الْجَزَائِيَّةِ فَإِنَّهَا أَكَّدَتْ رَبْطَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ، وَالْإِجْمَالُ ثُمَّ التَّفْصِيلُ فِي قَوْلِهِ: مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ وَالِاهْتِمَامُ بِالْوَازِعِ يَؤُولُ إِلَى تَحْقِيقِ الْعِقَابِ عَلَى الِارْتِكَابِ لِانْقِطَاعِ الْعُذْرِ، وَجَعْلِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ هُوَ نَفْسَ الْعِلْمِ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي الظَّالِمِينَ الدَّالُّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الْمَعْهُودِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِينَ هُوَ لَهُمْ سَجِيَّةٌ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلَّ مَا يَؤُولُ إِلَى تَحْقِيقِ الرَّبْطِ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَالشَّرْطِ أَوْ تَحْقِيقِ سَبَبِهِ

ص: 37

أَوْ تَحْقِيقِ حُصُولِ الْجَزَاءِ أَوْ تَهْوِيلِ بَعْضِ مُتَعَلِّقَاتِهِ، كُلُّ ذَلِكَ يُؤَكِّدُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لِأَجْلِهِ الشَّرْطُ.

وَالتَّعْبِيرُ بِالْعِلْمِ هُنَا عَنِ الْوَحْيِ وَالْيَقِينِ الْإِلَهِيِّ إِعْلَانٌ بِتَنْوِيهِ شَأْنِ الْعِلْمِ وَلَفْتٌ لِعُقُولِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَيْهِ لِمَا يَتَكَرَّرُ مِنْ لَفْظِهِ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ.

وَقَوْلُهُ: لَمِنَ الظَّالِمِينَ أَقْوَى دلَالَة على الانصاف بِالظُّلْمِ مِنْ إِنَّك لظَالِم كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْبَقَرَة: 67] .

وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الظَّالِمُونَ أَنْفُسَهُمْ وَلِلظُّلْمِ مَرَاتِبُ دَخَلَتْ كُلُّهَا تَحْتَ هَذَا الْوَصْفِ

وَالسَّامِعُ يَعْلَمُ إِرْجَاعَ كُلِّ ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ إِلَى ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ ظُلْمِ النَّفْسِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى عَقَائِدِهِمُ الضَّالَّةِ فَيَنْتَهِي ظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ الْمُلْقِي فِي خَالِدِ الْعَذَابِ.

قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ إِنَّ قَرِيبًا مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [الْبَقَرَة: 120] فَعَبَّرَ هُنَالِكَ بَاسْمِ الْمَوْصُولِ (الَّذِي) وَعَبَّرَ هَنَا بَاسْمِ الْمَوْصُولِ (مَا) ، وَقَالَ هُنَالِكَ «بَعْدَ» وَقَالَ هُنَا «مِنْ بَعْدِ» ، وَجَعَلَ جَزَاءَ الشَّرْطِ هُنَالِكَ انْتِفَاءَ وَلِيٍّ وَنَصِيرٍ، وَجَعَلَ الْجَزَاءَ هُنَا أَنْ يَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَقَدْ أَوْرَدَ هَذَا السُّؤَالَ صَاحِبُ «دُرَّةُ التَّنْزِيلِ وَغُرَّةُ التَّأْوِيلِ» (1) وَحَاوَلَ إِبْدَاءَ خُصُوصِيَّاتٍ تُفَرِّقُ بَيْنَ مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْآيَتَانِ وَلَمْ يَأْتِ بِمَا يَشْفِي، وَالَّذِي يُرْشِدُ إِلَيْهِ كَلَامُهُ أَنْ نَقُولَ إِنَّ (الَّذِي) وَ (مَا) وَإِنْ كَانَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي أَنَّهُمَا اسْمَا مَوْصُولٍ إِلَّا أَنَّهُمَا الْأَصْلُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمَوْصُولَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ الَّذِي جَاءَ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم فِي غَرَضِ الْآيَةِ الْأُولَى هُوَ الْعِلْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِأَصْلِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَبِبُطْلَانِ مِلَّةِ الْيَهُودِ وَمِلَّةِ النَّصَارَى بَعْدَ النَّسْخِ، وَبِإِثْبَاتِ عِنَادِ الْفَرِيقَيْنِ فِي صِحَّةِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ [الْبَقَرَة: 116]- إِلَى قَوْلِهِ- قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى [الْبَقَرَة: 120] ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْعِلْمُ الَّذِي جَاءَ فِي ذَلِكَ هُوَ أَصْرَحَ الْعِلْمِ وَأَقْدَمَهُ، وَكَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الصَّرِيحِ فِي التَّعْرِيفِ.

وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِإِبْطَالِ قِبْلَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّهَا مَسْبُوقَةٌ بِبَيَانِ ذَلِكَ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [الْبَقَرَة: 142] وَذَلِكَ تَشْرِيعٌ فَرْعِيٌّ فَالتَّحْذِيرُ الْوَاقِعُ بَعْدَهُ تَحْذِيرٌ مِنَ اتِّبَاعِ الْفَرِيقَيْنِ فِي أَمْرِ

(1) وَهُوَ الإِمَام فَخر الدَّين الرَّازِيّ المتوفي سنة (606 هـ) . تكلم فِيهِ على الْآيَات المتكررة بالكلمات المتفقة والمختلفة الَّتِي يقْصد الْمُلْحِدُونَ التطلاق مِنْهَا إِلَى عيبها، وَأجَاب عَنْهَا.

ص: 38